مجلة الرسالة/العدد 500/جي دي موبسان
→ الحضارات القديمة في القرآن الكريم | مجلة الرسالة - العدد 500 جي دي موبسان [[مؤلف:|]] |
الفنون الجميلة ← |
بتاريخ: 01 - 02 - 1943 |
1840 - 1893
للأستاذ حسن فتحي خليل
1 - نشأته وتكوينه وأسلوبه
ولد موبسان في قصر ميرو مسنيل في 5 أغسطس سنة 1840 وتلقى دروسه ببلدة ييفتو أولاً ثم ببلدة روان. وأمضى في ربوع مقاطعة نورماندي أسد سني صباه وشبابه، حراً طليقاً بعد دراسته اليومية، كطائر سعيد. وكان يهيم بالطبيعة الساحرة في تلك المقاطعة حتى انطبعت في ذهنه صور كثيرة من حياة الفلاحين المحيطين به
وفي عام 1870 التحق بالجيش المحارب وانغمر في ميدان الحرب كغيره من الشباب حينئذ، وعاش في محيطها وتشبعت بها نفسه، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ذهب إلى باريس والتحق بوزارة البحرية أولاً كموظف صغير، ثم انتقل منها إلى وزارة المعارف. وكان في أشد الاحتياج إلى مرتبه الحكومي ليقتات منه حتى تسمح له الحسنة التي تؤهله لأن يبدأ حياته الأدبية التي عاهد نفسه على بدئها منذ زمن بعيد
وقد هيأت له تلك الوظيفة أن يختلط بطبقة الموظفين، وأن يطلع على خفايا حياتهم وكل أحوالهم، ولكن تلك النظرة التي كان ينظر بها إليهم كانت بشعور مزيج من العبث والسخرية. وانتقشت تلك الصور في ذهنه حتى انسابت من قلمه، وظهرت واضحة جلية في قصصه
وقد صرفته قوة بنيته وحبه اللهو والعبث المغرقين في بداءة حياته عن مطالعة الأدب، فلم يجهد نفسه في ذلك المضمار الإجهاد الكافي لأديب ناشئ يحاول أن يكون نفسه. غير أن تلك الحياة التي كان يحياها قد أضافت صوراً جديدة إلى تجاربه إذا اختلط بالمجتمع الصاخب وانغمر في ملاهيه. وأول ما يتبادر إلى الذهن أنه كان مندفعاً نحو تلك الحياة اللاهية ليمل منها صوراً لأدبه؛ ولكن الحقيقة أنه إنما كان مندفعاً نحوها لكي يشعر نفسه بأنه يعيش المعيشة التي ترضي جسده وتشبع رغباته الجامحة. فقد كان قوى البنية، مفتول العضلات، محباً للرياضة وخاصة التجديف، جريئاً لا يهاب إنساناً كان فلوبير أباه الفكري؛ إذ هو الذي أخذ على عاتقه أن يدخله إلى دنيا الأدب. وتحت سيطرته بذل موبسان كل جهده لأن يرتفع بأسلوبه إلى المرتبة التي تؤهله لأن يكون شاعراً مجيداً؛ وكانت هذه هي منتهى آماله. كان فلوبير يحدثه دائماً عن كرامة الفن وواجبات الفنان؛ كما أنه غرس في نفسه كراهته للبراجوازيين والسخرية منهم ومن اعتقاداتهم العادية في كتبه. كما أخبره عن أهل الأدب في عصره وحدثه عنهم حديثاً مستفيضاً؛ وطبعه على الاستخفاف بكل أدب تجاري رخيص، ونصحه بالجد والاهتمام بتجويد كتابه، وجعل نفسه مثلاً له يسير على منواله؛ حتى أنه أشركه معه في تأليف كتابه (بوفار وبيكوشبيه) فكان يرسله إلى بعض بقع الساحل النورماندي ليعود فيقص عليه ما رآه وما استولى عليه من احساسات وشعور، فيرسم الطبيعة كما يراها دائماً وليتحرر من آراء زولا شبه العلمية التي كانت سائدة يومئذ، وأن تكون كل اتصالاته بالطبيعة فحسب
وبذلك أحيا موبسان كل الصور بمنظار في مخيلته منذ طفولته وصباه، وجعل ينظر إلى الطبيعة بمنظار صريح مستقيم سهل، وبذل قصارى جهده لأن يكون أسلوبه طبيعياً كمشاهدته، فخلا أسلوبه من المبالغات الرومانتيكية المشاهدة في أسلوب زولا والمحسنات اللفظية كأسلوب جونكور
وكان يطلع أستاذه فلوبير على كل ما يكتبه فيصححه له ويرشده إلى طريق الصواب. وأهم مؤلفاته في ذلك الوقت، وقت الاجتهاد والتحضير هي قصة (الدكتور هيراكلوس جلوس) وأهم ما يميزها وضوح نظرية التشاؤم التي بدأ يأخذ بها موبسان. كما كتب في تلك الفترة عدة مسرحيات وقصص وأشعار على الخصوص. وقد جمع ما أعجبه من شعره في كتاب صغير اسمه: (مجموعة شعر)
وكانت تلك القطع التي نشرها إنما هي في الحقيقة أقاصيص شعرية ويلاحظ أنها بداءة طيبة لما جاء بعدها. وأهم تلك القطع (على ضفاف النهر) وقد رسم فيها ذكريات غرامه وألبسها ثوباً رومانتيكياً متحدثاً عن الغرائز الحرة واللذات الجسدية.
ثم نشر قصته المشهورة فنجحت نجاحاً عظيماً وتنبه الكل له وصعد درجات المجد وعاهد نفسه منذ ذلك اليوم أن يكون قصصياً بدلاً من أن يكون شاعرا رغماً من إرادة أستاذه فلوبير. ومع أنه كان قد أخفى تلك القصة عن أستاذه إلا أنه حين قرأها أعجب بها أشد الإعجاب وهنأه عليها.
ومات فلوبير فتحرر موبسان من سيطرته الأدبية التي كان يفرضها عليه، وأصبح حراً في معتقداته وسار في الطريق التي رسمها لنفسه.
2 - أفكاره وآراؤه
كانت لموبسان عين ثاقبة تلاحظ الصور وحركاتها بسرعة فائقة ودقة آلة فوتوغرافية، فسرعان ما تنطبع تلك المرئيات في ذهنه فيتعمق في فهمها جيداً حتى يهضمها تمام الهضم. فمن صباحه إلى مسائه كان يجمع ويلاحظ كل ما يفيده في مهمته الأدبية، ولذلك نلاحظ أن كتاباته لم تكن تظهر بمظهر الكتاب النفسيين (السيكولوجيين) بل هي مقتطعة من الحياة إذ فيها ألوانها وأشكالها وحركاتها
وتدور قصصه على ناحيتين: أولاهما الناحية المرحة والحياة الاجتماعية الصاخبة التي كانت تشتهر بها فرنسا، والأخرى قصصه عن الريف النورماندي وذكريات حياته التي قضاها فيه وحديثه اللذيذ عن الأرض والطبيعة والفلاح
وتترجم كل مؤلفاته في مختلف أطوار حياته ونظرياته عن المجتمع. ففي مؤلفاته الأولى نلاحظ السخرية اللاذعة. ففي قصة لم يترك فرصة سواء في العربة أو الحانة دون أن يهزأ بالأشراف والطبقة المتوسطة والراهبات. ثم ظهرت في الحقبة التي تلي ذلك من حياته احساسات الرحمة والشفقة. أما في نهايته فكان التشاؤم ومشاغله ومتاعبه النفسية أوضح ما في كتبه في ذلك الحين. فأفكاره في ارتفاعها وانخفاضها إنما كانت تتبع ميزان صحته الجسدية في قوتها وهزالها.
كان أستاذه فلوبير يعتقد أن الفن يخفف من عبء الحياة ويجعلها سهلة لينة، ولم ييأس من تقدم العلوم ولم ينكر بلوغ النجاح، إلا أن موبسان الذي كان يستمع لتلك الآراء لم تكن لديه الثقة الكافية في الحياة. فمن مبدأ حياته كانت فلسفته اليائسة المتشائمة فوق العادة. فلم تجذبه فكرة فلوبير السليمة بقدر ما جذبته حكمة شوبنهور القائلة: (إنه لا سعادة على الأرض) وبالرغم من تكرار موبسان لنظريته المتشائمة في قصصه كثيراً لم تكن لتستند على براهين قوية. بل كل ما في الأمر أنه كتبها بشعور صادق قوي. وكان يبعث ذلك التشائم نظرته المجردة إلى الحياة الواقعية. فكان يعتقد أن الكون مجموعة متضاربة متطاحنة من القوى، وأن العلم لا يعطينا سوى فكرة ضئيلة عن هذه القوى بواسطة آلات أولية ناقصة في بعض الحالات فقط. وأنه ليس هناك أمل في التقدم أو النجاح، إذ أن نظرية التقدم ما هي إلا نظرية فاشلة، وأن الإنسان حيوان أرقى قليلاً من الحيوان الأعجم. ولعل هذه النظريات قد تبادلها غيره من قبل إلا أنها كانت شديدة التأثير على شعوره. وإنما يعود ذلك إلى مرضه الذي أصيب به، حتى أنه أصبح يخاف الرسائل التي تصله كما كان يفزع من علامات الود والمحبة التي يظهرها أصدقاؤه، إذ خيل إليه أنها محاولات اعتداء على حريته. فهو يفسر نظريته هذه بأن هؤلاء الأصدقاء إنما يشعرون بفراغ كبير في حياتهم، فيحاولون أن يتعلقوا بأهداب إنسان آخر يملأون به ذلك الفراغ. وبذلك أصبح موبسان يعتقد أن الصداقة والحب إنما هما نفاق وسراب، وأن الصلة بين كل رجل وآخر معدومة، إذ لا يمكن لأحدهما أن يفهم الآخر تمام الفهم. وعلى ذلك يجب على كل فرد أن يكون وحيداً، وبذلك امتزجت رغبته في الوحدة بخوفه من المجتمع. إلا أنه في وحدته كانت تتهيأ له خيالات يتوهم معها أن هناك شبحاً آخر يشاركه مجلسه فيبعث الخوف إلى نفسه ويدفعه دفعاً نحو الاختلاط بالأحياء الذين لم يعد يفهمهم جيداً. وقد زاد ذلك التعذيب خوفه من الشيخوخة والموت. فكانت فلسفة التشاؤم التي يسير على هديها تدفعه إلى الثورة دائماً. وأخيراً لم يجد منفذاً لهذه الخواطر والأفكار التي تعج بها رأسه حتى كان يرفض أي مناقشات أدبية، وأصبح يعتقد أنه ليست هناك أية قيمة للأدب، وأنه إنما يكتب تلك الأسطر لكي يكتسب منها بعض المال
وفي عام 1889 بدأ يفكر في الانتحار كما يتضح لنا من قصة ? إذ تخيل فيها انتحاراً قانونياً يسمح لليائسين أن يناموا إلى الأبد باسمين مرتاحي الضمير. وقد طرقت هذه الفكرة مخيلته كثيراً في أيامه الأخيرة وحتى هم بتنفيذها، وكان حينئذ في طريقه إلى الجنون الذي أراحه من عناء هذه الدنيا وتفكيره الأسود في كل أحوالها
وعلى ذلك فإذا تدبرنا هذا الشاب الموفور الصحة في مبدأ حياته، والذي هده المرض في أخريات أيامه حتى ساقه إلى الجنون فبدأ يسمع نداءات الموت ترن في أذنيه، أمكننا أن نتتبع النغمات الصادرة من مؤلفاته في هذه الأطوار
3 - نهايته سبق أن قلنا إنه بالرغم من مظهره القوي فإن صحته بدأت تتهدم منذ عام 1884؛ ثم ظهرت عليه بوادر الجنون في عام 1891. وفي أول يناير سنة 1892 حاول الانتحار في بلدة (كان) ولكنه فشل. وأُدخل مصحة الدكتور بلانش حتى توفي في 6 يوليو سنة 1893 وهو على حالة من الجنون
4 - مؤلفاته
يعتبر موبسان من أشهر كتاب الأقصوصة؛ ويمكننا أن نضمه الآن إلى زمرة الكتاب الكلاسيك؛ إذ أن أعماله تدرس بالمدارس لأنها غذاء طيب للعقول. ففي أمريكا وألمانيا تعتبر مؤلفاته من أهم مختارات الدراسة بمدارسها. كما وضعت أعماله في برامج الامتحانات العليا بفرنسا؛ وقدمت عنه بعض الرسالات كما جمعت أعماله وطبعت كلها في مجلد كامل كأعمال فلوبير وبلزاك. فمن عام 1880 إلى عام 1890 نشر موبسان حوالي ثلاثمائة أقصوصة جمعت في مجلدات هي:
سنة 1881
سنة 1883
سنة 1884
سنة 1885
سنة 1888 سنة 1887
سنة 1886
سنة 1890
سنة 1889
?
سنة 1889
كما نشر ست قصص طويلة وثلاثة كتب عن الرحلات وأربع مسرحيات.
حسن فتحي خليل