الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 513/أيها النيل!

مجلة الرسالة/العدد 513/أيها النيل!

بتاريخ: 03 - 05 - 1943


للأستاذ دريني خشبة

أيها النيل! يا أغنية الأزل! يا حابي العزيز! مالي كلما مررت بشاطئك طافت بي الأحلام، وازدحمت في روعي تهاويل الماضي، ولم أدر ما مسّ القُبل النحيلة التي تطبعها نسماتك على أفواف الزهر، وأفنان الدوح، وصفحة الماء، وخيال الشاعر، وجبين النوتي، وخدود العذارى؟!

ما لي أنسى جمال الصباح المفتر، والحدائق الضاحكة، ولازورد السماء الذائب في تبر الشمس، وأمواه الطبيعة المتبرجة، وعبير الربيع الفواح الذي يعطر جنباتك، ويتضوع فوق حفافيك، ويملأ ملاعبك بهجة، ويغازل الشعر والفن والجمال والحب. . . ما لي أنسى كل ذلك حينما تتصل روحي بروحك، وينبض قلبي بالذي ينبض به قلبك، فأحس كأنما ماؤك دموع حِرار تسكبها عيون الفراعنة، وكأنما قطراتك أحقاب المجد المؤثل التي حضّرت الدنيا، ومدينت الناس، وهدت القلوب الضالة إلى الله الحق، وسارت بموكب الإنسانية نحو النور المقدس الذي يهدي للرشد، وانتشلت العقول من غرائز الغابة بما أشاعت فيها من بينات الهدى والعرفان!

أيها النيل!

ما أروع ما يتغنى الزمان بنشيدك الخالد! هاهم أولاء الفراعين الصِّيد يهمسون فيهتز الوادي، ويطرب الكرنك، وتصحو منف، وترتجف أون، وتبسم أكاليل الغار على رؤوس القادة، وتصرخ الصقور والبُزاة: هوراس! هوراس!

فأين هو هوراس اليوم؟ إنه جريح مهيض الجناح، لأنه كما رأرأ بناظريه في سمائك يا نيل رأى بُزاةً لا تهتف بعظمتك، ولا تسبّح بحمدك ولا تقدس لك. . . بُزاة لا ترعى لك كرامة لأنها تعدك فريستها. . . فإذا أدار هوراس ناظريه إلى الأحفاد وجدهم مشغولين عنك بالعبث، منصرفين عن الجد في أمرك إلى اللهو ومتاع الغرور!

ما أروع ذكريات الصبا على ضفافك يا نيل؟

لقد كنا نجلس فوق حفافيك وفي يد كل منا سنارة يُداعب بها صغار أسماكك كلما طلعت شمس أو غابت ذُكاء. . . وما أنس لا أنس يوم مرت بنا إحدى بواخر شركة كوك للسياحة، فرأيت الدنيا تدور من حولي، ونظر إلى رفاق صباي فرأوا عبرة حزينة تترقرق في عيني. . . ثم تنهمر على صدري فتقف قريباً من قلبي الذي كان معها على ميعاد. . . لقد كان يخفق هو الآخر!. . . لقد ذكرت أسلافي صبية الفراعنة. . . صِبية مصر العظيمة الخالدة. . . يداعبون أسماكك يا نيل، فلا تمر بهم إحدى بواخر كوك للسياحة، تلك التي جرح مرآها كبريائي، وردت إليَّ طرفي وهو كسير حسير. . .!

لقد كان أبناء الفراعنة أولاد أمة كريمة لا يجسر الأجنبي على أن يحل بها إلا ضيفاً. . . أما أن يكون فيها سيداً ويتيه فوقك على بواخره الماخرات، فقد كنت تنقلب بحراً من الدماء يا نيل يقذف به إلى اليم، أو يُلقمه أفواه التماسيح

لهذا نسيت صيدي، ولمحني رفاق صباي أبكي. . . فلما وقفتهم على ما شجاني لم يلبثوا أن بكوا مثلي. . . وحطم كل منا سنارته، وقذف بها في أذيال هذا الثبج المنساب وراء باخرة كوك. وعدنا إلى القرية محزونين!

ما أجمل الخمائل التي تنشد فوق عدوتيك قصائد الورد يا نيل!

لله هذا الأيك الذي تغنى فيه حمائمك البيض بالنهار، ويرتل فيه الكروان أورادك بالليل!

فتنة! أنهرك فتنة! ولياليك فتنة! وأنهرك يلعب في سماواتها السبع أتون، ولياليك يرقص بين أنجمها خون! أتون الشمس المشرقة الضاحكة. وخون البدر السافر الطروب!

لقد كانت مصر المجيدة مشرقة ضاحكة كالشمس، سافرة طروباً كالبدر، وكان المصريون يتوقدون كما يتوقد النيران الشمس والقمر، وكانوا ينشدون في الدنيا كلها عبق ورودك يا نيل، ويتغنون لموكب الإنسانية نشيد إنشادك، وورد أورادك، وموكب الإنسانية من ورائهم يسير. فماذا دهى الدنيا؟ إن الشمس ما تزال تشرق، وإن القمر ما يفتأ يسكب لُجينه في واديك

لن أنسى أبداً تلك الليلة المقمرة في رحبات خوفو، وبين يدي أبي الهول، حينما كنت أنصت إلى تسبيح الأباء الصناديد يملأ الفيافي والبيد، وهتاف الأجداد الأمجاد، يدوي بين تلك الأوتاد. . .

لقد خيل إليّ أنني عدت القهقري لأعيش في هذا العصر بين أسلافي الأعزة، فذهبت بخيالي أول ما ذهبت إلى أقرب معبد فشهدت قومي يصلون لله ويقولون: (نحب الله والوطن والملك، نحب الحياة العزيزة ونحب العمل الخالص لوجه الله والوطن والملك. الله والوطن والملك في كل مكان وليس في المعبد فقط)

ثم ذهبت إلى أقرب بيت فوجدت في حديقته الصغيرة من ورودك يا نيل، وذهبت إلى البيت الذي يليه فشممت فيه عبير رياحينك، فتنقلت بين المنازل كلها فلم أجد واحدأً، واحداً فقط ليس له حديقة. وهنا ذكرت زهرة النيلوفر. زهرة اللوتس المقدسة، تلك الزهرة التي كانوا يبرزونها في كل شيء. في مبانيهم وفي ملابسهم وفي آنيتهم وفي سفائنهم. . . وحتى في مقابرهم. . . فذكرت أنهم كانوا دائماً يعيشون فيك، لأنك أصل الحياة ومصدر العيش وجالب الخير وصانع المدنية. لذلك هم يقدسونك ولا يدنسون عُدويتك بما يدنسها المصريون اليوم مما لا أسميه (!). . . ولا يلقون فيك الجيف والرمم. بل يحيونك بباقات الورد وأكاليل الرياحين وضفائر اللوتس. أليست بلادهم حديقة يا نيل؟ أليست مصر أينع حدائق الدنيا؟ إن الأمة التي لا تفهم سر الحديقة، ولا تعرف لغة الورد، هي أمة لا قلب لها يا سيد الأنهار

ثم ذهبت إلى دار ندوتهم فوجدت فيها ملأ يأتمرون. . . لم أسمع كلمة آثمة تقال يا نيل. . .! لقد أصغيت إليهم يمحصون خير هذه البلاد في أدب وهدوء. . . وفي وقار. . . لم أسمع مطلقاً كلمة لاغية يصيب بها مصري عرض مصري، ولم أر مصرياً يرمي مصرياً بالمروق، ولا بانتهاب مال الدولة، ولا باحتساب أقاربه وأصهاره، وإيثارهم بالمناصب والأعطيات. . . ولم أر واحداً منهم يحتكر الوطنية والإخلاص لمصر، ويسفه على معارضيه ويرسل لسانه فيهم، ويتهمهم بممالأة العدو. . . مما نستهين به اليوم، ونصنعه في غير مبالاة ولا اكتراث، كأنه من الهنات الهينات. لقد رأيتهم جميعاً كرماء على أنفسهم. . . لا يحمل أحدهم موجدة لأخيه، ولا يبطن له ما يكره. . . أليسوا يقولون في صلاتهم: (نحب الله والوطن والملك. . . نحب الحياة العزيزة ونحب العمل الخالص لوجه الله والوطن والملك. . . الله والوطن والملك في كل مكان. . . وليس في المعبد فقط!)

ما أجمل ما كانوا يأتمرون في غير سفاهة ولا مهاترة، في سبيل إسعادك يا نيل!

غير أنني استيقظت من أحلامي فجأة، لأن أحد رواد الأهرام عثر بي وانحطم كالبنيان الشاهق فوقي. . . فلما نهض ونظرت إليه. . . وجدته. . . أحد جنود الأنزاك! وعندما أدرت عيني. . . وقعتا على وجه أبي الهول. . . فرأيته يضحك عليَّ. . . ساخراً بي وبأحلامي. . . والذي أذهلني أنني رأيت شفتيه الغليظتين تنبسان. . . فأرهفت أذني. . . فسمعته يقول: (ألست تعلم أن هؤلاء الأنزاك قد جاءوا يدافعون عنك؟ لم لا تعتذر للجندي الباسل!)

إلا أنني لم أعتذر للجندي الباسل، ولم أصدع بما أمرني أبو الهول. وكانت هذه هي أول مرة يعصى فيه أمر للملك خفرع!

وأقسمت إن أنا أصبحت في برلمان مصر فلن أهاتر ولن أسفه، ولن أتهم زعيماً عظيماً بالمروق، ولن أخوض في عرض أحد من المصريين، ولن أفرغ لهذا العبث؛ وإن أنا أصبحت زعيماً فلن أحتكر الوطنية لنفسي، ولن تثيرني تخرصات السفهاء! أليس وجود هؤلاء الأنزاك كفيلاً بأن يشغلنا عن كل شيء؟ لماذا يجدُّ العالم ونهزل؟ لماذا تبكي الإنسانية ونعبث؟ لماذا لا نأخذ عبرتنا من أنهار الدماء التي ضرجت جنبات مصر نفسها؟ لماذا لا نصغي إلى همس الفراعنة؟ لماذا لا يفزعنا هديرك الصخاب يا نيل!

لقد كنا نتعلم في المدارس أن تلال العرب وتلال لوبية تحميانك من رمال الصحراء يا نيل! والحمد لله، إنهما ما تزالان قائمتين بوظيفتهما التقليدية، وما تزال أنت دائباً على فطرتك التي فطرك الله عليها. . . تأتي بالزيادة في ميعادك فتأتي بالخير واليمن والبركات. . . قصة العنبرة السوداء والزبرجدة الخضراء التي رواها عمرو - إلى عمر - ما تزال تمثل على مسرحك إلى اليوم، كما كانت تمثل منذ آلاف السنين قبل عمرو وعمر. . . وما تزال المياه الحمراء تجري من الجنوب إلى الشمال فتنبت الحنطة والبقول وتهتز الخمائل ويُؤتي الأُكل

أفتحميك التلال يا نيل ولا نحميك، وتعطينا ولا نفديك، وتحفظ عهودنا ولا نحفظ لك عهداً، ويقصد بك السوء فلا نقف من حولك جنداً؟! لشدَّ ما كفرنا بغناء بلابلك، وشدو جداولك، وفيء خمائلك، وزلال سلسبيلك، وفيض نوالك، وعبق رياحينك. . . وبكل أياديك يا نيل!

كيف يخصب ثراك وتجدب قلوبنا؟ كيف ينبت الورد في واديك وينبت الشوك في نفوسنا! كيف تدب الحياة في مروجك ويتسرب الموت إلى أرواحنا؟

إن هذه خلائق الصحراء يا نيل! الصحراء. . . حيث الجدب والشوك والحسك. . .

الصحراء الغادرة التي لا تعرف الوفاء. . . الصحراء التي يصيبها الوابل ثم تجحده، لأنه يغور في قلبها الذي يشبه قلوبنا. . .

ما أشد عواصفها الهُوج. . . هذه التيهاء المضلة!!

ولكن. . . لا. . . إنها مهما بلغت من العنف فلن تبلغ ما بلغته عاصفتنا الهجوم من بأس. . .

لله يا نيل تلك المحنة الأخلاقية التي تمزق وحدتنا، وتمسح وطنيتنا، وتبعثر جهودنا، وتشعب أمرنا، وتزيد في وهننا، وتضحك الأمم علينا، وتُفرى الأعداء بنا، وتلبسُنا شيعاً وأحزاباً، وتذيق بعضنا بأس بعض!

أهكذا نستقبل الربيع في جنَّاتك يا نيل؟

أين فرعون المحتفل والكاهن الشادي والشعب المغنى!

أين البنود والأعلام؟ أين الشعراء والأقلام؟ أين العلماء الأعلام؟

أهكذا نستقبل الربيع بعواصفنا كما يستقبلنا بعواصفه؟ أهكذا لا نستطيع أن نتعلم درساً في الجد من المجزرة البشرية الماثلة؟ أإلى هذا الحد تعقم وطنيتنا يا نيل! أفي زحمة تلك الدموع التي تسكبها عيون اليتامى والمنكوبين في بولندة وروسيا والصين. . . نعبث فوق ضفافك هذا العبث يا نهرنا المقدس؟

يا رب!

تدارك اللهم هذه الأمة فلم شملها، وارأب صدعها، واحسم داءها، وسدَّ ثُلمتها، وأقم ما مال من أمرها، وأصلح بالها، وأقل عثرتها، وألهمها السداد منك، والتوجه إليك، والإيمان بك؛ فهذه محنة ليس لها إلا أنت. . . إن لم تتداركنا فمن يرحمنا؟ وإن غضبت علينا فمن لنا؟. . . اللهم فأصلح ذات بيننا فقد أعضل أمرنا، وبهظنا الخلاف حتى ساء حالنا. . . اللهم إن هؤلاء قومي قد ضلوا سبيلك الحق فردهم إليه، واستفزهم الشيطان بغروره فنجهم منه، وافتتنهم فلا تدعه يستحوذ عليهم. . . اللهم إلا تهدنا نضل، وإلا تنجنا نهلك؛ فهذِّب اللهم أعراقنا، وطهر أخلاقنا، فلا ملجأ لنا إلا إليك، ولا نعوذ إلا بك يا قريب!

أرأيت يا نيل إلى هذه الوحدانية الجميلة الهينة الحنيفية؟! أليست خيراً ألف مرة من أربابك القدامى المتفرقة؟ أوزوريس وإيزيس وولدهما هوراس! وهذه العصبة التي لا تنتهي. . .

ورع. . . وأمون. . . ثم أمون رع. . . بل الله الواحد الخلاق.

فما لنا نقدس لله الواحد وقلوبنا شتى؟!

ما لنا نعتصم بحبال من الشيطان ولا نعتصم بحبل من الله!

ما لنا تفرقنا وقد أمرنا الله أن نتحد؟

علام الخلف بيننا والوطن ما يزال جريحاً يهتف بنا وينادينا؟

هل يليق أن تكون الوطنية مغنماً ومغرماً والأقوياء يتطاحنون علينا؟

أرأيتم إلى فرنسا ماذا أصابها؟ إن آخر بطلين من أبنائها ما يزالان في شقاق. . .

فمن لك يا نيل. . .!

دريني خشبة