مجلة الرسالة/العدد 505/أسس الإصلاح
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 505 أسس الإصلاح [[مؤلف:|]] |
أظرف يوم! ← |
بتاريخ: 08 - 03 - 1943 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
الإصلاح المرتجل، أو الإصلاح الجزاف، قلما ينفع وقد يضير ونعني بالإصلاح المرتجل أو الإصلاح الجزاف كل إصلاح لا ينظر فيه إلى الحاجة التي تدعو إليه، ولا إلى الأساس الذي يقوم عليه. فهو كالدواء الذي يعطى قبل معرفة الداء، أو كالعلاج الذي يعالج به الجهلاء كل داء: يفيد إن أفاد مصادفة واتفاقا، ويضير - إن ضار - لأن الشأن فيه أن يضير فلا بد لكل إصلاح من أساس يقوم عليه، ومن حاجة يغنى فيها بمقدارها وعلى حسب البيئة التي تنشأ فيها ولا بد لأولئك كله من تقدير صحيح لكثير من الأمور نقول ذلك لان حديث الإصلاح في العالم يجري على كل لسان، وينقله المتحدثون في مصر ليقيسوا عليه ما يقبل المقياس، وبخاصة ما نقلته الأنباء البرقية عن (مشروع بيفردج) في البلاد الإنجليزية، وما يرتبط به الشعب التي لا عداد لها في نواحي السياسة والاقتصاد والأخلاق ولا نريد هنا تفصيل القول في هذا المشروع، فلهذا التفصيل وقته حين ترد ألينا البحوث المسهبة التي أحاطت به من جانب القبول ومن جانب الإنكار، ومن جانب آخر غير القبول والإنكار وهو الاعتراف بالأساس كله - أو ببعض الأساس - ثم التعقيب عليه بالإضافة أو التعديل. فحسبنا الآن أن نقول إن المشروع يشتمل على النظم التي تكفل إعانة العجزة والعاطلين ووقاية الأطفال وتأمين الصحة العامة وتعويض المصابين في الأعمال القومية، وما شاكل ذلك من ضروب الإعانة والصيانة والترفيه. حسبنا هذا الآن إلى أن يحين الأوان للبحث المفصل في أجزائة، والمقابلة المفصلة بينه وبين نظائره من مواطن الإصلاح في البلاد المصرية، وفي البلاد الشرقية على التعميم. إلا أن الوقت قد حان - بل حان جداً - لإقامة هذه المشروعات الإصلاحية كلها على أساسها القويم، حذرا من يوم نصاب فيه بالإصلاح المرتجل أو الإصلاح الجزاف، فلا ننجو من غوائله إلا بعد حرب أخرى كالحرب الحاضرة، وساءت تلك من نجاة هي والمصيبة سواء!
هذا الإصلاح على أي أساس يقوم؟
إن بعض الفضلاء الذين عقبوا على مشروع بيفردج في مصر قد فهموا منه أنه غلبة للمذهب الحكومي على المذهب الفردي في معقل الفلسفة الفردية، وهو البلاد الإنكليزية وقبل التعقيب على هذا الفهم لا غنى لنا عن بيان وجيز لما نقصده من المذهب الحكومي والمذهب الفردي في صدد هذا الإصلاح، وصدد كل إصلاح من قبيله
فالمذاهب الاجتماعية تتشعب كثيراً بين الأمم الأوربية، ولكنها بعد هذا التشعب تنحصر في طرفين اثنين جامعين، وهما توسيع الحرية الفردية أو توسيع الرقابة الحكومية
فالديمقراطية تميل إلى توسيع الحرية الفردية
والنازية والفاشية والشيوعية - أيضاً - تميل إلى توسيع الرقابة الحكومية
وأنصار الديمقراطية يرون أن الرقابة الحكومية ينبغي أن تتناول الأقل الأقل من شئون الأفراد الخاصة والعامة، ولا تمتد إلى شأن من شئون العقيدة أو التربية أو المعاملة إلا بحساب شديد وقدر مقدور لا يتجوز في المزيد
وأنصار الرقابة الحكومية ينوطون بالحكومة تدبير الثروة العامة وتدبير التربية العامة والهيمنة على الأعمال ورؤوس الأموال والعلاقة بين أصحاب المصانع وعمالهم وأصحاب المتاجر والمشترين منهم، كأنما جميع هؤلاء موظفون في شركة كبيرة أو ديوان كبير
والميل الغالب بين الإنجليز هو الميل إلى الحرية الفردية سواء تمثلت في الديمقراطية أو في نظام من النظم التي تشبهها وتؤمن بصلاحها.
نزع القوم إلى ذلك في مسائل الاقتصاد، وفي مسائل السياسة، وفي مسائل الاخلاق، وفي مسائل الآداب والفنون والعلوم. فالحرية الفردية عندهم هي النعمة التي لا تعد لها نعمة، والحكومات كلها عندهم إنما هي وسيلة من وسائل تحقيق هذا النعمة الكبرى: معيار صلاحها هو مقدار فلاحها في تحقيق هذه الغاية التي لا تعلوها غاية
وتخلص مذهب القوم هذا في كتاب هربرت سبنسر عن الفرد والدولة، أو عن (الإنسان) والحكومة، تكبيراً لمكان الفرد، وحداً من مكان الدولة
وساعد القوم على الإيمان بهذا المذهب أنهم من قديم الزمان فرديون غالون في حب الحرية الفردية، أو هم فرديون تاريخياً وجغرافياً ونفسياً باتفاق الزمان والمكان، وأحداث الحياة، وتطورات النفوس
هم سكان جزيرة منعزلون، وأقاليمهم كانت فيما مضى ولايات منعزلة يشبه أن يكون كل أمير في ولاية ملكاً مستقلاً لا يدين للحكومة العامة بغير الولاء من بعيد؛ وهم ركاب سفن تعودوا أن تكون كل سفينة كأنها وحدة مستقلة فوق الماء وتحت السماء؛ وهم تجار يحرصون على حرية الأخذ والعطاء؛ وهم من سلالات الشمال (الضبابي) التي تعود أهلها الإيواء إلى المنازل كأنها القلاع والحصون لا يطرقها طارق بغير إذن من أصحابها.
فهم حريون فرديون معرقون
أفنستطيع أن نقول اليوم إن مشروع الإصلاح الجديد قد قلب هذه الأوضاع جميعها رأساً على عقب وخرج بهزيمة الحرية الفردية في معاقل الديمقراطية؟
إن قلنا ذلك فنحن ناقضون لمنطق الحوادث، بل منطق الحرب الحاضرة على الخصوص لأن الحرب الحاضرة في صميم لبابها حرب بين المعسكرين المتقابلين: معسكر الحرية الفردية ومعسكر الرقابة الحكومية.
فمنطق الحوادث إذا انتصر الديمقراطيون ألا تهزم الديمقراطية، ولا تنتصر عليها الرقابة الحكومية في نطاق واسع بعيد الآماد
وجائز أن تقتبس الديمقراطية بعض الحسنات من النظم الأخرى التي تقبل (الاندماج) في بنيتها
ولكن الذي لا يجوز أن تنتصر فيصاب مبدأها بالهزيمة، وينهدم أساسها الذي قامت عليه إنما الحقيقة أن مشروع بيفردج وما يحكيه من مشروعات الإصلاح هو انتصار للديمراطية على الفاشية والشيوعية في جوهر الخلاف بين المعسكرين
هو انتصار للقول بتعاون الطبقات على القول بحرب الطبقات، ومن ثم فهو انتصار للديمقراطيين على المعسكر الذي يقابلهم في الحرب الحاضرة
فالديمقراطية هي حكم الأمة بالأمة للأمة، ولا تناقض بين هذا المبدأ - أو هذا الأساس - وبين تعاون طبقات الأمة على المعيشة الاجتماعية
وأنصار الرقابة الحكومية هم القائلون بحرب الطبقات، وهم الذين يرجعون بالتاريخ من قديم إلى غلبة طبقة واحدة وتسخير سائر الطبقات لمنافع تلك الطبقة، ويعتقدون أن تفسيرهم للتاريخ الإنساني يقتضي في النهاية أن تتغلب الطبقة العاملة وحدها على الدولة فتنزع الأموال والأملاك وتدخلها في حوزة الدولة التي لن يكون فيها يومئذ غير طبقة واحدة فعبرة الحرب الحاضرة هي انتصار الديمقراطية التي تقول بتعاون الطبقات
بل تقول بعموم مذهب التعاون في العلاقات الدولية والعلاقات الداخلية على السواء
وإذا كان للتاريخ الإنساني معنى فهذا هو منطق الحوادث في صراع اليوم، وهذا هو منطق الحرب الحاضرة إذا شاءت لها الأقدار أن تجري إلى نهايتها على استقامة واعتدال
ونحن نؤمن أن الحرية الفردية هي رائد التاريخ الإنساني من قديم الزمان، وأنها هي مناط التقدم في الحياة الاجتماعية وفي الحياة النفسية بلا اختلاف
ويخطئ من يرجعون بنشأة الحرية الفردية إلى الثورات الحديثة، أو إلى العهد الذي شاعت فيه كلمة الديمقراطية على ألسنة الخاصة والعامة في الجيلين الأخيرين
فالحرية الفردية - أو الديمقراطية - قد نشأت مع الأديان السماوية الذي آمن فيه الإنسان بالروح وآمن بالتكليف، وآمن بالمساواة بين الأرواح أمام العزة الإلهية
يومئذ عرف الفرد أنه فرد له روح تناط بها الفرائض والواجبات، ويناط بها الثواب والعقاب
ويومئذ أصبح الإنسان (وحدة) مستقلة أمام الله
ويومئذ قام أساس الديمقراطية في الأرض قياماً لا يزول ولن يزول، إلا أن يذهب التاريخ فوضى بغير دلالة وغير اتجاه
ولهذا آمنا حق الإيمان بهزيمة الطغيان في هذا الصراع القائم على الرغم من ظواهر النجاح في بداية الصراع. لأننا آمنا حق الإيمان أنه واقف في طريق التيار الجارف، وأن الإنسانية لو كانت تريد أن تدين بالقوة الغاشمة لما كانت بها حاجة إلى الأديان تظهر بعد القوة الغاشمة هي - أي القوة الغاشمة - عند الإنسانية من بداية عهدها، بل من بداية عهد الحيوان
ولهذا نفهم أن مشروعات الإصلاح على سبيل المثال مشروع بيفردج لا تدل على هزيمة الحرية الفردية ولا يمكن أن تدل عليها وتطمع في النجاح
ولكنها تدل على التعاون بين الطبقات، والتعاون بين الأمم، والتعاون بين الأفراد
تدل على العالمية، وهي اتساع لحرية الفرد في العالم كله، واتساع لحرية كل وطن من الأوطان وهي تقدم في الاتجاه القديم: الاتجاه الذي تجلى يوم آمن الإنسانية بروحه وتكليفه واستقلاله بين يدي الله
فالحرب الحاضرة قد أظهرت أن الأمم تحارب متعاونات بين جميع طبقاتها، وينبغي أن تجني فضائل السلم في جميع طبقاتها
وعلى هذا الأساس يقوم الإصلاح الصحيح السالك في سبيل التاريخ، وليس على أساس التناحر بين طبقات بغير أمل في التوفيق والتعاون والسلام
تبقى الطبقات وتتعاون على المثال الذي ظهر في هذه الحرب