مجلة الرسالة/العدد 509/الإصلاح الذي أنشُده للأزهر
→ على هامش (أحلام شهرزاد) | مجلة الرسالة - العدد 509 الإصلاح الذي أنشُده للأزهر [[مؤلف:|]] |
من مغاني الأزهار ← |
بتاريخ: 05 - 04 - 1943 |
عماده المال
للأستاذ عبد الحميد عنتر
(وسيكون للجامعة الأزهرية نصيب كبير من اهتمام حكومتي، فتعنى بإصلاح نظم التعليم فيها إصلاحاً يساير روح العصر، ويحفظ لهذا المعهد الكبير صبغته الدينية، ويهيئ له من الوسائل ما يمكنه من أداء رسالته العلمية الدينية، على الوجه الذي تنشده مصر، ويحقق آمال الإسلام والمسلمين. وستوجه الحكومة إلى الوعظ الديني عناية تناسب ما له من أثر في تهذيب الخلق المصري، وما يبذله من جهود للإصلاح بين الناس)
(من خطبة العرش)
هذا ما جاء في خطاب العرش، لسنة 1942 خاصاً بالجامع الأزهر.
وهو على ما يرى القارئ قبس من نور الحكمة، وسراج وهاج من روح الإخلاص الحكومي لهذا المعهد العتيد. ذلك المعهد الذي يجله ملوك مصر وحكامها، منذ نشأته الأولى، إلى أن بلغ من العمر ألفاً من السنين، والذي له المنزلة العليا في نفوس المسلمين بكافة بقاع الأرض، لأنهم يتمثلون فيه المحامي الأكبر عن دين الله، (الذي لا تصلح دنيا الناس إلا به)، والحصن الحصين الذي حفظ تراث العرب، من اللغة والآداب والعلوم، ووقاها عاديات الضياع والإهمال؛ ولأنهم يرون - ونرى معهم - أن النهضة الفكرية في مصر، والنهضة الخطابية والكتابية، والنهضة الأدبية والشعرية، وأستطيع أن أقول: والنهضة الوطنية. كل أولئك النهضات المباركات، كان الفضل في تدعيمها وتغذيتها للجامع الأزهر. فهل هو كما قال قائلهم الأديب، الابن البار بالأزهر، الأستاذ حسن عبد العال، صاحب جريدة الإصلاح الحلبية: (الأزهر حصن الدين وينبوع الأدب)
ولما كان في التصريح الخطير المقتبس من خطبة العرش، ما يمس نظام التعليم، وفيه ذكر الوسائل التي تمكن الأزهر من تأدية رسالته على الوجه الأكمل، أحببت أن أبين على صفحات (الرسالة) ما عنّ لي من وجوه الإصلاح، وما أراه أنفع الوسائل لأداء الرسالة العلمية الدينية، على الوجه الذي (يحقق آمال الإسلام والمسلمين). فأقول محاولاً الإيجاز ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
رسالة الأزهر قديماً
لا مراء في أن علماء الأزهر القدامى، حملوا أمانة العلم، وأدوها أحسن الأداء، وضربوا للناس المثل الأعلى في الجد والنشاط، والتوفر على الدرس والتحصيل، وتطبيق أقوالهم الطيبة، على أفعالهم الحميدة، مع تغلغل في البحث، واستقلال في الرأي، وجهر بالحق، وسمو في الخُلق، ورضاً لم يخالطه سخط، وقناعة لم يتطرق إليها طمع، وإخلاص لم يشبه رياء.
لله درهم! نشروا العلم وأحيوا الفضيلة، وحافظوا على لغة الكتاب المنزل. فدرسوا وعلَّموا، وصنفوا وألّفوا، وفحصوا ومحّصوا، حتى تركوا لمن بعدهم ثروة كبيرة من التأليف في شتى العلوم، تعد بحق مفخرة لهم، في عصر كاد ينطمس فيه نور العلم، ويخبو فيه مصباح الفكر، لولا نفحة سماوية، وروح علوية إلهية. جزاهم الله عن العلم والدين خير الجزاء.
ومما تجب ملاحظته أن نفسية الأمة إذ ذاك، كانت أكبر معين للعلماء على أداء مهمتهم، وتبليغ رسالتهم على الوجه الذي سلف بيانه، والتاريخ أعدل شاهد على ذلك؛ وأن هذه النفسية قد تغيرت الآن تغيراً طغت فيه المادة على المعاني الروحية، وأصبح الناس لا يقدرُون العالم لعلمه وأدبه، أو سمو نفسه وطهارة قلبه وصالح عمله؛ بل إنما يقدرونه لمال أو جاه، أو منصب أو رياسة. ومن هنا وجب (أن تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا)، وأن تتغير وسائل تأدية الرسالة العلمية الدينية، طبقاً لروح العصر الذي نعيش فيه. وذلك ما سأبينه في رسالة الأزهر الجديدة.
نظام الأزهر الحالي
إن من ينكر نظام الأزهر الآن، كمن ينكر الشمس في رائعة النهار، ولا يجرؤ على ذلك إلا الجاهل المتعامي الذي لا يضير الشمس إنكاره، ولا يغيّر الحقيقة جحوده واستهتاره.
إن من يزور معهداً من معاهد الأزهر الابتدائية أو الثانوية، ثم يزور مدرسة من مدارس الحكومة الابتدائية أو الثانوية، المؤثثة على أحدث طراز - لا يرى فارقاً واضحاً بين المعهد والمدرسة، (إلا العمائم والطرابيش)
أما نظام الفصول الدراسية، ومقاعد الطلاب، وأدوات الدراسة: من مصورات جغرافية، وأخرى زخرفية، وسبورات للإيضاح، وأدوات للرسم، ومعامل للكيمياء والطبيعة، وهياكل مجسمة لدراسة علم الحياة (الأحياء) وقاعات للمحاضرات، أقول أما كل أولئك فهو في معاهد الأزهر، كما في مدارس وزارة المعارف، وتمتاز المعاهد بأن ما فيها من الطراز الحديث.
وإن من يزور كلية من كليات الأزهر، لا يرى فرقاً بين أيَّةٍ منها، وبين كلية الآداب أو الحقوق أو معهد التربية، إلا من حيث فخامة الأبنية والموقع الصحي المنتقى، وضخامة الميزانيات.
فهي في الأزهر وكليلته متضائلة متواضعة، وفي مدارس الحكومة وكلياتها عظيمة متضخمة. وتكاد طريقة التدريس في الأزهر الحديث، تضاهي الطريقة التي تتبعها مدارس الحكومة وكليات الجامعة، وكذلك نظم الامتحانات.
وقد استقر هذا النظام في الأزهر، ورسخ فيه رسوخ الشُّم الرَّواسي، حتى أصبح من العسير جداً أن يُعدل به إلى أي نهج آخر؛ لأن رجال الأزهر وطلابه قد اعتبروه تقدماً وتجديداً، ومسايرة لروح العصر الحاضر. فالعدول عنه رجوع بمعهدهم القهقري، ووقوع فيما فروا منه قديماً من بلاء!
فمن يحاول رجع الأزهر كما كان، كمن يحاول أن يجعل (النيل) ينبع من شواطئ البحر الأبيض المتوسط ثم يصب في أعالي السودان!
فالأزهر لا ينقصه نظام، ولا يعوزه رجال مفكرون، أو طلاب نبهاء، وإنما يعوزه إصلاح هذا النظام، ولا سبيل إلى إصلاحه إلا المال؛ ليؤدي به إلى بلاده، وإلى العالم الإسلامي رسالته الجديدة
وإذا قال الأزهر الحديث: (المال)، فهو لا يريد أن يتكاثر فيه حتى يصبح من أصحاب (الملايين)! أو التهالك عليه حتى يكون شغله الشاغل، ومحبوبه الأول، ولكنه يطلبه للإصلاح، وللإصلاح لا غير. . . يطلبه الآن لأنه ليس كالأزهري في الزمن السالف، الذي كانت تهدي إلى بيته الهدايا، من كل (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين). يطلبه لأنه يرى أن كل شيء في هذه الحياة الصاخبة مفتقر إلى المال. يطلبه ليتساوى مع غيره ممن يؤدون مثل مهمته، ويقومون بمثل عمله، من رجال التعليم.
أمامي الآن بيان إجمالي لدرجات موظفي الإدارة العامة بالأزهر، ودرجات شيوخ كلياته وأساتذتها ومدرسيها وموظفيها ودرجات شيوخ المعاهد الابتدائية والثانوية ومدرسيها وموظفيها. وبيان آخر لدرجات أمثالهم من موظفي وزارة المعارف بالديوان العام، وعمداء كليات الجامعة وأساتذتها ومدرسيها وموظفيها، ونظار المدارس الابتدائية والثانوية ومدرسيها وموظفيها. والناظر إليه يرى البون الشاسع بين هذه الدرجات بالنسبة إلى عمل أصحابها من الفريقين!
فهي في ميزانية الأزهر تتصاغر وتتضاءل، وفي ميزانيات غيره تتعاظم وتتكاثر. ولو شئت أن أذكر البيان التفصيلي مؤيداً بالأرقام لفعلت، ولكني آثرت عدم ذكر شيء من ذلك رعاية لأزمة ورق الصحف، ولأن ولاة الأمور يعلمون ذلك علم اليقين. لذلك أجتزئ بذكر الأمثلة الآتية، ومنها يتبين الفرق الكبير:
الأول - في الإدارة العامة: وكيل الجامع الأزهر لم يوضع في الدرجة الأولى (التي تعطى لبعض أساتذة الجامعة) إلا في سنة 1942 مع أن نظيره في ديوان المعارف يتقاضى مرتب (مدير عام)، ومفتشو الأزهر في الخامسة والرابعة لا أكثر، مع أن مفتشي المعارف ليس فيهم من هو في أقل من الرابعة. وكبار المفتشين في الثانية
الثاني - شيوخ الكليات الأزهرية لم يوضعوا في الدرجة الثانية إلا في سنة 1942، مع أن هذه الدرجة تعطى لأساتذة الجامعة، بل إن بعض هؤلاء في الأولى كما سبق! وأما عمداء الجامعة فهم في درجة (مدير عام)
الثالث - أساتذة كليات الأزهر ومدرسوها: لم يوضع أحد من الأساتذة في الدرجة الرابعة إلا في سنة 42، ولم يكن أحد منهم في الثالثة أو الثانية أو الأولى (بالطبع) مع أن أساتذة الجامعة ودار العلوم في الثانية والثالثة وليس فيهم من هو أقل من الثالثة
أما مدرسو كليات الأزهر، فهم في الدرجات الخامسة والسادسة، ويخجلني أن أقول: والسابعة! مع أنه ليس في مدرسي الجامعة من هو في أقل من الخامسة
وعلى هذا الغرار الفرق بين شيوخ المعاهد، ونظار المدارس، وبين المدرسين والموظفين في كل منهما
فإذا طالب الأزهري بالمساواة، فهو طلب عادل، ومساواة واجبة. وفي هذه المساواة تحقيق للعدالة بين طبقات الأمة، وراحة لضمير فئة خصصت حياتها لخدمة العلم والدين ولغة العرب.
فالأزهري الحديث يطلب المال كما يطلبه غيره، ليعيش بكرامته، وينعم بخيرات بلاده كما ينعم غيره
وإذا كانت الدول تنفق الأموال الطائلة، على الدعاية التي لم تتحقق ثمرتها بلا مقابل - فالأزهر أكبر دعاية لمصر في الشرق والغرب، بل هي دعاية محققة الفائدة، بل قد يكون من القضايا المسلم بها، أن مصر لم تتزعم العالم الإسلامي والشرق العربي إلا بفضل الأزهر. فليس بمستغرب إذن أن ينفق عليه للإصلاح، بسخاء من غير مقابل!
وممن يطلب المال؟ يطلبه من حكومته العادلة الرشيدة، التي آلت على نفسها أن تصلح شأنه، وأخذت على عاتقها أن تمكنه من أداء رسالته العلمية الدينية، وأن توجه عناية خاصة إلى الوعظ والإرشاد.
وهذا التمكين وتلك العناية، لا يقومان إلا على أساس المال وهاأنذا أرسم الخطة التي أرجو أن يسير عليها الأزهر في عهده الجديد؛ لتكون منهاجاً واضحاً لمن يريد الخير والإصلاح لهذه الجامعة الدينية الكبرى. مصدراً ما أورده هنا عن تجارب الماضي وعبره.
رسالة الأزهر الجديدة
هي بذاتها رسالته القديمة، مضافاً إليها ما يلي:
1 - تأليف الكتب العلمية للدراسة. وهذه عقدة العقد في إصلاح نظام الأزهر، وأعتقد أن كل إصلاح لا يحل تلك العقدة، لا يؤتي ثمرته المرجوة، ولا يحقق آمال المسلمين
كتب الأزهر الحالية في شتى العلوم، مجموعات كبيرة من المتون والشروح والحواشي والتقارير، فهي حقاً ثروة علمية هائلة، جمعت كنوز العلم، وميادين الفكر، وعصارات العقول. لولا ما فيها من حشو لا تسيغه أذهان الناشئين، ولا يتفق وكثرة العلوم التي لا غنى عنها للطالبين.
ألفت تلك الموسوعات في زمن غير زماننا، ولرجال غير رجالنا. هم عملوا، وعلينا أن ننقح ما عملوا؛ لأن ما عملوه لا يروج إلا في سوق الأزهر ومعاهده، ونحن نريد بضاعة علمية من التأليف، تروج في سوقنا، وتغزو سوق غيرنا، في مصر وفي غير مصر من جميع بلاد العالم.
نريد أن تكون كتب الأزهر القديمة، مراجع علمية، ومصادر للتأليف، ومواد ودراسات عالية لمن يريد التضلع من العلم، والتخصص فيه.
ونريد أن تؤلف للدراسة في الكليات والمعاهد الدينية كتب جديدة قيمة في جميع العلوم، مقتبسة من كتبنا القديمة تجمع المسائل العلمية، والبحوث النافعة، مع التنسيق وحسن الترتيب. مراعى فيها أن يمكن استيعاب دراستها في الزمن المخصص لكل مرحلة من مراحل التعليم، حتى لا تنفلت حلقة واحدة من سلسلة المقررات العلمية السنوية، لكل فرقة من فرق الدراسة. وهذا النوع من الإصلاح لا يعوزنا في تحقيقه إلا المال. أما الرجال فإن في الأزهر الآن عقولاً تستطيع أن تؤلف أنفع كتب (أخرجت للناس) وإني أهيب بولاة الأمر فينا، أن يبادروا بإخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود ولو بالتدريج، قبل أن يقل العلماء القدامى، فتفوت الفرصة السانحة، تلك الفرصة التي يرجو كل محب لخير الأزهر أن تنتهزها حكومة الشعب، في عصر الملك السعيد، صاحب الجلالة فاروق الأول، أيده الله، وأعز به الدين والوطن.
(يتبع)
عبد الحميد عنتر
أستاذ بكلية اللغة العربية