مجلة الرسالة/العدد 509/اليابان إزاء الصين
→ من مغاني الأزهار | مجلة الرسالة - العدد 509 اليابان إزاء الصين [[مؤلف:|]] |
ميلاد زهرة ← |
بتاريخ: 05 - 04 - 1943 |
لليوزباشي حسين ذوالفقار صبري
هناك في الشرق الأقصى منذ أكثر من عام، هبّت فجأة أعاصير الحرب تجتاح الدول عاصفة بالقوانين، لا تعرف لتلك حرمة ولا تقيم لهذه حساباً، ثم خبت نارها فجأة كما قامت، وصفت سماؤها وشفّت إلا عن بضعة التحامات هنا وهناك، ولكن تيارها العميق، البعيد عن الأنظار ظل قوياً مستمراً عنيفاً تحت السطح الراكد قبل الزوبعة، المتلاطم أثناءها، ثم المختلج بعدها.
هناك في مجاهل الصين منذ أكثر من خمس سنين انبثق ذلك التيار، الجارف الآن، مترقرقاً في ذلك الحين، ولم يزد على أن يكون مشاغبة تافهة بالقرب من بيبنج (بكين قديماً)، ولكنها كانت مشاغبة توارت خلفها مطامع اليابان، فانتهزتها فرصة للإقدام والتنفيذ، ولكن تنفيذ ماذا؟ استعمار الصين؟ نعم ولكن. . . أين كانت خطتها المحكمة التدبير. . .؟ أين كانت، فإن المراقبين لم يروا منها إلا ارتجالاً إثر ارتجال، ولم تحصد هي من أعمالها إلا توريطاً إثر توريط؟
(إذا أردنا السيطرة العالمية، وجب علينا أول الأمر إخضاع الصين!)، تلك كانت عقيدة الجيش الياباني، وهو كما لا يخفى أداة الحكم في تلك البلاد. وإخضاع الصين عملية شاقة مرهقة، عملية تستنزف أعنف مجهود، وتستنفد أرواح ملايين من الجنود، وتتطلب فوق هذا وذاك وقتاً طويلاً تكون اليابان خلاله متورطة في مجاهل سحيقة في حين تكون روسيا متربصة عن يمينها، وبريطانيا رابضة عن يسارها، وأسطول أمريكا جاثم على مؤخرتها؛ إذ لم يكن هناك بد لإخضاع الصين من التوغل في أرضها الوعرة الموحشة حتى تصل الجيوش إلى معبر توانج كوان عند منحنى النهر الأصفر، وهو الذي يعد بحق مفتاح الصين اللازم لكل غاز منتصر، وبدونه يستحيل الانتقال بالجيوش الجرارة أو الإمدادات الوفيرة إلى قلب البلاد، وهو في الوقت نفسه يمهد الطريق الأسهل إلى ولاية ستشوان الخصبة الغنية (حيث توجد العاصمة الآن)، وهو أيضاً يهدد مرتفعات شانسي المشرفة على منشوكو والمغول الداخلية وسهول الصين الشمالية! فهو كما نرى معبر به مغاليق الصين إلا أنه معرّض مهدد إن لم يحمه صاحبه باحتلال وادي نهر هان الملتف جنوبه. إذن على اليابان أن تحتل هذه المعاقل الثلاثة النائية: معبر توانج كوان، ومرتفعات شانسي، ووادي نهر هان، قبل أن تأمل بسط سيطرتها على أبناء (الأرض الطيبة)، وقد أحجمت. . . فهي تعلم أن الدول الثلاث المحيطة بها لا شك مقدمة على وقفها عند حدها إن هي تجاوزته؛ ولكن مطامع اليابان كانت متأصلة في نفسها، مُلحة عليها، مكبوتة متحفزة، مخبوءة متربصة، فهي إذن لا مراء مندفعة إلى عالم الوجود، إن عاجلاً أو آجلاً، كماء تفجر من ينبوع جياش، فينقلب إلى سبيل متدافع أرعن لا حاكم له ولا ضابط. لذا استقر رأي ولاة الأمور على تلافي تلك العاقبة الهوجاء بتفريج الحال على دفعات خلال منفس صغير أدّى بهم إلى سلوك مسلك عجيب، بريء المظهر، خبيث الطوية، مسلك المنحرش بالقوم الآمنين حتى يستفزهم، الغاضب لإهانة وهمية لم تلحقه، المتوعد بالويل حتى يسترضى فيتأفف، ثم المقدم على اغتصاب تعويض ضخم ليس من حقه، وقد بنيت الخطط على أن يكون التعويض المذكور مقاطعة صينية تنتزع انتزاعاً لتضم إليهم، وعندما يتم إدماجها اقتصادياً واجتماعياً في نظامهم المرسوم تُعاود عملية الاستفزاز من جديد وهكذا دواليك.
وتحرشوا أول مرة في (مكدن) في سبتمبر سنة 1931 فضُمت منشوكو إليهم. . . وتلمظت طوكيو هانئة بالذي ابتلعت، وأدارت وجهها لانتقاء وجبتها التالية، بينما مضت إدارتها الداخلية تنسق الولاية الجديدة. . . ولم تعلق كبير اهتمام بذلك الشاب الصيني اليافع الذي علمته في مدارسها الحربية، وأنعمت عليه بلباسها العسكري، فجازاها بأن ألقاه في وجهها وفرّ منها متقلباً بين اليمين والشمال في حكومات الصين، موحّداً لواءها مرة ومشعلاً الحرب بينها مرات، ذلك الشاب الذي أضحى الآن رجلاً قوي الشكيمة شديد البأس على رأس جيش عرمرم، ذلك الرجل الذي توصل أخيراً إلى توحيد مختلف حكومات الصين تحت تعاليم أستاذه العظيم (صون يات صن) ذلك الرجل الصارم العنيد، شانج كاي تشك رجل الصين الأعظم، ورمز عصرها الجديد.
تنبه القائد الصيني للخطر المحدق ببلاده فأعد خطته على أساس توسيع رقعة القتال بمجرد نشوبه مرة أخرى، فيورط اليابان في حرب أرجاؤها فسيحة وسط قوم مناهضين لهم ساخطين عليهم. أستمع إليه قبل الحرب بثلاث سنوات وهو يخاطب ضباطه في (كولنج): (تظن اليابان أن في إمكانها احتلال الصين دون كبير عناء. . . وهي لا بد معاودة التحرش بنا قريباً. . . واعلموا أنه لا يتحتم علينا مقابلة كل سلاح تأتي به اليابان بسلاح يماثله. . . بل في وسعنا أن نجابه اختراعات العدو الجديدة بأسلحتنا التقليدية العريقة، وهي مقدرتنا الفائقة على استخدام كل ما تراه العين أو تقع عليه اليد، سواء أكان هذا جبالاً أم أنهاراً، حجارة أم أغصاناً. . . يجب علينا إيقاظ شعبنا من سباته حتى يهب خلف المغير إذا تقهقرت القوات أمامه،. . . إن تحديد وسائل المقاومة لا يهم ما دامت تحدونا عزيمة لا تهن وهمة لا تكلّ. . .)
وفي هزيع ليلة حالكة من ليالي يوليو سنة 1937 دوت في الفضاء عدة طلقات عند معبر (مركو بولو) بالقرب من بيبنج فكانت إيذاناً بالملحمة الكبرى. وأطبقت اليابان على الصين الشمالية. . . وكان (كاي تشك) كما أسلفت قد قرر أن يمد رقعة القتال ويستدرج العدو إلى جوف البلاد، أو على حد تعبيره، كان قد قرر أن يشتري الزمان بالمكان. ظنت اليابان أنها مقدمة على نصر سريع كذلك الذي واتاها منذ ست سنين في منشوكو. ظنت أن (كاي تشك) سيواجه جيوشها الميكانيكية الحديثة في سهول الصين الشمالية، ولكنه لم يفعل، بل أرسل خيرة جنوده إلى شنغهاي يهدد مصالحها هناك فاستدرج جنودها وراءه. وهزم القائد الصيني هناك وأخلى عاصمته نانكين ثم هزم في (سوتشاو)، ثم هزم مرة ثالثة أمام عاصمته الجديدة (هنكاو)، ولكنه في كل مرة كان ينزل بأعدائه أفدح الخسائر ويرتد عنهم قبيل إطباقهم عليه، مغرياً إياهم باللحاق به والتوغل خلفه حتى أضحت جنود الحملة اليابانية منتشرة على مساحة شاسعة، ولم تعد قادرة على تركيز مجهودها في مكان معين، واضطرت حامياتها الموزعة على مختلف المدن الصينية المحتلة أن تحمي خطوط المواصلات حتى لا تفقد تماسكها ولكنها لم تجرأ على المخاطرة بنفسها في الأماكن غير المطروقة، وهكذا أصبحت لا تحتل من البلاد إلا شبكة خيوط مرسومة حول أرض وعرة مجهولة وبالهلاك موبوءة.
توصل شانج كاي تشك إلى تنفيذ مأربه وأصبحت القوات اليابانية عاجزة عن إحراز نتيجة حاسمة، وأضحت حكومتها لا تجرؤ على التراجع بعد أن بهظت تكاليف مغامرتها، وظلت إدارتها الداخلية قاصرة على تنظيم موارد أراض لم يستتب الأمن فيها بعد.
وفي الوقت نفسه كان القائد الصيني يجمع الجنود وينظم الصفوف ويستورد المهام من روسيا عبر (سنكيانج)، ومن بريطانيا وأمريكا عبر بورما أو عن طريق بعض المواني التي حمتها امتيازات الدول الغربية
ووقفت اليابان تراقب ذلك الجرح الذي لا يندمل بقلب كمد وعقل مبلبل حائر. . . ثم قبض جنرالها (سوجياما) على مقاليد الجيش وأصبح رئيساً لهيئة أركان الحرب العامة، و (سوجياما) هذا جندي نشط جسور، يواصل العمل ليل نهار تحدوه إرادة لا تكل، وكراهية ملتهبة لكل ما هو أجنبي، وكان عليه أول الأمر عزل الصين عن كل مساعدة خارجية وتأمين مؤخرة اليابان أمداً من الزمان حتى يتم لها القضاء على مقاومة شانج كاي تشك. . . وربض (سوجياما) يرقب اللحظة المناسبة حتى واتته فانقض. . . فكانت (بيرل هربور) وتبعتها هنج كنج والفلبين وبورنيو والملايو وبورما وسومطرة وجاوة وجزر سليمان. . .
يظن الكثيرون أن تلك كانت مقدمات لانقضاض اليابان على استراليا أو استعداداً منها لاجتياح الهند؛ وإني لا أنكر أنها قد تتحول إلى ذلك مستقبلاً، ولكنها لم تكن في ذلك الحين إلا سياجاً عظيماً أقامته اليابان حول الصين وبحار الصين، وإن كانت لم تتعرض لطريق روسيا التي انشغلت عن مساعدة شانج كاي تشك بحربها الشعواء مع ألمانيا النازية، وعدا ذلك فقد خشيت طوكيو استفزاز الجنرال الروسي اشترن الذي وقف على أتم استعداد يراقب بعين يقظة جيش إتاجاكي المرابط في منشوكو. . .
كل شيء هادئ في الميدان الشرقي!. . . هكذا يقرر الكثيرون لأن الصحف لم تعد تقدم لهم عنه ما تعودوه من عناوين ضخمة، وهم في ذلك مخطئون. . . فقد ألقت اليابان في أتون المعركة بفرق أخرى جديدة، وأطبقوا على (شنسي) في الشمال، واحتلوا (شكيانج) و (كيانجي) في الجنوب الشرقي فأصبح لهم خط حديدي تام يصل شنغهاي بسنغافورة عبر الهند الصينية وسيام، وهاهم يقاتلون الآن في مقاطعة يُنان حيث ألقى شانج كاي تشك بجنده المختارة على أمل إعادة فتح طريق بورما المشهور، بينما سارع وكيل هيئة أركان حربه الجنرال المسلم (باي تسونج هسي) إلى الشمال للدفاع عن (شنسي). . .
كل شيء هادئ في الميدان الشرقي!. . . نعم إلا إذا استثنينا ذلك الصراع الهائل الذي يخوضه ربع سكان العالم، أربعمائة مليون شخص، في سبيل حريتهم.
كل شيء هادئ. . . ولا جديد هناك! نعم لا جديد سوى أن زهرة الجيش الياباني قد عُقلت وأصبحت عاجزة عن الإقدام على مغامرة جديدة! لا جديد سوى بضع معارك طاحنة في ينان وشنسي وتشكيانج وكيانجسي! لا جديد سوى أن تلك المعارك يتوقف عليها مصير العالم الشرقي بأجمعه!
حسين ذوالفقار صبري