مجلة الرسالة/العدد 51/في الأفق الدولي
→ بين العلم والأدب | مجلة الرسالة - العدد 51 في الأفق الدولي [[مؤلف:|]] |
صور من الحياة البائدة ← |
بتاريخ: 25 - 06 - 1934 |
جبهة أوربية جديدة
كان اعتراف دول الاتفاق الصغير بروسيا السوفيتية واجتماع السينور موسوليني والهر هتلر أهم الأحداث الدولية التي وقعت في الأسبوعين الأخيرين. وتوجد بين الحادثين صله وثيقة، وكلاهما يرجع إلى نفس البواعث والظروف التي تدفع أوربا اليوم إلى منحدر شديد الحلك. وقد بينا في مقال سابق في الرسالة أن التأريخ يعيد نفسه، وأن أوربا القديمة تعود فتبدو للعالم كما كانت قبل الحرب مسرحاً للتنافس الحربي وعقد المحالفات السرية، وتنظيم الجباه الخصيمة. وقد بدأت فرنسا مذ رأت تصميم ألمانيا على تسليح نفسها بتنظيم جبهه سياسية عسكرية تستطيع ان تعتمد عليها في مقاومة ألمانيا إذا ما نشبت بينهما الحرب؛ ولما كانت العلائق قد فترت بين ألمانيا وروسيا على أثر قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا وسحقه للحركة الديمقراطية ومجاهرته بخصومة روسيا السوفيتية، فقد رأت فرنسا أن تعود فتتقرب من روسيا وأن تحاول إحياء التحالف الذي كان معقوداً بينهما قبل الحرب ضد ألمانيا. فبعثت مسيو هريو رئيس الوزارة الأسبق إلى روسيا ليمهد السبيل لهذا التحالف، ورأت روسيا من جانبها أنها في حاجة لتوطيد مركزها بين الدول الغربية، وتأمين سلامة حدودها الأوربية لكي تستطيع التفرغ نوعاً لمقاومة الخطر الياباني في الشرق الأقصى، فرحبت بهذه الخطوة؛ واستمرت فرنسا في سعيها لتنظيم هذه الجبهة الشرقية ضد ألمانيا، حتى استطاعت أن تحمل دولتين من دول الاتفاق الصغير هما رومانيا وتشيكوسلوفاكيا على الاعتراف بروسيا السوفيتية تمهيداً لعقد التحالف بينهما وبين روسيا. وقد جاء اعتراف الدولتين بروسيا على أثر الزيارة التي قام بها مسيو بارتو وزير الخارجية الفرنسية لكل منهما. ونفوذ فرنسا في رومانيا وتشيكوسلوفاكيا معروف، وهو الذي يوجه سياستهما الخارجية منذ نهاية الحرب الكبرى. ونستطيع أن نقارن بين رحلة مسيو بارتو التي أسفرت عن التمهيد لهذا التحالف برحلة مسيو بوانكاريه التي قام بها قُبيل الحرب الكبرى في روسيا وما انتهت إليه من توثيق التحالف بين روسيَا وفرنسا.
اجتماع هتلر وموسوليني
وقد كان لهذه الحركة التي قامت بها فرنسا في تنظيم الجبهة الجديدة وقع عظيم في ألمان لأنها هي المقصودة بها قبل كل شيء. وقد شعرت ألمانيا الآن بخطر العزلة السياسية والاقتصادية التي انتهت إليها، وكان للسياسة الهتلرية وما أبدته من العنف وقصر النظر أكبر أثر فيها. ففي عام ونصف عام فقط، منذ قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا، فقدت ألمانيا كثيراً من عطف الرأي العالمي، وفقدت صداقة روسيا السوفيتية وما كانت تتمتع به فيها من مركز اقتصادي ممتاز، وأثار عنف السياسة الهتلرية عليها كثيراً من الأحقاد في النمسا وتشيكوسلوفاكيا، ودفعها بسرعة إلى طريق الخراب الاقتصادي. وقد شعر الهتلريون بخطورة المأزق الذي دفعوا إليه ألمانيا، ولم يجدوا قبلة يتجهون إليها اليوم في أوربا غير إيطاليا. والسياسة الإيطالية تشعر بعطف خاص نحو ألمانيا الهتلرية أولا لما بين الطغيان الفاشستي والطغيان الإيطالي من وجوه الشبه في الوسائل والغايات، وثانياً لاتفاق الرأي بينهما في بعض المسائل الخارجية مثل وجوب تنقيح معاهدة الصلح، وميثاق عصبة الأمم، وتسوية مسألة نزع السلاح على قاعدة المساواة بين الدول العظمى. هذا وإيطاليا تشعر نحو السياسة الفرنسية في القارة بغيرة شديدة وتتوجس من عواقبها ولاسيما في أوربا الوسطى، وتحقد على فرنسا لأنها تحول دون توسعها الاستعماري في أفريقية؛ والخلاصة أن هنالك أسبابا وبواعث كثيرة تجمع بين ألمانيا وإيطاليا في الظروف الحالية؛ وتقرب بينهما في الرأي والغايات.
تلك هي العوامل التي حملت هتلر زعيم الوطنية الاشتراكية الألمانية، وموسوليني زعيم الفاشستية على اللقاء بسرعة للبحث والتفاهم. وقد تم اللقاء بين الزعيمين في مدينة البندقية (فنيزيا) وأستمر يومي 14و15يونيه. ولم تذع تفاصيل شافية عما دار عليه البحث أو تقرر؛ ولكن المفهوم أنه تناول كل الوسائل الخطيرة التي تهم البلدين، وفي مقدمتها مسألة التوازن الأوربي، ومقاومة السياسة الفرنسية في تنظيم الجبهة الخصيمة، ومسالة نزع السلاح وعصبة الأمم، ومسألة استقلال النمسا وضمان السلم في أوربا الوسطى. وقد أفاضت الصحف الألمانية في أهمية هذا الاجتماع وخطورة أثره في مستقبل السياسة الأوربية؛ وكانت الصحف الإيطالية أكثر تحفظاً. ولا ريب في أهمية الاجتماع وخطورته؛ ولكنه من جهة أخرى دليل على خطورة المأزق الذي صارت إليه ألمانيا في ظل الوطنية الاشتراكية، وعلى جزعها من عواقب العزلة السياسية التي انتهت إليها، وشعورها بالحاجة إلى التعاون الخارجي.
(ع)