مجلة الرسالة/العدد 513/في التصوير الإسلامي
→ سليمان الحكيم | مجلة الرسالة - العدد 513 في التصوير الإسلامي [[مؤلف:|]] |
ابتسم للحياة ← |
بتاريخ: 03 - 05 - 1943 |
ليلى والمجنون
للدكتور محمد مصطفى
- 1 -
تقدمة
أحبّ قيس بن الملوّح ليلى العامرية، وبادلته الحب العفيف البريء، فلما فشا أمرهما حجبت عنه، فشق ذلك عليه، وجاء يخطبها إلى أبيها، فرفض أبوها أن يزوجه إياها، وزوجها غيره، فاشتد به الأمر، وحزن حزناً شديداً أفقده عقله، وقيل له: (المجنون) أو (مجنون بني عامر)، فكان لا يلبس ثوباً إلا خرقة، ولا يمشي إلا عارياً، ويلعب بالتراب، وهزل وطال شعر جسده، وهام في البرية مع الوحوش والظباء فألفته، وكان يشرب معها إذا وردت مناهلها، وهي لا تنفر منه، وظل هكذا حاله، يتغنى غرامه التعس، في أشعار جيدة رقيقة، إلى أن ماتت ليلى. . . فلحق بها
هذه قصة (ليلى والمجنون) مجردة من كل تنسيق وتنميق وتزويق، وهي قصة بسيطة. . . لا غريب فيها ولا عجيب. . . وهل هو غريب أو عجيب أن يعشق رجل امرأة، فيعبث به العشق ويودي بعقله وحياته. . . ولكن الذي يحيرنا حقاً أن تنال قصة قيس بن الملوّح وغرامه بليلى العامرية كل هذا الاهتمام بين القصص الغرامية الأخرى لشعراء العرب (العذريين) و (المحققين).
وليس يعنيني أن يكون شخص قيس بن الملوح تاريخياً أو غير تاريخي، وإنما الذي يعنيني أن هناك قصة غرامية هي قصة قيس بن الملوح. . . ولا يعنيني أن يشك بعض مؤرخي الأدب العربي في وجود المجنون، أو أن يبالغ البعض الآخر في إنكار وجوده، وإنما الذي يعنيني هو وجود (فن القصص الغرامي) عند العرب في القرن الأول للهجرة وتطوره حتى كاد يكون فنّاً مستقلاً على نحو ما نرى من فنون القصص الغرامي في الأدب الحديث، وأن يشق هذا الفن لنفسه طريقاً إلى الأدب الإيراني حيث تنال قصة (ليلى والمجنون) ما نالته من الحظوة في بلاد العرب، بل إنها تنفرد هنالك بأن ينظمها أكابر شعرائهم مثل نظ الكنجوي المتوفى في حدود سنة 600 هـ والأمير خسرو الدهلوي المتوفى سنة 725هـ، والشاعر الصوفي الكبير عبد الرحمن الجامي المتوفى سنة 898 هـ، وابن أخته هاتفي الجامي المتوفى سنة 918 هـ، والشاعر نامي من شعراء القرن الثاني عشر الهجري في عهد الملك نادر شاه، وغيرهم من شعراء إيران. ثم تنتقل هذه القصة أيضاً إلى الأدب التركي فينظمها من شعراء الترك نجاتي المتوفى سنة 914 هـ، وحمدي المتوفى في السنة نفسها، وفضولي المتوفى سنة 970هـ، وغيرهم. وأخيراً ينظمها شاعر مصر الكبير المرحوم أحمد شوقي بك في قصته (مجنون ليلى) وإننا لا نعجب إذا بحثنا في الأدب الأوربي أن نجد بعض الأثر لموضوع قصة ليلى والمجنون في القصص الغرامية الأوربية التي وضعت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، مثال ذلك قصة (تريستان وأيسولده) أو قصة (روميو وجوليت). لا سيما ونحن نعلم أن الآداب والفنون الأوربية في ذلك الوقت كانت متأثرة إلى حدّ ما بالآداب والفنون الإسلامية عن طريق صقلية وإيطاليا وإسبانيا.
أما سبب عشق المجنون (ليلى)، فهنالك روايات مختلفة، يجمع المجنون بينها في قوله:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا
ولكن المشهور ما رواه أبو عمرو الشيباني أن المجنون كان يهوى (ليلى) وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه، قال: ويدل على ذلك قوله:
تعلّقتُ ليلى وهي غرّ صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البَهْم يا ليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
واقتبس الشاعر نظامي الكنجوي هذه الرواية وحورها بما يناسب الحضارة الإيرانية في عصره، فاستبدل بالبادية والمواشي حجرة المكتب والكتب، وجعل المجنون يقابل ليلى في المدرسة وهما صغيران، ويتعارفان ثم يتحابان في أثناء الدراسة. واقتدى بنظامي الكنجوي في ذلك سائر شعراء الإيرانية والتركية الذين نظموا قصة (ليلى والمجنون).
وكانت هذه القصة أيضاً، موضوعاً محبباً لدى المصورين في جميع فروع الفن الإسلامي وجميع عصوره، فنرى صوراً كبيرة لتوضيح حوادثها في دواوين الشعر الإيرانية والهندية والتركية، وعلى السجاد والقاشاني وغير ذلك من الأشياء والأدوات، وتمثل هذه الصور المجنون هزيلاً ناحلاً، عارياً من الثياب إلا من غلالة صغيرة تستر عورته، ويحيط به بعض الظباء والوحوش.
وقد حاولت فيما أقصه هنا أن أوفق بين الروايات المختلفة العربية والإيرانية والتركية، وأن أوضح بعض حوادث القصة بما يسمح به المقام من الصور.
كان الملوح بن مزاحم يجلس إلى جانب زوجته وكل منهما واجم يفكر في شئون الحياة، فقد أوتيا الثروة والجاه وآلت إلى الملوح زعامة بطن من بطون بني عامر، فكان سيد القوم يتمتع بينهم بالهيبة والجلال والاحترام - ومع ذلك لم يكن لهما ولد يجلب إليهما البهجة والسرور فيلطف خُشونة حياتهما في الصحراء. ولكن من أين لهما هذا الولد وقد بلغا خريف الحياة، وكاد يشتعل رأساهما شيباً! فأخذ كل منهما يدعو الله تعالى أن يهب لهما من لدنه ولياً يرثهما ويخلفهما في رئاسة بيتهما وزعامة آلهما وقومهما، وأن يكون قلبه بعيداً عن البغضاء مفعماً بالحب، ليخفف عنهما صحبة بني عامر غلاظ الأكباد. وبينما هما في وجومهما مسترسلان، يتنازعهما الأمل واليأس، إذ تفتحت أمام أعينهما أبواب السماء، وانبثق منها نور غمرهما في غلالة من الرحمة والرضوان، وجعلهما يشعران بالسعادة والاطمئنان
واستجاب الله دعوات الزوجين الطيبين الصالحين ورزقهما صبياً جميلاً أسمياه قيسا، كان موضع إعجاب كل من رآه. وأقام الملوح على إرضاع ابنه وتغذيته وتربيته أبرع نساء الحي وأحذقهن في القيام بهذه الفنون، ونما الصبي وترعرع، وشب في كنف والديه، يعطفان عليه ويخصانه بأكبر قسط من حبهما ورعايتهما. ورزقا غيره ولكنه بقي أحب أخوته إلى قلبيهما
وفي (شكل 1) نرى منزل الملوح بن مزاحم، وقد شمله الطرب والسرور، واجتمع فيه الأهل والأصدقاء يحتفلون بمولد قيس الذي نراه في وسط الصورة في لفافة تحتضنه سيدة من سيدات العائلة وتمسح رأسه الصغير في عطف وحنان بخدها الأملس البض وهي تجلس به إلى جانب حجرة (الحريم) حيث جاء بعض السيدات لتهنئة والدته. وجلس الرجال على سجادة جميلة في الحديقة أمام سور المنزل يتزعمهم الملوح بلحيته البيضاء وهو على رأس الجالسين إلى اليسار، وقد جلس أمامهم أفراد فرقة موسيقية يعزف بعضهم بالمزمار، وواحد منهم يغني، وتقف إلى جانبهم راقصة تضرب على الدف. ونرى الخدم والجوار والعبيد وهم يروحون ويجيئون في أنحاء المنزل يحملون أطباق الطعام وصحون الحلوى. وقد راعى المصور في تصوير سحن الرجال وملابسهم أن تكون عربية لتتناسب مع القصة العربية الأصل. وهذه الصورة في مخطوط من المنظومات الخمس للأمير خسرو الدهلوي، مؤرخ سنة 890 هـ (485 م) وكانت الصور التي في هذا المخطوط تنسب إلى المصور الإيراني الشهير بهزاد لما فيها من ميزات أسلوب هذا المصور، كالدقة في رسم المباني وزخرفتها، وفي جزء الحديقة الظاهر إلى اليمين، والاهتمام البادي على سحن الأشخاص، ووجود العبد الأسود الواقف هنا في وسط الصورة إلى اليسار، وغير ذلك. ولكن يظهر أن هذه الصورة من تصوير أحد تلاميذ بهزاد. وهذا المخطوط محفوظ في مجموعة شستر بيتي بلندن.
(يتبع)
محمد مصطفى
مساعد في دار الآثار العربية