مجلة الرسالة/العدد 508/على هامش (أحلام شهرزاد)
→ من الأستاذ محمد كامل سليم إلى الأستاذ توفيق | مجلة الرسالة - العدد 508 على هامش (أحلام شهرزاد) [[مؤلف:|]] |
ثورة في الأخلاق ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1943 |
قضية اليوم
للأستاذ دريني خشبة
قالت فاتنة: (عجباً لك يا صديقي! لست أعرف سبباً لترددك هذا الذي طال، وخوفك ذاك الذي سمج، وإشفاقك الذي لم تعد له علة؛ فها أنت ذا تعيش ملء القاهرة، وهاهم أولاد أخذان الشباب من حولك ما تزال قلوبهم عامرة بالشباب؛ ونفوسهم ممتلئة بالفتوة. وهاهي ملاعب أنسك، ومراتع هواك، يرقص فيها ماضيك ريان كما عهدته فينان كما حلمت به، فإلام تظل راكداً هكذا؟ وحتام تخفو عيناك وكل ما حولك صحو؟! أخشى أن يكون إشفاقك من الكتابة عني، وقد ملأت أذنيك شدوا، ومهجتك غناء، هو ما ترى من القطيعة الشاحبة التي قامت بين أئمة الأدب في هذا البلد، وقالات السوء التي يرسلها الأبالسة المغرضون لتعبس الجنة الباسمة، ويصمت الطير الصادح؛ وليكون نعيهم وحده هو المسموع في الآذان، المدوي في الأذهان، مهما يكن شأنه من الهوان. . . كلا يا صديقي. . . لا عليك من هذا أبداً، فأئمة الأدب في هذا البلد أعظم من أن تمزق وحدتهم الأقاويل، وأجل من أن تذهب بريحهم عصبة الأبالسة من مروجي الأكاذيب. . . يحب أن تكتب عني إذن وأنت آمن مطمئن، فقد بلوت من ألوان الأساطير وفنون القصص ما ينبغي أن يوقظ فيك جمالي، ويلفتك إلى سحري، وينبه فيك روعتي التي أبدعها خيال صاحبك الصناع الفنان. . . ولن يعفيك من الكتابة عني ما أرجف به المرجفون عقب أن تلهوا بقراءتي في سيارة أو في عرابة تزام، فلست من الهوان بحيث أقرأ هكذا، وبحيث يفرع القارئون مني على هذا النحو، فأنا قطعة أدبية خالدة، ولن يسأمني الناس مهما أكبو علي، ومهما أدمنوا تلاوتي. . . إنني أروع لوحات الفن في الأدب المصري الحديث. . . وأعيذك من أن تظن بي الظن، أو تأخذ علي اعتداداً بشخصي القوي، ولن أقول الضعيف تواضعاً، فإن عرفاني بقيمتي يباعد بيني وبين التواضع. . . والتواضع أكبر رذائل الأديب ما لم يكن مصدره الغرور، إذ يصبح فضيلة يجمل أن يتحلى بها ليريح الناس منه. . . أنت أذن تخشى شيئين. . . أولهما هذا الفتور الذي قام بين (صاحبي القصر المسحور) فباعد بينهما إلى حين، وجعل الكلام عنهما كهذا الشوك الذي ينبت في أعواد الورد، فيخيف الأيدي الناعمة من أن تمتد، والأرواح الظامئة من أن تتطلع. . . أما ثانيهما فهو كتابتك في (الرسالة) عن صاحبي، أي عني. . . و (الرسالة) هي التي نشرت تلك الكليمات التي نفثها صاحب (شهرزاد) فيما شجر بينه وبين صاحب (فاتنة) أي صاحبي. . . والرسالة أيضاً لها (وعكتها) التي فترت العلاقة بين صاحبها وبين أعز أصحابه عليه، وأحبهم إلى نفسه، لأنه زميل الصبا، وخدن الشباب، وصاحب الحق الأول في فؤاده، والشريك الذي بنى معه مسرح هذا الأدب في مصر. . . لا لا يا صديقي، دع ما يريبك من أمر الصداقات إلى ما لا يريبك من أمر الأدب، فللصداقات عتاب يحلو أو يمر، وللأدب نقد يسلس أو يقسو، وينعم أو يعنف؛ والصداقة شئ، والأدب شئ آخر. ولن يقبل النقد صداقة من الصداقات فيجعلها عداوة إلا في الأمم الصغيرة الفقيرة من القلوب الكبيرة، فإذا عرفت لما أرجف المرجفون عن (شهرزاد) وعن (أحلام شهرزاد) وما تخرصوا به من أخذ هذه عن تلك، فإنما تعرض لموضوع أدبي لم يشد منه المتخرصون إلا ألفاظاً أو عبارات لا كيل لها ولا وزن. وهم قد أوردوها، حينما أوردوها، ليوهموا أنهم بلغوا بها لباب النقد الصراح، وقطعوا بسقطها جهيزة كل خطيب. . . أما صاحب الرسالة، والكليمات التي نشرها لصاحب شهرزاد، فصحيفته كانت وما تزال صحيفة الأدب والنقد الخالص البريء. . . وآية ذلك أنني تعمدت أن أختارها لك لتكتب عني فيها، لتقطع ألسن المرجفين والخراصين، ولتفتح أعينهم التي غشيت إن لم تكن قد عميت، على صورتي الرائعة التي هي ابتكار جديد لم يسبق أحد صاحبي إليه، ولا استطاع أحد أن ينبت في جنة شهرزاد زهرة أينع منها، ولا أعبق من شذاها شذى. . . هذه كلمات سيضيق بها النافسون على صاحبي أشد الضيق، ولكن قلها ولا عليك مما ينفسون من شئ، فلن يضر زحار الغل إلا أهله، ولن يأكل إلا قلوب أصحابه. . . ثم لا تنس أن صاحب الرسالة هو الرجل الذي أثار موضوع النقد منذ أعوام فجلاه أحسن تجليه، واستبقت الأقلام وراء قلمه تؤيد ما يقول، وتفصل ما يجمل، وأنك أنت يا صاحبي كنت أحد الكاتبين فيه، المؤيدين لوجهة نظر صاحب الرسالة. . . ثم أذكر أنه صرح لك بجمالي، واعترف بروعتي، وحسبك أن يصرح الزيات بجمال فاتنة، وروعة فاتنة، لتكتب أنت عن فاتنة. . . أما أختي. . . أما شهرزاد التي ملأت أحلامها، فأنت الكفيل بأن تنافح عنها، وتكافح في سبيلها، وأنا ضامنة لك أنك منصفها من هراء ما أرجفوا به عن غير علم، وجفاء ما شقشقوا به بغير هدى ولا كتاب منير. . . ويدعي الخراصون أن صاحب شهرزاد قد أصبح أنانياً، وذلك أنهم قالوا إنه غضب لأن زميله في القصر المسحور قد كتب في (شهرزاد) كتاباً مستقلاً ترجم به عن أحلامها؛ كأن شهرزاد لم تكن موجودة منذ قرون ثم وجدت، أو كأنها شئ من ابتكار هذا الجيل فلا يصح إلا أن تكون حبساً على فلان أو فلان من زعماء الأدب الحديث. . . ولو عقلوا لتأدبوا أولاً، ثم لعلموا أن الوقعية على هذا النحو شئ خسيس لا يليق بكرامة نهضتنا ثانياً، ثم لذكروا أن صاحب شهرزاد ليس أنانياً وأنه صاحب فطنة ونباهة، وأنه ليس من الخفة بحيث ينطلي عليه ما زعموه له من السرق
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي. . . . . .
ومختلف جداً ما جاء في شهرزاد وما جاء في أحلامها، وشهرزاد تلك مغايرة لهذه في طبيعتها وفي خلقها. وفي شهوتها البهيمية وفي وسائلها وفي أصحابها، وفي الملعب الذي شهد حياتها مذ وجدت ومن قبل أن توجد، بل هي مغايرة لهذا في كل شئ؛ حتى في الهواء الذي تنفسته. بل هي مغايرة لها في كل شئ حتى في المؤلف الذي كتبها، وفي القلم الذي كتبت به. . . وإلا فأين عدو المرأة من صديق المرأة؟ وأين الرجل الذي يعد المرأة دمية، من الرجل الذي يعدها نصف هذه الحياة على الأقل؟ أين الرجل الذي يحسب أن المرأة مما يستخف اللعب به، والإزراء عليه، ووضعه في إطار لتعليقه فوق جدران الصالونات، من الرجل الذي يعرف أن المرأة خلقت لما هو أسمى من اللهو، وأهم من اللعب، وأقمن بالجد! نحن هنا نقول لا لنغضب أحداً، ولا لنرضى أحداً. . . فأمامنا رجلان لكل منهما مؤلفات ولكل منهما كتب، ولكل منهما مذهب في الأدب لم يعد من الهين السهل إنكاره أو تجاهله. . . أما أحدهما فيباهي بأنه عدو للمرأة، فهو دئب في الإزراء عليها والتنديد بها والغض من نصيبها في الحياة، وأما الآخر فهو في الجانب الآخر من صاحبه، لأنه يعد المرأة شيئاً عظيماً جداً إن لم يكن أهم من كل شئ، فهو دائب في الإشادة بها، والثناء عليها، وإحلالها المكان الذي يسمو فوق الرقاعات. والعجيب أن كلا الرجلين في مركز يبيح له ذلك، فالأول غير متزوج وليس له أبناء، ولم يقع على كاهله من مسئوليات الحياة ما يفسد عليه طريقته في التفكير التي قد يراها حقاً، ويراها الناس بلاء. ثم هو لم يعرف هذا الشعور الأبوي الجليل، ولم يسمع بعد مخلوقاً ظريفاً فصل عن قلبه يناديه ذلك النداء الثمين: (بابا!) أو باللغة العربية الفصحى: (يا أبي!) ذلك النداء الذي يوشك أن يكون الفرق بين الرجلين، والذي هو خليق أن يغير الوسيلة التي يفكر بها كل شخص في هذا الوجود. أكتب هذا يا صديقي عني. . . أكتبه عن فاتنة. . . أكتبه معتقداً أنه الحق، وهو بذلك لن يغضب أحداً ولن يرضي أحداً. . .! إن لم يرض الجميع. . . فأكبر الظن أن الجميع عقلاء. ثم هذا هو الوضع الصحيح لكلا الرجلين. فأي غضب وأي رضى، وأي سخط وأي بشاشة؟ لماذا يسخط صاحب شهرزاد إذا غضبت شهرزاد الحكيمة الحازمة حين ترى كاتباً يسلم جسمها للعبيد السود، ويدعي أنها هي التي تصنع هذا وتتشهاه راضية! لقد حق لشهرزاد أن تثور وأن تسخط إذا كانت شهرزاد رمزاً للمرأة في كل زمان ومكان. لقد حق لها أن تثور وأن تسخط إذا كانت حقاً رمزاً لبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا وزوجاتنا. . . بل رمزاً للمخلوقة المقدسة التي تصنع سعادتنا وشرفنا وتبنى منزلنا وتغدو أرواحنا، وتقيم لنا حياة العزة التي نصبو إليها ونحلم بها، وتملأ دائماً خيالنا وتستأثر بعبادتنا لأنها من الله بل هي جماع ما يأمرنا به الله. . . شهرزاد هذه تغضب أشد الغضب، وتثور أعنف الثورة إذا انحط بها كاتب إلى صفوف العاهرات. وكل رجل لا يغضب معها ويثور لثورتها هو زوج فقد نخوته، أو أب لا يهمه شرفه، أو أخ ليس فيه مروءة، أو أبن معدوم المجدة، أو قريب ليس عنده نحيزة. . . ولا يصح أن يكون هؤلاء آدميين إذا أخذوا بوجهة النظر الخسيسة
هذه في شهرزاد. . . حينما تكون شهرزاد رمزاً للمرأة. . . ثق يا صديقي أن أحداً لن يغضب من هذا الكلام الذي تقوله بلساني، لأن أحداً لا يرضى أن ينتسب إلى هذا الصنف من صنوف شهرزاد إلا إذا كان فسلا أو أفيكا أو مدخولاً في عقله. لن يرضى أحد أن ينتسب إلى هذا الصنف من صنوف شهرزاد بأبوة أو أخوة أو بنوة أو قرابة. . . واليوم الذي يرضى فيه أحد بشيء من هذا هو اليوم الذي تنعكس فيه معايير الأخلاق وتكون الفضائل والرذائل صفات اعتبارية وشعبذات لا قيمة لها إلا في إفهام النوكي والقعاديد. . . وإذا صح أن يكون الناس قد صاروا نوكى وقعاديد، صح أن تؤلف لهم قصة عن شهرزاد تهدف بالمرأة إلى هذا الهدف الوضيع الذي يجعل بيوت الناس مواخير فسق، وأسواقاً للبغايا. . . هاأنت ذا تشيع في وجهك حمرة الخجل يا صديقي لمجرد ذكر هذه الألفاظ التي لم تتعود إيرادها في أي مما كتبت، ولكن ما حيلتك وأنت تريد أن تكتب حقاً. ثم ما حيلتك وقد لقيت شهرزاد هذا ذاك الرواج الذي لقيت بين جمهور القراء فهبطت بهم ولم تعل، واشتركت العوامل التي أوشكت أن تفسد الاتجاه الأدبي في نهضة هذا الأدب، إن لم تكن قد أفسدت بالفعل. فإذا جاء كاتب أب. . . كاتب له زوج وأبناء وبيت ليكتب عن شهرزاد كتاباً جديداً يدفع به تلك الوصمة التي أخجلت، وينبغي أن تخجل الأمهات والأخوات والزوجات، إذا جاء هذا الكاتب ليكتب ذلك الكتاب، هب الخراصون يتفيهقون ويقولون إنه إنما سرق، وإنه إنما سوغ لنفسه أن يدعي لنفسه ما لغيره، وأن يعيث فساداً في بستان أخيه، وأن ينفش في زرعه؟ ولماذا؟ لأن عبارة أو عبارتين اتفقتا في الكتابين، وتواردتا في القصتين! ناسين أن الكتابين قد اشتركا في مصاحبة شهرزاد في قصرها المسحور، فكتبا عنها كتاباً يترجم عن فهما، ويشرح طريقتهما، ويحكم لأحدهما وعلى الآخر، ويتناول بالتفسير ما ذهبنا إليه من عناصر تلك القضية. ما هذا؟ كيف يفهم هؤلاء الأدب؟ أيكفي أن يقرءوا القصة من القصص في سيارة أو عربة ترام ليصدروا عنها حكمهم وهم يهزلون؟! لا. لا. . . ينبغي عليهم أولاً أن يفهموا أن الذي بين صاحب شهرزاد وصاحب أحلام شهرزاد، مختلف جداً. فأحدهما مشرق والآخر مغرب، وأحدهما يرمي إلى غرض يهدف الآخر إلى ضده. أحدهما يعد المرأة شهوة تفسد كل شئ. المرأة عند أحدهما شيطان مريد، وعند الثاني ملاك بار رحيم. فليفهم الخراصون قضية الكاتبين على هذا النحو. ثم ليقرءوا القصتين من جديد على هذا النور الجديد. ليضعوا عناصر القضية مرتبة أمام بصائرهم. ليقرءوا شهرزاد أولاً، ثم ليقرءوا القصر المسحور ثانياً، ثم ليقرءوا أحلام شهرزاد بعد ذلك، وليذكروا من هو كاتب شهرزاد وما مزاجه في المرأة، وما رأيه الذي يفرق به بين جسدها وبين روحها، وليذكروا، مالا يني يكتبه عنها، وما يفخر دائماً أنه مذهبه في كل ما يتعلق بها. ثم ليذكروا من هو كاتب أحلامها وما طريقته في الأدب، وما رأيه في المرأة، وماذا كتب وما يزال يكتب عنها
ليفعلوا هذا، أو فلينتظروا حتى نعرض لهم كل ذلك.
قالت فاتنة: (أكتب ذلك يا صديقي عني، فقد آن أن تجد المرأة من ينافح عنها، ويكافح في سبيلها.) درينى خشبة