الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 510/ظاهرة جديدة في الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 510/ظاهرة جديدة في الأزهر

بتاريخ: 12 - 04 - 1943


للأستاذ محمد محمد المدني

انتهى العام الدراسي في الأزهر أو كاد، وانصرف الطلاب عن فصولهم إلى المذاكرة والإعداد لمرحلتهم المقبلة، وابتدأ الأساتذة فترة استجمامهم التي ألفوا أن ينعموا بها في كل عام إثر الدراسة وبين يدي الامتحان؛ أما أنا فقد عدت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: عدت من دراسة (علم الأصول) في كلية الشريعة بين طلاب عليّ كرام، أحبهم ويحبونني، وأفهمهم حق الفهم ويفهمونني، وأبثهم نصحي وإرشادي فيستمعون إلى نصحي وإرشادي. غايتهم العلم فهم عنه باحثون، وبغيتهم الحق فهم له مخلصون؛ لم تطرف عيونهم الدنيا، ولم تسد مسامعهم الشهوات. رجعت من هذا الجهاد الأصغر، بل من هذا الجهاد الحبيب إلى النفس الذي نجد فيه معاشر الأساتذة لذتنا، وننشد بالتعب فيه راحتنا، إلى جهاد من نوع آخر قد حف بالمكاره، وأحاطت به الأهوال والصعاب من كل جانب: عدت إلى (الرسالة) الغراء أبثها آلامي وآمالي، وأسجل على صفحاتها آرائي وأفكاري، وأتعرض بذلك لسخط الساخطين، ولوم اللائمين، وكيد الكائدين.

عدت إلى (الرسالة) اخطب على منبرها العالي قوما تناط بهم الآمال في إصلاح هذه الأمة، ويرجى منهم النهوض بما حملهم الله من أمانة حين جعلهم حملة هذه الشريعة

عدت إلى (الرسالة) أنادي قوماً يحسبون صيحاتي لهم صيحات عليهم، فيثقل عليهم نصحي إذا نصحت، ويُحفظ صدورهم نقدي إذا نقدت، وتهيم بهم الظنون في أمري إذا سكت، وتنطلق الوشاة بي من حولهم كما تنطلق الصلال الرقطاء في الرمال البيضاء، ينفثون سمومهم، وينشرون شكوكهم، ويقولون: هذا شاب مغرور بنفسه، متطفل على ما ليس من شأنه. ليس هذا بكاتب يصور قلمه ما يشعر به قلبه، إنما هو فتى يردد ما يسمع أو يعلَّم ما يقول. ليس هذا بناصح أمين، وإنما هو عدو مبين. . . قالات سوء يرجف بها المرجفون، ويمكر بها الماكرون حتى لتطيش منها أحلام ما عهدناها أن تطيش، وتفتر بالهُجر من القول شفاه لم تكن تفتر إلا عن الحكمة والموعظة الحسنة!

فاللهم عونا على هذا الجهاد. أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير!

انتهى العام الدراسي في الأزهر أو كاد. ولسنا ننظر إلى الأزهر كما ننظر إلى أي مع من معاهد التعليم فحسب، وإنما ننظر إلى الأزهر وينظر المسلمون جميعاً إليه على أنه الحصن الأخير الذي لم يبق سواه لشريعة الإسلام وثقافة الإسلام، فيجب أن نلتفت إليه في كل مناسبة، ويجب أن نهتم به في كل حركة، ويجب أن نتابع أخباره فلا يشغلنا عنها شيء.

وهاهو ذا قد أمضى اليوم عاماً من أعوامه الدراسية، فمن حق كل مسلم أن يعرض تاريخه في هذا العام، وأن يحاسبه على ما قدم أو أخر في شئونه الخاصة والعامة، ومن الحق على الأزهر أن يثبت لهذا العرض، ويصبر على هذا الحساب!

فما هو إذن تاريخ الأزهر في عام؟

لقد مضت قبل هذا العام أعوام كان الناس يتحدثون فيها عن أشياء كثيرة: كانوا يتحدثون عن (جماعة كبار العلماء) وما يرجى من نشاطها للقيام بواجبها. وكانوا يتحدثون عن (برنامج الإصلاح) الذي اقترح لها. وكانوا يتحدثون عن الكتب والمناهج الدراسية وما يرجى من إصلاحها وحسن الانتفاع بها. وكانوا يتحدثون عن المقررات التي يمضي العام ولا يقرأ منها إلا القليل. وكانوا يتحدثون عن نظام (المراقبة العامة) على التعليم العالي ولأي غرض أنشئت. وكانوا يتحدثون عن الفقه الإسلامي وواجب الأزهر في وصله بالحياة العامة وعرضه عرضاً يوافق روح العصر. وكانوا يتحدثون عن نظام التخصص وعيوبه التي ضج منها الطلاب وغير الطلاب. وكانوا يتحدثون عن مجلة الأزهر التي هي لسانه وعنوان ثقافته وأداة الدفاع عنه. وكانوا يتحدثون عن واجب الأزهر في الاتصال النافع بمراكز الثقافة وأندية العلم ولجان التشريع. وكانوا يتحدثون عن مكتبة الأزهر وكنوزها الدفينة التي كاد يأتي عليها البلى بعد أن أتى عليها النسيان. وكانوا يتحدثون عن رسائل الجماعة الموقرة، تلك الرسائل التي تكتب لتختبئ فلا تراها عين ولا تسمع بها أذن!

كانوا يتحدثون عن ذلك كله، وكانوا يتحدثون عن غيره مما لست أذكر الآن، وكانت (الرسالة) سجلاً واعياً لهذه الأحاديث، ولساناً ناطقاً بهذه الآمال، بل كان البرلمان بمجلسيه يتحدث عن بعض ذلك، ويتقدم أعضاؤه فيه بالأسئلة والاستجوابات، وترسل لجانه إلى مشيخة الأزهر بملاحظاتها على التعليم ومستواه، وعن (الأمثلة البادية العوار) التي لا ينبغي أن تبقى ماثلة تتأذى بها العيون. . . الخ. الخ.

كان ذلك كله في الأعوام الماضية، وكان أصحاب الرأي والنظر البعيد يعدونه بداءة طيبة للدعوة إلى نهوض الأزهر، فإن الأزهر إذا سمع الناس يتحدثون عنه، ورأى الناس يهتمون به، ووجد بعض أبنائه والمخلصين له يشاركون في هذه الأحاديث، ويلفتونه إلى هذا الاهتمام، لم يلبث أن يفكر في أمره كما يفكر الناس فيه، ويومئذ تجد دعوة الإصلاح من النفوس قبولاً، ومن الآذان إصغاء، فيتعاون على نجاحها الداعون والمدعوون على سواء.

وقد بدت في هذا العام تباشير تلك الخطوة الثانية في سبيل النهوض، وانتقلت أحاديث الإصلاح من ميدان (الرسالة) إلى ميدان آخر هو ميدان الرؤساء والعلماء والطلاب من أبناء الأزهر المخلصين: شعروا بأن الأزهر في حاجة إلى تكاتف الهمم، وتناصر العزائم، ورأوا تيار العلم في الجامعات الحديثة يوشك أن يكتسح الأزهر اكتساحاً، وعلموا أن الأمة قد تنبهت إلى ما تفعله كل طائفة من أبنائها، وأن الدولة قد أصبحت حريصة على أن تجعل دور العلم للعلم فقط، وأن الأزهر حين انحرف عن طريقه العلمي وانغمس في الحركات، وسُخر في سبيل الأهواء والنزعات، غض ذلك من مهابته، وجرأ الأصدقاء قبل الأعداء عليه، وأزال صيانة الذي كان ينبغي أن يبقى له. علم أبناء الأزهر المخلصون ذلك كله، وعلموا أن عليهم واجباً لمعهدهم العظيم ألا يقفوا منه موقفاً سلبياً، والعيون ترمقهم، والألسنة تتحدث عنهم، والأصابع تشير إليهم، فعقدوا العزم على أن يجعلوا من أنفسهم جنوداً للاصلاح، وخداماً مخلصين للأزهر حتى ينهض نهضته، ويسترد في العالم الإسلامي مكانته، ويعود إليه سابق مجده!

عقدوا العزم على أن يخلصوا للأزهر أكثر من إخلاصهم للأشخاص، ووطنوا أنفسهم على أن يكونوا صرحاء في الجهر بالعلة، أقوياء في المطالبة بالعلاج؛ وسرت هذه النزعة الجديدة في نفوسهم جميعاً: سرت في نفوس الشباب الأزهري كما تسري الحياة في الأزاهير الناشئة، وسرت إلى نفوس الشيوخ كما يسري الماء إلى الجذوع المتعطشة، بل سرت إلى الرؤساء المسئولين الذين يلون المناصب الكبرى في المعاهد والكليات، فأصبح هؤلاء جميعاً مؤمنين بها، متلاقين عندها، متناسين كل شيء من خلافاتهم في سبيلها!

ولست أقول هذا الكلام جزافاً، أو توسعاً في الآمال، فإن له لشواهد حاضرة، وآثاراً بادية، ربما تناولتها في مقالاتي الآتية تباعاً. وحسبي اليوم أن أقول للذين كانوا يظنون أن دعوة الإصلاح صرخة في واد، أو نفخة في رماد، وللذين كانوا يؤثرون اطراد الأمور على أي نسق كان ابتغاء الراحة والهدوء، ثم للذين بذروا البذر ولم يتعهدوه حتى ينبت:

إن الإصلاح لا يعرف الرجوع، ولا يعرف الركود. إنه كشعلة من نار يخفضها الخافضون فتأبى إلا ارتفاعاً. إن قوة الإيمان لا تغلب ولا يقاومها إلا مخذول. وإلى اللقاء في حديث بعد هذا الحديث.

محمد محمد المدني