مجلة الرسالة/العدد 509/علوم اللغة العربية
→ الفرد والدولة | مجلة الرسالة - العدد 509 علوم اللغة العربية [[مؤلف:|]] |
على هامش (أحلام شهرزاد) ← |
بتاريخ: 05 - 04 - 1943 |
2 - علوم اللغة العربية
في المدارس الثانوية
للدكتور زكي مبارك
مشكلة المشكلات
هي مشكلة الصراحة في وزن الأمور التعليمية بالقسطاس وأنا مقبل على شرح تلك المشكلة بلا مبالاة ولا مداراة، فما يهمني أن يرضى فلان أو يغضب فلان، لأن المنافع الوقتية لا تهمني بشيء، ولأن الخطة التي اخترتها لحياتي هي خطة الصدق الصريح في جميع الشؤون.
أقول هذا وقد شاع بين جمهور المدرسين أن مفتشي التعليم الثانوي قرروا تقليل موضوعات الإنشاء
وأنل لن أعرض لتلك الإشاعة بنفي ولا إثبات، لأني لا أملك إعلان ما دار في اجتماع المفتشين إلا باحتراس، فما يجوز لرجل يشترك في إحدى اللجان أن يذيع مداولاتها بأي حال.
ولكن ما الموجب لطي تلك المداولات والجرائد تنشر تفاصيل ما يدور في مجلس الشيوخ ومجلس النواب؟
لو كان مقامي مقام المترفق لطويت أقوال زملائي، لأدفع عنهم تطاول المتطاولين من المتهاونين، ولكن مقامي مقام الثائر الذي لا يرضيه غير الظفر بأكبر نصيب من أنصبة النضال، فأنا أوذي نفسي ولا أوذي زملائي حين أعترض على الترفق بالمدرسين والتلاميذ.
بدعة مزعجة
هي بدعة التخفيف، تخفيف الواجبات المدرسية
وعندي كلمة سأقولها مرة واحدة ثم أسكت عنها إلى آخر الزمان.
سأقول إن في مصر ناساً يظنون أن تلاميذ المدارس الثانوية أطفال، وأن من الواجب أن تكون دروسهم هينات لينات، لأنهم أطفال! سأقول إن التخفيف يفضي إلى قلة الاهتمام، والاهتمام هو أساس كل تفوق. وقد صارت علوم اللغة العربية في المدارس الثانوية عرضة للتسهيلات والتخفيفات من عام إلى عام، بصورة توجب الانزعاج
لقد انعدم علم الصرف أو كاد ينعدم في المدارس المصرية، وصار من النادر أن نجد تلميذاً يعرف كيف ينتفع من المعاجم اللغوية.
ومضى التخفيف إلى النحو فحذف منه أبواباً كثيرة، وصار من النادر أيضاً أن نجد تلميذاً يفهم أسرار الإعراب
وانساق التخفيف إلى علوم البلاغة فهو يقص حواشيها بلا تردد، وقد نرى غداً من يقترح حذف تلك العلوم، بحجة أنها نشأت في بيئات أعجمية!
وقرر المفتشون في اجتماعهم الأخير حذف تاريخ الأدب، وكان يجب أن افرح لأني اقترحت ذلك منذ سنين، ولكن الطريقة التي احتجوا بها لذلك القرار قامت على القول بأن التلاميذ أضعف من أن يفهموا تاريخ الأدب لأنهم في حكم الأطفال!
والواقع أن تلاميذ المدارس الثانوية يسايرون من حيواتهم عهداً هو أخصب العهود، فيجب أن ننتفع بتلك الفرصة فنزودهم بالمعارف التي تسندهم في المستقبل، ويجب أن نخلق فيهم الشوق إلى جميع المعارف، وأن نجعلهم جنوداً سعداء بالجندية في ميدان التعليم والتثقيف.
قلت لزملائي: أنا أستطيع شرح أصعب معضلة أدبية أو فلسفية شرحاً يفهمه أضعف تلميذ، فلا تسيئوا الظنون باستعداد التلاميذ
فقال الأستاذ مختار يونس: لم أفهم شيئاً مما تقول
فقلت: لأني أوجزت في مقام يجب فيه الإطناب!
يجب أن نفهم أن الفرصة في أيدينا، وأن الشبان بين العاشرة والعشرين صالحون لفهم أصعب الدقائق. ويجب أن يكون في نيتنا جعل مرحلة التعليم الثانوي مرحلة حاسمة في تكوين عقول الشبان، بحيث لا يحتاجون إلى المعاهد العالية إلا إذا تساموا إلى الأستاذية في مختلف العلوم والفنون.
وأنا لا أعرف كيف قضينا أزماناً بلا فهم للمراد الصحيح من التعليم الثانوي، فهو عندنا إعداد للتعليم العالي، وكان يجب أن يكون إعداداً لخوض معترك الحياة بلا تهيب ولا إشفاق أنا أكره أن تدوم هذه الحال، وأحب أن يصير الشاب رجل أعمال بعد العشرين، وأتعجب من أن يعيش عالة على أبويه إلى الثلاثين
وأنا أتمنى أن يصبح التعليم العالي مقصوراً على من يملكون الوقت والمال، ولهؤلاء فرص لا يظفر بها غير آحاد أو مئات، وهم لن يكونوا أشرف من الشبان الذين يصارعون أمواج الحياة قبل العشرين.
مرحلة التعليم الثانوي هي الفرصة الحقيقية لتثقيف الشبان وتضييع هذه الفرصة إثم موبق
والكلمة لحضرات المدرسين، فماذا يقولون؟
من واجب كل مدرس أن يدرك أنه مسئول عن إعداد تلاميذه للحياة، بحيث لا يحتاجون إلى شيء بعد التعليم الثانوي، إلا أن يتساموا إلى الأستاذية، كما قلت قبل لحظات
وما هذه الأستاذية التي توجب أن يكون في معاهدنا العالية ألوف وألوف؟
نحن نخلق لأبنائنا متاعب ثقيلة بفضل هذه الأحلام، ونحن نصدهم عن الحياة بفضل هذه الأحلام، ونحن نجني عليهم جناية ستُسأل عنها يوم يقوم الحساب
مرحلة التعليم الثانوي هي المرحلة النهائية، ثم يلتفت الشاب إلى حاله فيكون رجل عمل في أي ميدان
والمدرس مسئول عن تحقيق هذا المعنى، ومن واجبه أن يهب تلاميذه جميع ثروته العلمية والأدبية في أقصر وقت، لينصرفوا إلى الحياة بعد أسابيع لا سنين!
والمهمّ هو أن نؤمن بأن الشبان في مرحلة التعليم الثانوي رجال لا أطفال
المهمّ هو أن نحدِّث تلاميذنا في جميع الشؤون حديث الزميل للزميل
إن هؤلاء التلاميذ خلقٌ جديد، وقلبي يحدثني بأنهم يعرفون من حقائق الحياة أكثر مما نعرف
والمدرس الحق هو الذي يسبق زمانه بعشرات السنين، ليحاور تلاميذه في أشياء تسبق زمنهم بأزمان
فمتى نجد ذلك المدرس المنشود؟
هو موجود بالفعل، فعندنا جيوش من المدرسين الأكفاء، ولعل مصر أغنى بلاد الشرق بالمدرسين الأكفاء ولكن الذي يعوز الحياة التعليمية في مصر هو التوجيه السديد، التوجيه الذي يُشعر المدرس بأنه مسئول أمام الوطن عن تكوين الجيل الجديد.
ومن الواضح أن هذا لا يتيسر إلا إذا تغيّرت النظرة الحكومية والشعبية للمدرس
ومعنى هذا أني أنتظر أن تكون أبوة وزير المعارف للمدرسين أبوة رفيقة إلى أبعد الحدود، بحيث يجهلون المدلول من كلمات العلاوات والترقيات والدرجات، لأن لهم أباً ينوب عنهم في فهم تلك الكلمات
حدثني صديق يساير مناقشات البرلمان بأكثر مما أصنع أن معالي الهلالي باشا قال في مجلس النواب: (إن وزارة المعارف هي وزارة الدرجة السادسة)
والعبارة صحيحة، وإن جاز أنها من الكلام المنحول
ونحن نقرأ من يوم إلى يوم أن الهلالي باشا مَعنيٌّ بتحسين أحوال المدرسين، وهذا الذي نقرأ ليس كلاماً يراد به الدعاية، وإنما هو صدق في صدق، فهذا الوزير يجب أن يكون له في وزارة المعارف تاريخ نبيل، وسيرى المدرسون بعد أيام أنه ضمن لهم طمأنينة تريحهم من القلق الذي يساورهم منذ سنين.
والمجال يسمح بتدوين الملاحظة الآتية:
كان يهمني في بغداد أن أسأل عن الطلبة الذين يتخلفون عن دروسي بدار المعلمين العالية، وكان الجواب دائماً أنهم تحولوا إلى المدرسة العسكرية، لأن مستقبلها مضمون
والحال كذلك في مصر، فالشباب عندنا لا يؤُّمون المعاهد التي تُعدّ المدرسين إلا بعد اليأس من دخول المعاهد التي تُعدّ الضباط والمهندسين والأطباء
ومعنى هذا أن يفهم الجمهور أن المدرس هو شخص فاتته المواهب التي تؤهل لتلك المناصب
وأقول بصراحة إن المدرس لا يصلح لمهنته إلا إن كان غاية في جمال الصفات الجسمانية والروحانية
ولن نظفر بمدرسين من هذا الطراز إلا إن ضمنّا أن تكون حياة المدرس في مثل حياة الضابط والمهندس والطبيب
ولن يكون هذا إلا يوم يفهم الشبان أن مهنة التعليم مهنة مجد، يقول الفرنسيون وهل ننسى الصراع الذي يثور عند الانقلابات الوزارية؟
هل ننسى أن الوزير لا يرضى عن مصيره إلا إن كان وزير الداخلية أو المالية؟
يجب أن يكون وزير المعارف هو الوزير الأول في الدولة، لأنه المسئول عن تكوين العقول والقلوب
قالت جريدة الأهرام إن الهلالي باشا استطاع بلباقته أن يظفر بألوف من الجنيهات لتحسين أحوال المدرسين
ومعنى هذا أنه انتهب من أموال الدولة أشياء باسم التعليم!
الله أكبر، ولله الحمد!
إن مصر رضيت الحياد في الحرب، ولكنها لم ترض الحياد في العلم، فهي تناضل في الميادين العلمية نضال المجاهدين الفائزين، فما الموجب لأن يقال إن وزير المعارف قد استطاع بلباقته أن يأخذ من أموال الدولة أشياء؟
لن نسكت أو يصير وزير المعارف هو الوزير الأول، ليصير المدرس هو الرجل الأول في هذه البلاد
نحن المدرسين نطالب الدولة بإقرار العدل، لنصير مطمئنين إلى ما تريد من تثقيف الجيل الجديد
غايتنا واضحة وصريحة، وهي أن يعرف الشعب أننا في المقام الأول، لأننا معلمون، والمعلم هو الرجل الأول في شِرعة الإنصاف.
مدرس اللغة العربية
كتبت عن هذا المدرس أربع صفحات، ثم طويتها، لأنه مدرس مظلوم، فهل أعود إلى نشر تلك الصفحات؟
لن أفعل أو أنشر أقوال المفتشين بالتفصيل
وسأرى كيف أروض القلم في المقال المقبل
زكي مبارك