الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 506/إلى الأب أنستاس ماري الكرملي

مجلة الرسالة/العدد 506/إلى الأب أنستاس ماري الكرملي

مجلة الرسالة - العدد 506
إلى الأب أنستاس ماري الكرملي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 03 - 1943


لا. . . بل النحاة واللغويون ثقات!

للأستاذ عبد الحميد عنتر

نشرت (الرسالة) في العدد (503) مقالاً ضافياً للأستاذ (الأب أنستاس ماري الكرملي) تحت عنوان (لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين). عدد فيه بعض مآخذ عليهم، توجب عدم ثقته (دائماً) بأقوالهم، ولو كان إدلاء إجلاء، إلا بعد عرضها على محك النقد والتحقيق، فإن أظهر المحك صدق إبريزهم، وافق عليها وقيدها عنده، وإلا نبذها نبذ النواة؛ ثم عرض لذكر شئ من أخطائهم التي جمع ما يقع في مجلد ضخم. هذا ملخص تصديره

وسيكون كلامي إلى (الأب) في ثلاثة مقامات:

الأول - في منزلته اللغوية

الثاني - في تخطئته النحاة واللغويين

الثالث - في مبلغ هذه التخطئة من الصواب أو الخطأ فأقول، مراعياً الإيجاز قصارى جهدي، ومن الحق تعالى أستمد السداد

المقام الأول

لا ينكر أحد أن للأب (أنستاس) البحاثة الراوية، جولات في ميادين اللغة وصولات، وأنه يطرف قراء العربية الفينة بعد الفينة، ببحوثه الشيقة، ونقاشاته اللغوية الدقيقة الممتعة؛ ولا غرو، فإنه بذلك يحافظ على تراث أجداده الفصحاء وأسلافه من العرب العرباء. ونحن لا ننسى قولاته الضافية باحثاً منقباً عن اللغة على صفحات (الأهرام) أيام الرخاء (أعادها الله على العالم أجمع) فنحمد له غيرته على العربية، وحدبه على خدمتها، وولوعه بالبحث عن شواردها، فهو من أكابر الباحثين في اللغة المحدثين، وإن لم نر له معجماً يضارع (أقرب الموارد) للقس (سعيد الشرتوني) أو (المنجد) للأب (لويس اليسوعي) مثلاً

المقام الثاني

ظاهر عنوان المقال يحمل في طياته المقدمات ونتيجتها الحتمية الآتية:

الأب يبني بحوثه وتحقيقاته اللغوية على أقوال اللغويين والنحاة، والنحاة واللغويين ف نظره مخطئون غير موثوق بأقوالهم. فالنتيجة المنطقية أنه هو الآخر مخطئ غير موثوق بأقواله، ويلزم هذه النتيجة نتيجة عامة، هي أنه لا يثق أحد بأقوال النحويين واللغويين أجمعين!! وأحسب (الأب) لا يرضى لنفسه تلك الوصمة الشنعاء، كما أعتقد عدم صحة النتيجة العامة بالبداهة

على أن من يسمع كلمة (أخطأ اللغويون. أخطأ النحاة). التي رددها (الأب) في مقاله، يفهم أن اللغة قد أحيط بها، وأن علماء اللغة والنحو قوّضوا بنيانها، وهدموا أركانه! مع أن ما نسبه إليهم في مقاله من الخطأ (في انتقاده) لا يعدو أنهم حصروا عدداً من الألفاظ على زلة خاصة، وجاء هو ومَن قَبله بقليل يقولون:

إن في اللغة أوزاناً أُخَر تنقض هذا الحصر.

والخلاصة: أنه جعل خطأهم في العدّ، خطأ في اللغة!

لا. يا سيدي. إن الخطأ في اللغة شئ آخر. هو أن يفسر اللغوي لفظاً بغير معناه الذي تواضع عليه العرب، كأنه يفسر (الماء) بمعنى العسل، أو يجعل معنى (نَصَر) لمقلوبه وهو (رصَن)، أو نحو ذلك. ومثلك لا يحتاج إلى هذا البيان. فالحق أن العنوان بظاهره قريب، وإن تنصل الأب من هذه الريبة: بأنه لا يثق إلا بأقوال القُدامى من النحويين وعلماء اللغة. وإذا وضح أن الخطأ الذي ألصق بعلماء النحو واللغة إنما هو (في العدد) لا (في اللغة). وجب أن يقول الأب معي: (إن النحاة واللغويين إثبات ثقات، وإن كان توثيقهم في الحقيقة قطعيّ الثبوت قبل أن أوجد أنا والأب بمئات السنين.

وإن كان الأستاذ يريد بالخطأ ما وقع لصاحب القاموس أو غيره من اللغويين، فمثل هذا لم يسلم منه لغوي ولا نحوي. هذا صاحب القاموس يحصي أخطاء صحاح الجوهري، وهذا صاحب الجاسوس يحصى أخطاء القاموس، وهذا الشيخ إبراهيم ناصيف اليازجي اللُّبناني، والعلامة أحمد تيمور باشا، يؤلف كل منهما في مؤاخذات لغوية على كتاب لسان العرب، ومع ذلك لم يجرؤ أحد فيما أعلم، على القول برفع الثقة عن القاموس أو عن لسان العرب؛ بل لا يزالان ولن يزالا أهم مراجع للعلماء، وأضوء نبراس للأدباء من الكتاب والشعراء. وبعد فأظن أن هذا المقام قد استوفى حقه من التوضيح والتدليل.

المقام الثالث قلنا: إن الخطأ الذي نوه الأب بذكره في مقاله - هو خطأ النحاة واللغويين في (حصر الألفاظ لبعض الأوزان)، وهو المحور الذي يدور عليه مقاله الطويل، المقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول - فِعْلى

أورد الأب هنا قول النحاة واللغويين: ليس لنا من الجموع على وزن (فِعْلى)، ألا حجلى (جمع حَجَل لطائر) وظِربي (جمع ظَرِبان لدابة خبيثة الريح)، ولا ثالث لهما، ثم أخذ يندد بعلماء النحو واللغة، من عهد أبي الطيب المتنبي، وأبي علي الفارسي إلى عهد اللغوي الكبير الشنقيطي. فإنه لم يعثر أحد منهم على ثالث لهذا الوزن، إلا الدماميني، فقد وجد ثالثاً بعد طول عناء، وهو لفظ مِعْزَى جمع معزاة، حتى جاء الشنقيطي والأب أنستاس، فعثرا في المخصص وغيره على ستة جموع (أسماء جموع) بوزن فِعْلى، (وكلها من غريب اللغة). وهي: العِرْقي (أصول الشجر الممتدة في الأرض إلى أسفل) والعِمْقي (شجر أمر من الحنظل بالحجاز وتهامة)، والعِفْري (ريش عنق الديك)، والصِّحْنَي (نوع من السمك، وهو معرّب، ومعناه الصِّير) والذِّفْرَي (أسم جمع للعظم الناتئ خلف الأذن، واحدته ذفراة)، والشِّيزَي (خشب تصنع منه الجِفان). بهذه الكلمات ظهر خطأ النحاة وعلماء اللغة في قولهم: ولا ثالث لها.

قلت: لم يصب الأب شاكلة الصواب في هذه التخطئة؛ فإن نظرة غير فاحصة في قواعد النحو والتصريف ترشدنا إلى صواب ما قاله الأقدمون، وخطأ ما جاء به المتأخرون، وإلى القارئ البيان:

أثبت النحاة اللغويون وغيرهم، كلمتي (حجْلى وظِرِبَى) في معرض الكلام على موانع الصرف، وحكموا لهما بحكم (ذكرى) التي تمنع من الصرف لألف التأنيث المقصورة فلا يدلهما التنوين أبداً، وليس لهما ثالث في اللغة يحكم له بهذا الحكم. وأما (مِعزى) وما ذكر معها، ففيها عن العرب وجهان: الصرف وعدمه. فالمصروف منها ألفه للإلحاق بدرهم، وغير المنون منها ألفهُ للتأنيث.

ومما تجب معرفته صرفيَّا أن وزني (فَعْلى وفعلى) إذا ورد لهما مفرد بالتاء كأرطاة (شجرة) مفرد أرطي، ومِعْزاة، مفرد معزي - تحتم أن تكون الألف مع التاء فيه للإلحاق: الأول بدحرجة، والثاني بزئِبقة، ولا يجوز أن تكون الألف المصاحبة للتأنيث؛ إذ لا يجتمع في الكلمة أداتا تأنيث، فإذا عري المفرد عن التاء، فقيل أرطي ومِعزي، كان القياس يوجب أن تكون الألف إذن للإلحاق، ويكون اللفظ معها منوناً. لكن العرب صرفتهما تارة لمحاً لأصلهما مع التاء، ومنعتهما الصرف تارة أخرى، لأن ألفهما تشبه ألف جَرْجى وذكرى

والخلاصة: أن ما عدا (حجلى وظربى) لا يتحتم فيه منع الصرف. وإذاً فلا ثالث لهما يتحتم فيه المنع. وعلى ذلك فأبو علي الفارسي، والمتنبي وشارح القاموس، ومن لف لِفَّهم، كانوا على حق فيما ذهبوا إليه!

القسم الثاني - فُعَلى

نقل الأب عن تاج العروس، شرح القاموس، أنه لم يجئ على هذا الوزن إلا ثلاث كلمات لا رابع لها. وهي: أُرَبى (الداهية) وشعبي وأرمى (موضعان). ثم ذكر الأب لها أخوات بلغت ستاً؛ فتكون الألفاظ الواردة على هذا الوزن عشرة، لا أربعة كما قال صاحب التاج

أقول: ما قاله الأستاذ هنا صواب حقاً؛ لكن سبقه إلى هذا النقد أحد النحاة المتأخرين. قال الأشموني عند شرح قول ابن مالك:

والاشتهار في مباني الأولى ... يبديه وزن أُرَبى والطُّولى

(وزعم ابن قتيبة أنها لا رابع لها، ويرد عليه: أني (حب بعقد به اللبن)، وجنفي لموضع، وجَعَبي لكبار النمل) 1هـ

وهذه المآخذ أهون من أن تضع من قدر ابن قتيبة، أو ترفع الثقة. وصاحب التاج ثقة تابع في النقل لابن قتيبة، وجل (من أحاط بكل شئ علماً). والفضل كل الفضل للمتقدم

القسم الثالث - تفاعيل

أثبت الأب هنا عن تاج العروس قول العرب: (تباشير الصبح، وتعاشيب الأرض، وتعاجيب الدهر، وتفاطير النبات والشباب، ولا خامس لها؛ ثم قال (الأب): هناك سبع كلمات من هذا القبيل، وذكرها، فتكون العدة أثنى عشر جمعاً على وزن (تفاعيل)، لا أربعة كما قال صاحب التاج، وربما كان في اللغة ضعف هذا العدد أو أكثر. هذا كلامه وأقول: ما قاله الأب عين الصواب، ولكن ما كان يحسن منه أن يذيع من على منبر (الرسالة)، وهي الصحيفة العالمية للآداب والعلوم والفنون - أن مثل هذا خطأ في اللغة! بل كان الأخلق به - وهو على ما وصفت آنفاً من الدقة في البحث والتحري للصواب - أن يقول: ذلك تقصير من اللغويين في الاستيعاب، وحكم منهم على ما لم يعلموا نفيه أو ثبوته، وأو نحو ذلك من العبارات التي تلتئم وما نسبه إليهم من عيب (إن صح أن يكون ما صدر منهم عيباً)

وكلنا يعلم أن لغة العرب لغة ضخمة، وأن العبء الذي تحمله اللغويون والنحاة، في سبيل جمع شتاتها، وتنسيق كلماتها والمحافظة على سلامتها من الخطأ واللحن - كان أثقل الأعباء التي تحملها العلماء، منذ بدء التأليف والتدوين إلى وقتنا هذا

فكيف يقال مع ذلك: لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين؛ لأنهم أخطئوا في حصر بعض الألفاظ؟!

الحق أن هذا أو اقل من هذا لا يصح أن يقال.

(يتبع)

عبد الحميد عنتر

أستاذ بكلية اللغة العربية