الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 505/الحكم الذاتي في المدرسة

مجلة الرسالة/العدد 505/الحكم الذاتي في المدرسة

مجلة الرسالة - العدد 505
الحكم الذاتي في المدرسة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 03 - 1943


للأستاذ السيد يعقوب بكر

وهناك مسألة أخرى يصح التحدث عنها، وهي مسألة الإيعاز والحكم الذاتي

فللإيعاز أشكال كثيرة. ومن أعود هذه الأشكال بالفائدة شكلان: الإيعاز الإيجابي، والإيعاز السلبي. والإيعاز السلبي فيما يبدو أكثر فائدة في مضمار التربية

فالمربي يركن إلى الإيعاز الإيجابي حين يجد تلميذه أو تلاميذه ينهجون سنناً يؤدي بهم فيما بعد إلى اعوجاج تربوي. فإذا لم يرعوا تلميذه أو تلاميذه عن إنهاج هذا السنن فله حينئذ أن يسلك أحد سبيلين: فإما أن يصطنع العسف، وأما أن يرفض تحمل مسئولية ما يحدث. وصفوة القول أنه إذا وجد المربي تلميذاً ينتهج سنناً في انتهاجه ضرر تربوي، فعليه إذا استطاع أن يحول بينه وبينه، وإلا فليخبر من بيدهم القوة

على أنه يجب ألا يركن إلى الإيعاز الإيجابي كثيراً، ولكن إذا مست الحاجة إليه فليصطنع بغير تردد

أما الإيعاز السلبي فهو أدعى إلى الاهتمام. ذلك لأنه الوسيلة التي يصطنعها المربي لتدريب تلاميذه على تفقد العلاقة بين السبب والمسبب، وبذلك يعمل على أن يحقق لهم شخصيتهم العقلية. ومتى مرن هؤلاء التلاميذ على تفقد العلاقة بين السبب والمسبب فأنهم يستطيعون أن يصلوا إلى مرحلة العمل المثمر

ولنضرب للإيعاز السلبي مثلا نوضح به هذا الذي نقول. فلنفرض أن هناك فصلاً يصطنع فيه الحكم الذاتي، وأن تلاميذ هذا الفصل يبحثون مثلا مشكلة التأديب. فهناك نجد هؤلاء التلاميذ عاطلين من العقول الناضجة ومن الخبرة بالحياة، وأنهم لهذا يغفلون في اعتبارهم بعض الأحوال، فإذا ما وصلوا إلى رأي ما في هذه المسالة، فأن رأيهم هذا يكون رأياً مبتسراً غير مبني على اعتبار جميع الأحوال. وهنا يأتي دور المدرس، فإما أن يضع نطاق اعتبارهم حالة يتناولها رايهم، واما أن يسألهم مباشرة عما إذا كان خطر ببالهم انهم اغفلوا اعتبار عامل من العوامل. فإذا أدى بهم هذا إلى أن يعيدوا النظر في رأيهم ويصلوا بذلك إلى كنه المسألة، فان المدرس يكون حينئذ قد اصطنع الإيعاز السلبي ليعينهم على الوصول إلى هذا الرأي الصحيح. وإذا لم يستطعيوا الوصول إلى هذا الرأي الصحيح فعلى المدرس حينئذ أن يدعهم وما وصلوا إليه. فانهم سيدركون بالخبرة أنهم كانوا على خطأ، وأنهم لم يدخلوا في اعتبارهم جميع الحقائق.

وهنا مسألة ثالثة هي مسألة تأثيرات الحكم الذاتي. فللحكم الذاتي تأثير فيما يتعلق بالحياة، وتأثير فيا يتعلق بالنجاح في الحياة. ولنتكلم عن كل من هذه التأثيرات

1 - فيما يتعلق بالحياة

من وجوه النقد التي يمكن أن توجه إلى نظام الحكم الذاتي أنه يجبل التلاميذ على أن يحيوا حياة

مثلى بينها وبين واقع الحياة أمد بعيد، بحيث أنهم حين يلجون باب هذه الحياة يجدون أنفسهم

مضطربين إلى أن يفصلوا مما نشئوا عليه لينغمروا فيما هم فيه

والجواب على هذا الاعتراض أن الحكم الذاتي حين ينشئ التلاميذ على أن يحيوا هذه الحياة المثلى يعمل على إصلاح واقع الحياة وعلى معالجة ما فيها من عيوب. أما إذا نشأ التلاميذ على أن يحيوا حياة تشبه حياتهم الواقعة فأنه حينئذ لا يضطلع بأي إصلاح، وإنما يضمن للحياة الواقعة بقاءها على ما هي عليه من تخلف وقصور.

وهناك جواب آخر يتلخص في أنه يلاحظ دائما في أن التلاميذ يسلكون مسلكاً مضاداً لما يريده عليهم أساتذتهم. فإذا كان أساتذتهم يريدونهم على اعتناق الآراء القديمة البالية، فانهم على العكس من ذلك يعتنقون الآراء الثورية الهادمة، وإذا كانوا يريدونهم على اعتناق الآراء الثورية المجددة فانهم على العكس من ذلك ينتهجون نهجاً محافظاً. فهذه الحال الأخيرة هي ما نراه في نظام الحكم الذاتي. على أننا لا نقصد بالمحافظة هنا الجمود، بل المحافظة على خير ما في التراث القديم من تقاليد ثبتت على محك الزمان. ومعنى هذا كله أن نظام الحكم الذاتي يبث في نفوس التلاميذ روحاً مجددة ولكنة على أساس من القديم، روحاً تجمع بيم طرافة الجديد وعراقة القديم، روحاً تجدد ولكن لا تبدد.

2 - فيما يتعلق بالمنزل

لاشك في أن نظام الحكم الذاتي الذي ينشأ عليه الطفل في المدرسة يطبع هذا الطفل بطابع خاص ويحيله شخصاً آخر ويبث فيه روح الحرية والشجاعة، بحيث نراه في المنزل وقد خلع رداءه القديم، فأخذ يكثر من الأسئلة ويجادل أبويه ولا يكتم رأياً من آرائه، ويصبح بذلك كله مبعث فوضى واضطراب في البيت. ولكن بمرور الزمن نجد هذا الطفل قد اخذ يستشعر روح السعادة، ويكون بذلك مبعث سعادة في البيت.

فإذا ما لاءم والداه بين نفسيهما وما يعتنقه من رأى فإن الحكم الذاتي يكون حينئذ قد امتد أثره أليهما عن طريق غير مباشر. أما إذا لم يستجيبا له فهما على الأقل سيضطران إلى معاودة النظر في فلسفتهم في الحياة.

وصفوة القول أن للحكم الذاتي في المدرسة يداً تستطيع أن تمتد إلى المنزل فتتناوله بالتغيير والتبديل.

3 - فيما يتعلق بالنجاح في الحياة

يخيل إلى أن نظام الحكم الذاتي يؤهل التلاميذ لان يكونوا في المستقبل رجالاً يقومون بما تفرضه عليهم الحياة من واجبات، وزعماء يقودون الجماعات ويسوسون الجماهير. وليس من شك في أن هذا راجع إلى ما يبثه نظام الحكم الذاتي في نفوس التلاميذ من الاعتماد على النفس والقدرة على سياسة الغير.

وللحكم الذاتي أنصار وخصوم. فكما أن له أنصار ينادون بوجوب اصطناعه في كل مدرسة فان له خصوماً لا يفهمون منه إلا انه نوع من البلشفية نوع من البلشفية يتخلى فيه المدرس عن سلطته التقليدية ليتولاها عنه التلاميذ.

وهم يقولون انهم لا يخدعون بما يزعمه أصحاب هذا النظام من حتى الدرس في الأشراف والتوجيه. ذلك لأنهم لا يعترفون بسلطة إلا سلطة المدرس، ولا يؤمنون بحق إلا حقه.

فهؤلاء هم خصوم الحكم الذاتي. على أنهم لن تقدر لهم الغلبة عليه. ذلك لأنه صدى للحياة المتجددة، وهم صدى للقديم الموغل في القدم، وكيف يميت الصدى الحي صدى كاد يأكله الفناء؟ إلا أن الحياة لا تبقي إلا على ما يسايرها في سيرها الأبدي، أما ما يتخلف عن مسايرتها فقد حق عليه أن يموت على مدرجة الطريق غير مرئي من أحد أو مبكى من أحد.

هذه سنة الحياة، وسنة الأحياء، وسنة كل شيء.

السيد يعقوب بكر