مجلة الرسالة/العدد 51/فولتير العظيم حتى بموته 1694 - 1778م
→ الإنسان الآلي | مجلة الرسالة - العدد 51 فولتير العظيم حتى بموته 1694 - 1778م [[مؤلف:|]] |
في الأدب الفرنسي ← |
بتاريخ: 25 - 06 - 1934 |
بقلم مهدي الجم الطرابلسي
ما أنا أول الذين يتحدثون إليك عن فولتير ولا آخرهم. بل أنا من هؤلاء الذين تلح على عواطفهم إشعاعات من أرواح العظماء فتبعثهم حينا راضين وآخر كارهين لينشروا ماضي هؤلاء العظماء ويتغنون بعبقريتهم ويسجلونهم في سجل الأفذاذ الخالدين.
أطل فولتير على الحياة سنة أربع وتسعين وستمائة وألف فشب ورأى من حوله فساد الحكومة والبيئة فعظم عند نفسه أن يرى أفراد الشعب يتضورون جوعاً والملك والحاكم ينزلون بهم أنواع العذاب عاتين جائرين. وكان كاتباً رائع الكتابة رائق الأسلوب قوي العارضة سيال القريحة سياسي المبدأ لاذع النقد. وكانت الصحف التي تنشر رسائله رائجة نافقه اكثر من غيرها، لان الشعب كان يُقبل على كل رسالة له أو كتاب فيطالعه، فتنشيه نغمة العبارات ولحن الأسلوب فيعيد مطالعته، فيؤثر في نفسه، فيهيج هياجاً شديداً، لأنه ضد الحكومة. وقد كان الشعب الباريسي يضمر لفولتير حباً شديداً حتى أضحت كلمته فوق كل كلمة، وأسمه فوق كل اسم، وحتى أضحى رسمه زينة، تحلى بها الأكاليل والمتاحف، وحتى أضحى الشعب يمحص كل كلمه من كلماته تمحيصاً ويعربها ويردها إلى اصلها مستمتعاً مغتبطاً بذلك.
وهكذا استأثر فولتير بقلوب أبناء وطنه وجعل من نفسه قائداً محبوباً يشير فيطاع. والشعب لم يقبل على فولتير ومؤلفات فولتير ولم يهتف له إلا لنقده الملك والملكة والبلاط وما فيه، النقد اللاذع الذي دعا الملك أن ينفيه من اجله.
كانت الكونت لدلنفيليه قد تكهن أن فولتير صديقه سيموت في الثلاثين من عمره، لكن فولتير الجبار لم يكن ممن يتأثرون بتنبؤات الكهنة والمنجمين، فأستمر لا يحيد عن سمته في النقد والفلسفة، ولما جاوز الثلاثين كان يداعب صديقه الكونت قائلاً: (لقد خدعتك أيها الصديق بثلاثين عاماً وخدعت نفسي بالباقي)
وأخيراً لم يرى الملك بداً من إخراجه عن فرنسا. وهكذا قضى فولتير حياته شريداً طريداً يتنقل من بروسيا إلى إنكلترا إلى غيرهما.
وقد قضى اكثر أيامه على ضفاف بحيرة جنيف في (فرني) وغيرهما حيث سالت نفس حنينا إلى وطنه، فرق أسلوبه كثيرا وبرعت ديباجه.
ألف فولتير من الكتب والقصص (محمداً، زاير، ميروب، عصر لويس السابع عشر، تأريخ شارلي الثاني عشر، كالديد، ميكروموكاس، زاديك، القاموس الفلسفي، ملاحظات على نظريات باسكال) وغير ذلك من المؤلفات التي جعل بعضها قصصاً تخيل وقائعها في بلدان شرقية وعصور خاليه، فقصته (زاديك) جعل وقائعها في بلاد فارس في عصور ما قبل الميلاد، فقارئها يرى من طرف خفي وظاهر ان فولتير ينتقد الملك والبلاط النقد الجارح الأليم.
لأضرب لك مثلاً في كتابه زاديك: - (زاديك شاب غني فيلسوف هجر المجتمع الخاطئ واعتزل في قصر له في البرية، فانه ليتجول يوماً في الغابة إذ مر به خصيان البلاط والحرس الملكي يسألونه متلهفين أريت كلب الملكة وحصان الملك؟ فيقول هي كلبة لا كلب، ولكن لم أرها، فيكبلونه إلى الحاكم فيحكم عليه بالجلد والنفي إلى سيبيريا فما يكاد يفعل حتى توجد الكلبة والحصان فيعفو عنه، ولكنه يحكم علية بغرامه قدرها أربعمائة من الذهب) وهكذا يريد فولتير أن ينقل البلاط وأن يقولَ إن الداخل فيه خاسر ما في ذلك شك، مدعياً كان أو مدعى عليه.
لقد كان منظر فولتير يدل على غير ما يختلج في نفسه، فقد كان الناظر إليه يحسبه سعيداً مغتبطاً، على حين أن فولتير قضى حياته بين عبرة مهراقة، وزفرة مصعدة، بدليل عبارات تقرأ في رسائله. وكان فولتير هزيلاً ناحلاً، وكثيراً ما كان يشكو ألماً في جسمه يقول ان الأطباء لم يهتدوا إليه بعد. فكان يئن في نفس، فتبدو انته على ثغره ابتسامة عذبة هادئة تجتذب إليه النفوس، وقد نعته، فكتور هوجو بالرجل الكئيب الباكي. وفولتير وان كان أكثر الشعب مناصراً له فقد كان له أعداء كثيرون يتسخطون عليه ويتبرمون بكتاباته النارية الحماسية التي كانت إحدى الشرارات الرئيسية التي أضرمت نار الثورة الكبرى من بعد. فكان هؤلاء السادة يجادلونه فلا يقف عن مجادلاتهم، ويغالبونه فلا يفتى عن مغالبتهم، وهو مع ذلك لم يهن، فهم ما كانوا ليزدادوا إلا موجدة عليه، وهو ما كان ليزداد إلا استهزاءً واستخفافاً بهم.
ولما مات لويس الخامس عشر وتربع على العرش لويس السادس عشر كان فولتير في منفاه، فاستأذن الملك الجديد العودة إلى وطنه فإذن له، ولكن بعد ان تهدده الملك وتوعده بالنفي والتشريد إن هو عاد سيرته الأولى. فعاد إلى باريس برفقته كاتبه الخاص. وكانت قد سبقته إليها زوجه والمدام دنس حفيدته التي كان يحبها كثيراً وصديقه المركيز دي فيلت ليعدوا المنزل ويهيئوا المستقر.
وفولتير إذا أتى باريس فقد أشرقت باريس وهب الناس كلهم هبة واحدة محللين فرحين. فلما أن أقبل كانت المحطة مزدحمة بالناس حتى لا مسير. وقد أخذ مخبرو الصحف يكتبون عنه الرسائل المسهبة الطويلة ويصفونه جزءاً جزءاً فقالوا انه اقبل وكان على رأسه قلنسوة أرجوانية صوفية. وانه كان مرتدياً برداء من الفرو المخطط، وانه زار صديقه الحميم القديم (دارجنتال) في شارع (اورسه)، وانه خرج بعد ذلك يقصد منزله، وان الأولاد الصغار إذا رأوا منظره الغريب أخذوا يهتفون بحياته ويصفقون، وانه لما انتهى إلى منزله اخذ الناس يفدون عليه أفواجاً فيستقبلهم بثياب المنزل معتذراً بمرضه.
وحقاً لقد امتلأ المنزل افناؤه وحجراته وأروقته بالناس من جميع الطبقات. فكان فولتير يبسم لهم ويستقبلهم بأحسن ما يستقبل مزور زائراً، وقد قيل انه لم يبق أحد في باريس إلا واقبل يهنئه بالعودة السالمة ويدعو له بطول العمر. وذلك مما دعاه أن يسن دستوراً للزيارة. فأمر حفيدتهأن تقيم في القاعة الكبرى ففعلت تستقبل الزائرين عوضاً عنه وتعتذر لهم بمرضه إلا العظماء منهم فقد كانت تقدمهم إليه فيجالسهم ساعة ثم يعود إلى غرفته يتسلى بالقراء والكتابة. وممن زاره منهم سفير إنكلترا وفرانكلن الشهير وغيرهما، لكن كان يستقبل الكل بثوب المنزل لا يخلعه إلا للنساء فقد كان يجهلن. فلما زارته الكونتيس دي باري لم يشأ أن يبدو إليها بهذا الثوب، فلم يقابلها اولاً، فرجته وألحت في الرجاء، ورجاه أصدقاؤه وألحوا في ذلك أيضاً أن يفعل فاقبل كارهاً متعثراً، فقال له من حوله انك تقول أن ثوب العقل خير من ثوب الجسد فماذا دهاك اليوم؟
ولقد كان الناس يجتمعون حول منزله كل يوم فلا يزالون يهتفون به حتى يخرج إلى النزهة فيركب عجلته فيزدحم الناس من حولها ويقبل بعض المتحمسين يدفعون الناس بمناكبهم يريدون أن يحملوا العجلة فلا يمتنعون حتى يرجوهم فولتير الامتناع شاكراً، لكن وا أسفاه! إن هذه الاستقبالات والمهرجانات أمرضته، ولا سيما حين سمع إن صديقه (لكن) قد قضى. ولقد كان مرضه انحباس البول، وتورم الرجلين، وقد منع طبيبه كل إنسان، وحال بينه وبين أصدقائه، فعكف فولتير في سريره يؤلف القصص ويكتب الرسائل، ويئن بين الحين والحين أنة لاشك سامعها، في أنها أنة عظيم.
عناية طبيب فولتير بفولتير وعنايته بنفسه بدت نتيجتها، فابل ونقه، وشرع يطبع روايته التي وضعها أثناء المرض وسماها - أرين - وقبل أن تعرض للتمثيل جهد فولتير جهداً عظيماً في تدريب الممثلين وتعليمهم إتقان ادوارهم، ولم تكن صحته قد عادت إليه كاملة، فرماه الكد والتبذل في سرية، فإذا الحمى تدور في جسمه، وهذا صداع شديد يهز جمجمته، وهذا ورمشديد في قدميه، وانحباس موجود في كليتيه، ثم هذا دم يخرج من رئتيه، ثم هاهو ذا يهذي ويصرخ الصرخات الداوية: وطبيبه لم يدر أصل الداء ومنبت العلة، فلجأ إلى الحكمة والدراية. فاستأجر ممرضة صبية جميلة أعجبت فولتير وسر بها كثيراً. أما الصحف فكانت تملأ أعمدتها في الحديث عنه، فإذا أكل فولتير دوى في أفق باريس إن فولتير أكل وإذا شرب فولتير قد شرب. ولم يزل الداء يلح به ويضعف من جسمه ومن حواسه حتى كاد لا يقدر أن يقرأ كتابا أو صحيفة ولا أن يستوي جالساً في سريره. لكن ماذا؟ ها هو ذا فولتير يصح وينشط فلا دم يبصق ولا قدم تتورم وها هو ذا الطبيب قد أذن له بأكل بيضة وقطعة من الخبز، وحسو كأس من الماء ومثلها من الخمر كل يوم. وإذا عادت إلى فولتير صحته فقد عادت إلى الناس المسرات والأفراح. وأما الأطباء فوقفوا وقفة الحائر أمام هذا المرض العجيب وسرعة شفائه. وكان تمثيل الرواية قد تأجل ليشهده فولتير بنفسه، فلما شفى حكم الأدباء والفلاسفة فيها فأعجبوا بها إعجاباً شديداً فمثلت، ولكن فولتير لم يشهد التمثيل فقد سقط مرة أخرى وخيف أن تكون السقطة الأخيرة الهائلة. فعاده الأطباء فوصفوا لبن اتانٍ يتناوله فشفى بعض الشيء، وخرج إلى متنزه الشانزلزيه بعربته، فالتف الناس من حولها هاتفين: ليعش فولتير! ليعش فولتير! وقد كان السعيد منهم من يحظى بشعرة من ردائه.
لكن مما يؤلم أن فولتير أمسى بعد ذلك هائج البال، فاسد الرأي فقد سأل ان يبدلوا الممرضة بأخرى غيرها قائلاً أنى استحي أن اخلع ثيابي أمام تلك الفاتنه، فأبدلت بأخرى. ولكن هاهو ذا المرض يطل عليه زائراً مرة اخرى، ولكن هاهو ذا الشفاء يأتيه عائداً ثانية.
أما الرواية (ارين) فقد مثلت ست مرات، وفي الأخيرة تجلت عظمة فولتير وكبر نفسه واضحين وقد شهدها فولتير، فلما انتهى التمثيل قام الشباب وجعلوا يتمسحون به ويلثمون يديه ويهتفون باسمه، ووصل إلى منزله تلك الليلة وما احسب أن أحداً وصل في الدنيا ليلاً إلى منزله وصوله.
أفاق الناس صباح 23 أيار من سنة ثماني وسبعين وسبعمائة وألف، فإذا هم يتحدثون أن فولتير قد تورمت قدماه وانحبس بوله واصبح يبصق أفلاذ كبده وانه لا يرجى له شفاء.
وحقاً لقد وقع فولتير هذه المرة ويأس طبيبه من نجاته، أعاده الماريشال ريشيليو، وصف له دواءً يدفع عنه الأرق فتناوله فولتير دفعة واحدة فتعقد داؤه وعز دواؤه.
أضحى فولتير بعد هذه السقطة فارغ الصبر ضيق الصدر، هلوع النفس متلكئ الجسم يسب من حوله، ويضرب ممرضته، ويجافى حفيدته، وينظر إلى الناس بغير العين التي كان ينظر بها إليهم وكان يصرخ بين الحين والحين صراخاً عظيماً احتار في تعليله الأطباء، ولم يعرفوا إلى شفائه من سبيل. وممرضته كلت وملت وأسلمته إلى يد القدر إلا قليلاً. وأشار عليه صيدلي أن ينشق الأفيون، ففعل دون أن يدري طبيبه. والأفيون أنامه إنامة طويلة استفاق بعدها فإذا معدته لا تهضم اللبن الرائب. ومر به جراح شهير يدعى (ترى) وفحص مثانته وكليتيه وتوصل بحيلته وحدة ذكاءه ان يفتح للبول طريقاً بواسطة أنبوب طبي. وارتفعت درجة حرارته بعد ذلك كثيراً فأرقدوه في الجليد فما أفادوا شيئاً!!
وا حسرتاه! لقد فقد فولتير عقله أو كاد! لقد أضحى يرجع إلى أحشائه من فيه ما يخرج من احشائه، فكانت حفيدته تبكي كثيراً وتقبل عليه وتقول: مسيو فولتير! مسيو فولتير! لقد كنت مثال النظافة فانظر إلى أية حال مؤلمة قد صرت.
ومن الأطباء الذين اعتنوا بفولتير كثيراً ترونشين طبيبه الخاص وبلوري وتياري. وقد بذل هؤلاء الأطباء الحكماء أقصى ما وهبوا من حيله وذكاء لشفائه، فخاب سعيهم وما ازدادوا إلا جهلاً بالداء. ودخلوا عليه ذات ليله فإذا هو حائل اللون، ازرق الشفتين متصلب اليدين والقدمين، فأخذوا يعالجونه ساعة حتى أفاق وقال: آه! دعوني أسير إلى ربي. ثم اخذ يصيح صياحاً شديداً تهتز له النفس، وتسيل له الأفئدةهولاً وجزعاً. فعلل أطباؤه صراخه بوجع شديد لا يعرفون مصدره، وخافت الممرضة إذ رأته على هذه الحال، وخاف الأطباء أيضاً ولبثوا حتى منتصف الليل يعالجونه وينضحون جسمه بالماء فما أفادوه. وفي تلك الساعة المظلمة فاضت نفساً عظيمة بعد أن سجلت آثارها في سجل الخلود.
قيل إن فولتير مات مسموماً وأن يداً لم تعرف بعد قد دست له السم، وقال الأطباء نعم لقد مات مسموماً، ولكن اليد التي دست له السم هي يد دائه.
حماه
مهدي الجم الطرابلسي