مجلة الرسالة/العدد 512/دفاع عن البلاغة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 512 دفاع عن البلاغة [[مؤلف:|]] |
الحديث ذو شجون ← |
بتاريخ: 26 - 04 - 1943 |
9 - دفاع عن البلاغة
الأسلوب
لعل ما عرضته عليك من إجمال القول في البلاغة كان توطئة لتفصيل
الكلام في الأسلوب. ذلك لأن الأسلوب هو مظهر الهندسة الروحية لهذه
الملكة النفسية، يبرزها للعيان، ويصل بينها وبين الأذهان، وينقل أثرها
المضمر إلى الأغراض المختلفة والغايات البعيدة. وكتب البلاغة في
لغتنا لم تُعن إلا بالجمل ومل يعرض لها في علم المعاني، وإلا بالصور
وما يتنوع منها في علم البيان؛ أما الأسلوب من حيث هو فكرة
وصورة معاً فقد سكتت عنه سكوت الجاهل به. وكان الظن بمن خلفوا
عبد القاهر وأبا هلال وابن الأثير أن يفطنوا إليه بعد ما دلوهم عليه
بذكرهم بعض خصائصه الفنية وصفاته اللفظية، وإن كان ما ذكروه من
ذلك جاء فطيراً لم يختمر، وخديجاً لم يكتمل، وشائعاً لم يحدد، ومشوشاً
لم يرتب؛ ولكنهم صُّموا عن تنبيه العسكري، وعموا عن توجيه
الجرجاني، ومضوا على نحائزهم الأعجمية يفلسفون النحو والبلاغة لا
لشيء غير الفهاهة والحذلقة. والأسلوب كما قال لهم ابن خلدون في
مقدمته: (لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو
وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التركيب
الذي هو وظيفة البلاغة والبيان. . . وإنما يرجع إلى صورة ذهنية
للتراكيب. . . وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب
وأشخاصها ويصيِّرها في الخيال كالقالب والمنوال، ثم ينتقي التراكيب
الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها فيه رصَّاً كم يفعله البناء في القالب والنساج في المنوال حتى يتسع بحصول
التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار
ملكة اللسان العربي فيه، فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به
وتوجد فيه على أنحاء مختلفة. . .) لذلك حسب المدفوعون بطبائعهم
عن موارد البلاغة من طول ما ثرثروا حول الجمل والصور في
عصور العجمة، أن الأسلوب سرد ألفاظ لا تسفر عن معنى، وحشد
أسجاع لا تؤدي إلى غرض
إذن ما هو الأسلوب؟ الأسلوب هو طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام. وهذه الطريقة فضلاً عن اختلافها في الكتَّاب والشعراء تختلف في الكاتب أو الشاعر نفسه باختلاف الفن الذي يعالجه، والموضوع الذي يكتبه، والشخص الذي يتكلم بلسانه أو يتكلم عنه. ولكن الأساليب مهما اختلفت باختلاف الأفراد، وتنوعت بتنوع الأغراض، فإنها تتسم جميعاً بسمات واحدة من عبقرية الأمة. ومنطق ذلك أن الصفات المشتركة في آحاد الأمة تتلاقى وتتجمع فتكوِّن خصائصها التي تميِّزها من سواها. وهذه الخصائص نفسها تنطبع في لغتها فتكون طرازاً عاماً في كل أسلوب
وعلى قدر ما تكون هذه الخصائص في الأمة تكون قابلية الأساليب فيها للاختلاف. فالصفات القومية في الأمة العربية كانت في جاهليتها شديدة الظهور والعموم حتى لم يكن بين صفات الفرد وصفات الجماعة إلا فروق لا تكاد تلحظ. ومن ثم تشابهت أساليب الشعر والخطابة في ذلك العصر فلا تستبين فروقها الدقيقة إلا للناقد البصير. ومن اختلف أسلوبه من الشعراء الجاهليين فقد اختلف لتغلب صفاته الخاصة، كأمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد. فلما جاء الإسلام أخذت هذه الفروق تتضح وتتباين حتى بلغت غايتها من ذلك في العصر العباسي حين صارت اللغة العربية لغة الإسلام، والأدب العربي أدب الشرق
والفنان العبقري هو وحده الذي يستطيع أن يغلِّب صفاته الخاصة على صفات قومه العامة فيتميز طابعه ويستقل أسلوبه. أما العاديون والمقلدون من حملة الرواسم وحفظة التعابير فتظل أساليبهم نسخاً منقولة عن الأصول العامة الموروثة لا يختلف بعضها عن بعض إلا بمقدار ما تختلف رسائل التجار وكتب الدواوين
وبهذه الصفات القومية العامة تميزت لغة من لغة، واختلف أدب عن أدب؛ فاللغات الشرقية في جملتها تتميز من الغربية بالزخرف والأبهة والانتفاخ والتبجيل والتهويل والصوفية؛ لأن شعوبها صبغوها بهذه الأصباغ من صفاتهم الخاصة. والفروق المعروفة بين الفرنسية في وضوحها ودقتها، وبين الإيطالية في رخاوتها ورقتها، وبين الإنجليزية في خشونتها وقوتها، هي نفسها الفروق بين أصحاب هذه الأمم الثلاث في أصل الجبلَّة وموروث الطبع
وكما تؤثر صفات الأمة في طبيعة اللغة، تؤثر طبيعة اللغة في أسلوب الكاتب؛ فاللغات التي اكتسبت من مدنية أهلها رقة اللفظ وأناقة العبارة، ومن شاعريتهم جمال الصور وروعة الأخيلة، تغنى الكاتب بموسيقاها وحلاها عن كد القريحة في ابتكار المعاني واستنباط الفكر. أما اللغات التي لم تؤتها الطبيعة حظاً موفوراً من سحر اللفظ وفتون الصياغة، فكتابها مضطرون إلى أن يعوضوا أساليبهم من ذلك، وجازة التعبير، ووزانة التفكير، ومدَّ القارئ بفيض من المعاني يشغله عن الفكر فيما فاته من جمال الأسلوب
واللغة العربية من النوع الأول، طبعها أهلها منذ القدم على موسقة الألفاظ، وتنويع المعاني بصور البيان، وتفويف الجمل بألوان البديع، لا فرق في ذلك بين بداوتها وحضارتها، ولا بين فصحاها وعاميتها، حتى اطمأن كثير من رجال القلم إلى أن يُعفوا طباعهم من جهد التفكير ويحاولوا امتلاك القلوب بروعة الأسلوب، فكانت المقالة أو القصيدة أشبه بالقطعة الموسيقية تخلب الأذن ولا يبلغ النفس والذهن منها غير رجع ضعيف. ومن هنا قرَّ في أكثر النفوس أن الأسلوب إنما يطلق على الجانب اللفظي من الكلام، حتى قال الأستاذ الرافعي طيب الله ذكره: (فصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، والأديب فكرة وأسلوبها) ففصل بين الفكرة والأسلوب، واعترف بالأسلوب للأديب وأنكره للعالم. ولعلِّي أوفق إلى تصحيح هذا الرأي فيما يلي من هذا الحديث.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات