مجلة الرسالة/العدد 510/على هامش أحلام شهرزاد
→ كيف نعلم أبناءنا؟ | مجلة الرسالة - العدد 510 على هامش أحلام شهرزاد [[مؤلف:|]] |
شاعر الغزل ← |
بتاريخ: 12 - 04 - 1943 |
3 - قضية اليوم
(القصر المسحور)
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (أرأيت إذن كيف مسخ صاحب (شهرزاد) تلك الصورة العلوية الفردوسية التي رسمها الكاتب العبقري الأول للمرأة الكاملة التي طبَّت لشهريار وعالجت اعوجاجه؟ وهل رأيت كيف أسلم جميع أبطاله للشيطان، فليس فيهم بطل رشيد!؟
فشهرزاد شهوانية مخادعة هلوك. . . وقمر يفتتن بجسدها البض ويراه في صورة إيزيس وعيني بيدبا الفيلسوف الهندي. . . ثم يقتل نفسه من أجل أنه رآها تخدعه عندما شهد العبد يخرج من مخبئه في مخدعها. . . وشهريار ينسى فحولته بل يتبدل بها فسولة عندما يضبط العبد نفسه في مخدعه فلا يثور ولا يتسخط ولا يفور دمه في رأسه، ولا يأمر برأس العبد ورأس شهرزاد، ولا تعود إليه جبلته القديمة المغرمة بسفك الدماء. . . ولماذا تعود تلك الجبلة وقد كلت حيلته في المرأة عامة، لأن المأساة بعينها تتجدد، ودورة الفلك تبدأ من حيث تعود، وتعود من حيث تبدأ. . . ثم هذا هو الجلاد يبيع سيفه أو يرهنه. . . وأبو ميسور يهذي من كثرة ما دخَّن القنب. . . والعبد يتسور الجدار إلى شهرزاد في فحمة الليل فلا تشبع منه ولا تريد أن تشبع منه. . . فهل رأيت بلاء في قصة كهذا البلاء؟ وهل اجتمعت لقصة عصبة من الأبطال المناكيد كهذه العصبة من الأبطال المناكيد؟
وهل يكفي في الاعتذار عن هذا أن يعترف المؤلف في (القصر المسحور) بقصوره، والتسليم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجد ويمعن في الجد، لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه؟ وهل يكفي أن يعترف ببعد الأمد أمامه حتى يصل إلى ترقية فنه وتجديده واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعاً؟. . . هل يكفي أن يعترف مؤلف شهرزاد بكل ذلك ليكون بمنجاة من النقد الذي يزيف أدبه مهما اعتذر له عميد الأدب العربي وشريكه في القصر المسحور، ومهما دافع عنه بوصف كونه أديباً له أن يبرز أبطاله في الصورة التي يراها، ومهما اعتذر له بوجوب حرية الرأي والدفاع عن حرية الرأي وتقديس حرية الرأي؟! على أن عميد الأدب قد احتاط للأمر، فلم يرسل هذا القول على عواهنه، بل كان حصيفاً حين قال في القصر المسحور (ص17) على لسان شهرزاد: (هو إذن هنا هذا الآثم!! ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد) وحين قال على لسانها أيضاً (ص21): (وسيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد) وحين قال على لسانها ولسان غيرها من أبطال مسرحيته ص57: (. . . كيف أعفو عن هذا الذي اتهمني فيما لا ترضى امرأة حقيرة أن تُتهم فيه.، فكيف بملكة كريمة مثلي متسلطة على القلوب خالدة على الأزمان. وقمر يقسم ما أضمر لمليكه غدراً ولا أدار في خلده شيئاً يستحي أن يظهره. والعبد - وويل لصاحبك من العبد - إنه ثائر فائر، إنه مرغ مزبد. إنه مبرق مرعد. إنه يريد أن يمزق صاحبك بأنيابه وأظافره. إنه لا يطيق التفكير في هذا الرجل الذي جعله صورة بشعة لأبشع ما يتسلط على العقول والأبدان، وهو يغريني ويحرضني، ويريد أن يضرم النار في قلبي، لولا أن قلبي أهدأ من أن تضطرم فيه النار. وهو يسألني كيف أترك الحياة لرجل صورني في هذه الضعة، وجعلني أهبط من أعلى عليين لأكلف بهذا المخلوق البشع الدنيء. . . والساحر يقسم ما سحر، والجلاد يقسم ما باع السيف لينفق ليلة هنية، وأبو ميسور يقسم ما أظلت حانته إثماً قط. . . حتى زاهدة تقسم ما عرفت سراً ولا سألت عنه ولا باحت به ولا اتخذت وسيلة إلى معرفته. . . فكل هؤلاء مغيظ محنق يلح على في أن أنتقم له، وأنتقم لنفسي من صديقك البائس المسكين. . . ومع أني كنت ضيقة به ساخطة عليه حين قرأت كتابه. . . الخ)
أرأيت إذن يا صاحبي كيف كان عميد الأدب العربي حاذقاً أشد الحذق حينما احتاط لنفسه وهو يدفع سخط الناقمين على مؤلف (شهرزاد)، فراح يبعث الطمأنينة على شهرزاد في نفوسهم ويعدهم برد شرف هذه الفتاة، وذلك بما قاله على لسانها في الصفحة السابعة عشرة والصفحة الحادية والعشرين والصفحة السابعة والخمسين من القصر المسحور. . . (ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد!). وسيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد!) إي والله؟. . . ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد. . . وقد بر العميد بما أكد. . . فكتب أحلام شهرزاد، التي يجد فيها صاحبه علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد. . . ولكن لهذا الحديث حينه، فخذ في حديث القصر المسحور.
ولكن ماذا في القصر المسحور من أقوال صاحب (شهرزاد) التي تؤكد رأيه في هذه الفتاة التي ظلمها، وفي أبطالها الذين ظلمهم كما ظلمها، والتي تؤكد آراءه المريبة في المرأة خاصة، وفي الناس بوجه عام؟! أقرأ إذن في الصحيفة الحادية عشرة بعد المائة هذا الجزء من الحوار مكتوباً بقلمه:
توفيق - دخلنا منطقة الكلام الفارغ الذي لا تحذقه غير المرأة
طه - (صائحاً): استغفر الله استغفر الله!
شهرزاد - (لطه) دعه! فإن عداوته للمرأة سوف تكلفه ما لا يطيق.
ثم ارجع إلى هذا الحوار لتسمع توفيقاً يقول: (إنه من فصيلة لا تغرد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار هناء ضائع!)
واقرأ بعد هذا في الصحيفة الثالثة والسبعين بعد المائة:
القاضي - ما أقوالك؟
شهريار - أقوالي: أن هذا قد قذفني بالباطل وافترى عليّ كذباً وزوّر واقعة لم تكن، فقد جعلني دّيوثاً، أدخل على شهرزاد فأجد عندها العبد فلا أقتله ولا أشرب من دمه!
توفيق - (مهتاجاً) كنت تريد أن أجعل منك قاتلاً سفاكاً يشرب الدماء؟ نعم، لقد آذيت وجرمت وأسأت إليك، إذ لم أجعلك كما كنت تريد مخلوقاً سخيفاً
ثم اقرأ في الصحيفة التي تليها هذا الحوار:
قمر - (وقد سأله القاضي عن أقواله) أقوالي يا سيدي القاضي: أن هذا المتهم قذفني وحط من قدري، فلقد جعلني أقتل نفسي من أجل امرأة، في الوقت الذي يخرج فيه العبد من مخدعها وينكشف لي إثمها ودنسها
وبعد. . . فالكلام الفارغ (في نظر توفيق) لا تحذقه غير المرأة. . . وعداوة توفيق للمرأة ستكلفه (باعترافه) ما لا يطيق. . . وتوفيق لا يحسن التغريد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار هناء ضائع. . . أي أنه رجل مظلم الطبع ذو مزاج سوداوي حالك منقبض متشائم. . . ومن هنا عداوته للمرأة وقلة ثقته بها. . . ومن هنا تجريحه لتلك الصورة التي افتن في خلقها لشهرزاد الخالدة الكاتب العبقري الأول القديم الخالد. . . ثم إن توفيقاً ينطق بنفسه شهرياراً ليشكو مما افترى عليه وزور، حينما جعله ديوثاً - وابحث أنت في المعاجم عن معناها لأن الرسالة أطهر من أن تحمل إليك معناها - وتوفيق مصمم على أن يظل شهريار ديوثاً مهما ثار، فهو يداعبه أمام القاضي بقوله إنه أخطأ إذ لم يجعله قاتلاً سفاكاً، ولو كان القتل في سبيل الشرف الرفيع الذي لا يسلم. . . حتى يراق على جوانبه الدم. . . في رأي المتنبي ورأي شهريار.
قالت فاتنة: فبماذا تملأ يديك من مذهب هذا الرجل إن أنت جمعت ما كتب في (شهرزاد) إلى ما كتب في (القصر المسحور)؟ إطمئن، فإنك تتأبى أن تملأهما بشيء. . . وكيف تملؤهما بما يصر عليه من هذا الحنث العظيم، والإصر الذي ليس وراءه إصر، مما يذيعه في الناس أنه مذهبه، وأنه معتقده، في شهرزاد التي يرمز بها للمرأة في كل زمان ومكان. . .
ومن هنا هذه المباهاة الطويلة العريضة بأنه عدو المرأة الذي لا يعترف لها بعفاف، ولا يأبه أن يُذال لها عرض، لأنها ليس لها عرض؛ والذي يفترض فيها الأنانية المطلقة لأنها لا تفكر إلا في خلاصها ولا يعنيها أن تهلك نساء العالمين ما دامت مستطيعة أن تكون بمنجاة من الهلاك، والتي تخاتل وتخدع وتجعل بيتها مأوى للعبيد الفُتاك الذين لا تشبع منهم ولا تريد أن تشبع منهم، وتؤثر أن يكون عبدها خسيساً غليظاً خشناً وضيعاً لأن هذه كلها مزايا تضاعف - في رأي السيد توفيق - من شهوة شهرزاد كما تضاعف من التذاذها.
لمن يكتب هؤلاء الناس؟!
وفي أي بلد يكتبون؟! وما هي حرية الرأي هذه التي يحض عليها عميد الأدب العربي لحماية هذا اللون الوضيع من ألوان الأدب والتي غلا في الحض عليها والحماسة لها في الصحيفة الثانية والسبعين والصحيفة السابعة بعد المائتين من القصر المسحور؟!
هذا كثير. . . هذا كثير جداً مهما احتفظ العميد لمن شاء أن ينقد هذا الضرب من ضروب الأدب أو ذاك. . . وما جدوى النقد بعد أن يتمكن (سل) هذا الأدب من صدور قرائه؟! وإذا كان عميد الأدب العربي قد أحس هذا الخطر ونبه إليه فكيف كان يرى - وأظنه ما زال يرى - أن النقد الأدبي كاف لتزييف هذا اللون المهلك من ألوان الأدب، الذي إذا قدر له أن ينتشر في بلد - أتى على أخلاق أهله وعرضه للانحلال والاضمحلال. نحن هنا لا نقسو على أحد، فمصر أعز علينا من ألف ألف كاتب، وهي في عصر الحديد والنار، في حاجة إلى أخلاق الحديد والنار، لا إلى الأخلاق المائعة الرخوة التي شاعت قبل الحرب الحاضرة في أوربا التعسة نتيجة للأدب المائع الرخو الذي سمم به الأدباء المنحطون أخلاق ذويهم فسمموا به كل شيء، وقضوا به على كل شيء. ونخشى أن تظن طائفة من القراء أننا نقصد إلى السب أو إلى ما يشبه السب حينما نذكر الأدباء المنحطين - كلا - ليس إلى السب قصدنا - ولكنا مخلصون جد مخلصين في إشفاقنا من أن يشبع الانحطاط في أدبنا الغض الحديث - والانحطاط مذهب من المذاهب الأدبية التي شاعت في أوربا بعد الحرب العظمى، فعصفت بأخلاقها وبدينها، ونشرت في ممالكها روح الرخاة والطراوة والاستهتار. ومن الإملال ضرب الأمثال فما تزال فرنسا بمأساتها الخلقية الدامية تنكأ القلوب لوعة عليها وأسى. وفرنسا هي البلد الذي كان يطلق لحرية الرأي العنان؛ فكان أحد الأدباء المنحطين إذا ضاقت به أرض بريطانيا، ولم تصرح له الحكومة البريطانية بطبع قصته الرخوة ولا ينشرها في المملكة أو في المستعمرات (أي والله في المستعمرات!) انطلق إلى فرنسا (بلد الحرية المطلقة) فطبع فيها كتابه؛ وقد يعيد فيه نظرة ثمة فيزيده رخاوة ويشيع فيه من الفاحشة ما يضمن له الذيوع والانتشار.
نحن نشفق إذن من الانحدار إلى مزالق الأدب المنحط لأننا فقراء إلى أدب القوة، وليس في الدنيا، في الوقت الحاضر، أمة هي أفقر إلى أدب القوة من هذه الأمة التي ذاعت فيها قصة شهرزاد بأبطالها المنحطين جميعاً. وبهذا العبد الأسود الخسيس الوضيع الذي لا تشبع منه شهرزاد ولا تريد أن تشبع منه.
قالت فاتنة: (وأكاد أنزلق بك يا صاحبي إلى الكلام في المذاهب الأدبية، مبعدة عن القصر المسحور. فإذا كان عميد الأدب العربي قد قالها قولة على لسان شهرزاد، هي، ليعلمن كيف تكون الكتابة عن شهرزاد. . . و. . . سيجد عندي علم ما لم يعلم من أمر شهرزاد. . . وقد جاء الوقت الذي بر فيه عميد الأدب العربي بما وعد، فأصدر قصته البارعة (أحلام شهرزاد) نافح فيها عن ذكاء المرأة وسموها وحسن مقاصدها، وجميل حدبها على الإنسانية وعملها المتصل على إسعادها. . . فإذا كان عميد الأدب العربي قد صنع هذا. . . أفيليق أن يتخرص الخراصون ويرجف المرجفون بأنه سرق من الأستاذ توفيق؟ وماذا - لا درّ درهم - سرق؟ إن طه لم ينحدر بالمرأة إلى البؤرة التي انحدر بها صاحبه إليها، بل هو قد ارتفع بها إلى أعلى عليين وهو في هذا كان مخلصاً لرأيه في المرأة حسن العقيدة في عفافها وسموها، وأنها مصدر السعادة في هذه الدنيا. . . فهو في الصحيفة السادسة والستين من القصر المسحور لا يتمنى ملكاً وسلطاناً كما كان المتنبي يتمنى ملكا وسلطانا، ولا يشتهي كما كان يشتهي ثروة وغنى، إنما يتمنى لقاء شهرزاد والاستمتاع بجوارها القريب (وأي ملك يشبه الخضوع لها ويعدل الإذعان لأمرها؟ وأي ثروة تشبه الشعور بأنه قريب منها ليس بينه وبين الغني الذي يمتع القلب والعقل إلا أن يتجه إليها فيسمع منها ويحسن قربها منه) وفي الصحيفة الثامنة والستين يقول هذه القولة المشجية: ثم أشار الفجر بإصبعه الوردية التي أريتها أنت يا سيدتي لضرير اليونان منذ ثلاثين قرناً، فإذا الليل الجاثم ينهزم، وإذا الشمس تقبل فتبسط الضوء والحياة على كل شيء وفي كل نفس - ولكني أظل محروماً ضوء الشمس وحياتها لأنك أنت الشمس والحياة. وفي الصحيفة الثانية والأربعين بعد المائة يقول: ماذا؟ تشكين في قوتك وتنكرين سلطانك وذكاءك، وأنت التي تمنح أمثالنا القوة والسلطان والذكاء؟ وفي الصحيفة الثالثة بعد المائتين يقول على لسانها أيضاً: لا أقف هذا الموقف لأدافع عن نفسي، فلست أعرف لأحد الحق في أن يتهمني بإثم مهما يكن، وأنا الحرية كلها، الحرية التي تشيع النشاط في العقول، وتذيع الحياة في القلوب وتبعث الحرارة في العواطف والمشاعر والأهواء. . .
هذا هو رأي طه في المرأة، وهو رأيه فيها من قديم، وهو رأيه الذي أذاع به في القصر المسحور كما أذاع به في أحلام شهرزاد، وهو ضد ما أذاع به توفيق الحكيم في معظم كتبه، بل في كل كتبه، بل في كل ما كتب. . .
قالت فاتنة: اذكر للناس يا صاحبي إذن أن مشروع أحلام شهرزاد مشروع قديم، وأنه كان وعداً موعوداً في القصر المسحور، وأنه قصد به إلى الدفاع عن المرأة والترفع بها عما وصمها به توفيق. . . فإذا أرجف المرجفون بأن زيداً سرق من عمرو فماذا يملك المرجفون ما داموا لا أحلام لهم، وما داموا يخلطون بين الفردوس وبين الجحيم، وبين الملاك وبين الشيطان الرجيم.
دريني خشبة