مجلة الرسالة/العدد 515/الحديث ذو شجون
→ السياسة التوجيهية العلمية | مجلة الرسالة - العدد 515 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 17 - 05 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
تجميل القاهرة - قطار بور سعيد - قطار الديزل - القيظ في أسيوط - المدينة المهجورة - كلمة صريحة إلى أهل أسيوط
تجميل القاهرة
المعروف أن رجال الهندسة لا يرون من حق رجال الأدب أن يتحدثوا في شؤون هي في الأصل من أعمال المهندسين، ولكني مع ذلك سأسوق ملاحظة تبين أن تخطيط المدن يقوم على قواعد ذوقية قبل أن يقوم على قواعد هندسية، إن جاز الفصل بين الهندسة والذوق!
هل سمعتم حديث (نفق شبرا) وقد انتظرناه عدداً من السنين؟
لا أدري كيف سمحنا بأن ننفق في إنشائه ألوفاً مؤلفة من الدنانير، ثم تكون النتيجة أن يبقى جسر شبرا في حالة لا تريح من يسيرون على الأقدام، لأنهم مضطرون إلى استعمال تلك السلالم المتعبة في الذهاب والإياب، بغض النظر عن المتاعب التي يتعرض لها من يريد ركوب ترام شبرا وهو في ميدان باب الحديد
منشأ هذه المضجرات أننا أردنا أن تكون محطة القاهرة محطة واحدة، وكان يجب أن تكون فيها محطة لقطارات الشمال ومحطة لقطارات الجنوب، ولو فعلنا ذلك لظفرت القاهرة بميدان جديد، ولكان من السهل أن تُرفع متاعب من يتجهون إلى شبرا، وهي اليوم منطقة تموج موجاً بالسكان، وستكون مصدر نشاط صناعي واقتصادي في المستقبل القريب
يجب أن نبادر إلى رفع جسر شبرا، وأن نفصل محطة الشمال عن محطة الجنوب، وهذا لا يمنع من بقاء الطريق الذي تمر به قطارات البضائع، وهي قليلة العدد، وأغلبها يمر بالليل، فلا يعرقل حركة المرور إلا في لحظات لا يُحسب لها حساب.
لقاء القاهرة
خطر في البال هذا الخاطر وأنا أمتطي قطار الديزل إلى الصعيد في عصرية الخميس الماضي، ثم خطر في البال أيضاً ما تعاني المنطقة التي يمر فيها قطار الصعيد بين باب الحديد وجسر امبابة، وهي منطقة لا تقع فيها العين على منظر جميل، لأنها م بولاق، وكان الظن أن نفهم أنها أول ما يرى القادم على القاهرة من ناحية الصعيد
منذ ثلاث سنين كتبت كلمة في مجلة الرسالة أدعو فيها إلى تجميل مدخل القاهرة في نظر القادم من الإسكندرية أو بور سعيد فما استمع مستمع ولا استجاب مستجيب، وأنا اليوم أعجب من أن تبقى منطقة بولاق على ما كانت عليه قبل التمدن الحديث، مع أن لبولاق تاريخاً من أعظم التواريخ، فهي التي أنشأت المدافع لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وفيها أقيمت أول مطبعة لإحياء المؤلفات العربية والإسلامية. وهل في العرب من لا يدين لمطبعة بولاق، ولو كان في أقاصي الصين؟
قطار بور سعيد
الواقع أننا لا نفكر في خلق الجاذبية في صدور من يفد على الديار المصرية. . . هل تعرفون شيئاً عن قطار بور سعيد؟
وهل تصدقون أن أجرة الباخرة من مارسيليا إلى الإسكندرية أرخص من أجرة المثل في السفر من مارسيليا إلى بور سعيد؟
لذلك أسباب، ولكني أحب أن أجعل قطار بور سعيد من أهم الأسباب
هو قطار سخيف، وهو لسخفه يجهل أنه يقاسي زوابع الصحراء نحو ساعتين، فليس بالدرجة الثانية ستائر تمنع هجوم الرمل والتراب. أما الدرجة الثانية فطعام ركابها عجاج في عجاج. . ويا ويل من يركب قطار بور سعيد وهو خفيف الجيب!
وبهذه المناسبة أذكر أن الدرجة الثانية بقطار الصعيد ليس فيها مراوح، فماذا يصنع الركاب في وهج الصيف، إذا كتب عليهم أن يصطلوا القيظ بين الأقصر وأسوان؟
شيئاً من الرحمة، يا مدير سكك الحديد، فقد سمعت أنك من الرحماء؟
وما حال المقصف الذي يوجد في بعض القطارات لا كل القطارات؟
هو محرم على ركاب الدرجة الثالثة تحريماً قاطعاً، وقد يكون فيهم من يحتاج إلى تناول الطعام في مكان مريح ليدفع مشقة السفر وهو قطعة من العذاب
يا ناس، يا ناس، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!
قطار الديزل سمي باسم المخترع وهو ألماني الأصل، وليس بقطار الديزل مقصف، مع أنه خاص بركاب الدرجة الأولى والثانية، ومع أنه لا يقف إلا في محطات قليلة، وهو حين يقف لا يتمكث غير دقيقة أو دقيقتين
بهذا القطار حنفية تجود بالماء لمن يقبل الجود من الأشحاء، وما قيمة الجود بماء لم يسمع بأخبار الثلج، ولا يعرف الطريق إلى تنسم الهواء؟
جرّبوا السفر بهذا القطار بعد الظهر في مثل هذه الأيام وفي طريق الصعيد، لتعرفوا كيف يبخل القطار على ضيوفه الأعزاء بكمية من الماء المثلوج لا تتكلف خمسة قروش
وقف الديزل في محطة بني سويف، فتصايح الركاب يطلبون من الباعة إمدادهم بأكواب الليمون، ليبتلعوها في مثل ومضة البرق، ويقوم القطار قبل أن يتناول المسافرون ما يخفف وقدة الظمأ، وبعد لحظات يقف القطار، وننظر فنعرف أنه وقف إكراماً لصاحب (بوفيه المحطة) وكان بقي في القطار إلى أن يتسلم ما له عند المسافرين من نقود!
فما الذي يمنع من أن يقف القطار بالمحطة نحو ثلاث أو خمس دقائق، ليستغني عن هذا التلطف في معاملة صاحب البوفيه، وليضمن راحة المسافرين من بعض هذا العناء؟
أيكون من الصعب إمداد ثلاجة القطار بزادها من الثلج، ولو بإضافة زيادة على أثمان التذاكر؟
أما بعد فهذه شؤون تبدو من التوافه في نظر بعض الناس، ولكنها شؤون على جانب من الأهمية، والاهتمام بها قد يغيّر ما درجنا عليه من الغفلة عن تذوق الحياة
وهل كان البدوي الذي يعاني متاعب السفر في البيداء أشقى من الحضري الذي يمتطي قطار الديزل، وهو على ما وصفت؟
لقد ظمئت بهذا القطار ظمأ لم أشعر بمثله وأنا أخترق البادية من دمشق إلى بغداد، لأن مطية نيرن تفكر فيما لا تفكر فيه مطية ديزل، ولأن الشركات تصنع في ملاطفة الزبائن ما لا تصنع الحكومات. . . وما أحب أن أزيد!
القيظ في أسيوط
دخلت أسيوط وقد انتصف الليل أو كاد، فرأيتها في حال من القيظ لا تطاق، فماذا صنعت الأيام بجو هذه المدينة الفيحاء؟
إنها بعيدة من النيل بعض البعد، فكيف أنشئت على هذا الوضع، وما كان لمدينة مصرية أن تُنشأ إلا على ضفاف النيل؟
كانت أسيوط في الأصل على شاطئ نهر يجاورها من الغرب، نهر يساير الجبل من الجنوب إلى الشمال، وقد انطمر هذا النهر، ولم يبق ما يدل عليه غير بقايا من قناطر محطمة كان لها شأن فيما سلف من الزمان
وكان بأسيوط برك واسعة، كالبرك التي كانت بالقاهرة، من أمثال بركة الأزبكية وبركة الرطلي وبركة الفيل
والبركة كانت كلمة مقبولة في الأيام الخوالي، ولها في أشعار البحتري مكان، وقد أخذتها اللغة الأسبانية عن اللغة العربية، وابتذال هذه الكلمة جديد في حياتها اللغوية، فهي اليوم ترادف كلمة المستنقع، ومن هنا قيل (بطينة ولا غسيل البرك)
البركة قديماً هي البحيرة، والبحيرة تصغير بحرة مؤنث بحر، والبحر في أصل اللغة هو مجتمع الماء الغزير، بغض النظر عن العذوبة والملوحة، فما يخطئ المصريون في تسمية النيل بحراً، مع أنه عذب لا أجاج
وأقول إن البرك التي كانت بالقاهرة وأسيوط هي بحيرات، فقد كانت تأخذ مددها من النيل في أيام الفيضان، ثم يبرك فيها الماء بعد انحسار الفيضان، فهي بركة من أجل هذا، إن صح هذا التخريج، وهو صحيح
كانت برك القاهرة كثيرة المنافع، فقد كانت مجالاً لنزهات الأصيل والعشيات في السفائن اللطيفة، وكانت منادح لتوالد الأسماك. وكتلك كانت برك أسيوط، وإن لم يسجل الأسيوطيون بركهم في الأشعار كما صنع القاهريون
والذي يهمني في هذا المقام هو النص على أن برك أسيوط طُمرت كما طُمر النهر الذي كان يساير الجبل، وهذا من أسباب عنف القيظ في أسيوط
لقد حاول عبد السلام الشاذلي باشا تحويل تلك البرك إلى حدائق فتم له ما أراد في بركة واحدة، وبقيت البرك الأخرى في حال من الجفاف تزيد وقدة القيظ
أنا أعرف أن من العسير نقل أسيوط إلى شاطئ النيل في سنة أو سنوات، فلم يبق إلا أن نقترح المبادرة إلى تزويدها بالحدائق الكثيرة ليخف عذابها بلوافح الصيف
المدينة المهجورة
هي مدينة أسيوط فقد زهد فيها كبار أهليها من المسلمين والأقباط، وكادت تفقد اللقب الذي يجعلها عاصمة الصعيد
ومن يصدّق أن أسيوط كانت قبل عشرين سنة أنضر مما هي اليوم؟
ومن غريب ما لاحظت أن أسيوط أقل الحواضر المصرية مسايرة للحياة الأدبية، ولولا الرعاية لحق هذه المدينة لقلت إنها لا تعرف من مطبوعات القاهرة بعض ما تعرف دمشق أو بيروت أو بغداد.
هل تتغير هذه الحال بإنشاء الجامعة الثالثة جامعة أسيوط؟
إن الجلال السيوطي وهو أشهر من مجّد اسم أسيوط في العهد الإسلامي لم يتخذ هذه المدينة دار مقام في الحياة ولا بعد الممات، فهل كان يعرف زهدها في المجد العلمي والأدبي؟
كلمة صريحة إلى أهل أسيوط
في أسيوط وحدها يمر اليوم وأيام بلا مدد من الجرائد والمجلات، فكيف يقع ذلك ومدينة أسيوط هي الثالثة أو الرابعة بين كبريات المدائن المصرية؟
اتقوا الأدب في مدينة كان لها في الأدب تاريخ
عزيز على أن أقول في أسيوط كلاماً كالذي قلت، ولكن ماذا أصنع وأنا موقن بأنها أقل اهتماماً بالأدب من حواضر السودان، وبيننا وبينه أبعادٌ طوال؟
زكي مبارك