مجلة الرسالة/العدد 50/لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته
→ مسلمو السودان الغربي يحاولون كشف أمريكا في | مجلة الرسالة - العدد 50 لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته [[مؤلف:|]] |
نزع السلاح ← |
بتاريخ: 18 - 06 - 1934 |
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قالوا إن الأصمعي كان ينكر أن يقال في لغة العرب (مالح)، ويقول إنما هو ملح، وان (مالح) هذه عامية، فلما أنشدوه في ذلك شعراً لذي الرمّة يحتجون به عليه قال: إن ذا الرمّة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زماناً. . . .
يريد شيخنا هذا: أن (المالح) في الأكثر الأعم يكون مما يبيعه البقالون، ولغتهم عامية مُزالة عن سننها الفصيح، مصروفة إلى وجهها التجاري. ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زماناُ حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العامي، ولم يخالط عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الأصمعي شيئا، ولكن روايته تخبّر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمس ما يلتمسه الشعراء، فلما كان بها استضاق فلم يصب لجوفه غير الخبز، ولم يجد للخبز غير (المالح) يُسيغه به ليجد المسلك في حلقه، قالوا فيأتي البقالين فيبتاع منهم السمكة (المالحة) والبقلة (المالحة)، ويعرفونه مضيقاً إلى فرج، فيُنسئون له في الثمن إلى أجل، حتى يمتدح وينال الجائزة. قالوا ثم يمطره الممدوح ويلوي به ولا يرى في تلفيق العيش رخصاً إلا في (المالح) فيتتابع في الشراء ويمضون في أسلافه إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره، ويرى هو أن لا ضمان للوفاء بما عليه إلا نفسه، فما بدٌّ أن يتراءى لهم بين الساعة، فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم، وهم على طبعهم وهو على سجيته. ثم لا يقتضونه ثمناً، ولا يزالون يمدون له، فلا يزال (المالح) أيسر منالاً عليه، كما هو إلى نفسه أشهى وفي جوفه أمرأ، لمكان أعرابيته، وخشونة عيشه، فيصيب عندهم مرتعه من هذا (المالح). قالوا ثم يرى البقالون أن لا ضمان لما اجتمع عليه إلا أن يكون الشاعر معهم، فيلزمونه الحوانيت بياض يومه، ويغلقونها عليه سواد ليلته، فهم يمسكونه بالنهار، وتمسكه الحيطان والأبواب بالليل.
فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب الأيام إلى حساب الأهلة أُحضر الشاعر كربه وهمه، ولم يعد (المالح) ينجع فيه، ولا يجد به غذاء بل حريقاً في الدم، ورأى أنه قد امتحن بهذا. (المالح) الخبيث، واشرط نفسه فيه، وارتهنها به، فلا يزال من (المالح) هم في نفسه، ومغص في جوفه، ولفظ على لسانه ودين على ذمته؛ ولا يزال مهموماً به، إذ طريق من طريقين: إما الوفاء ولا قدرة عليه من مفلس، وأما الحبس ولا طاقه به لشاعر. وحبس ذي الرمة في ثمن (المالح) هو حبس عند الشرطة، ولكنه قتل أو شر من القتل عند صاحبته مية إذا ترامى إليها الخبر، والأعرابي الجلف الذي يحبس في ثمن (المالح) عند الوالي بعد أن بات زماناً رهناً به في حوانيت البقالين لا يصلح عاشقاً لميّ، وهي من هي! (لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي) فلا (المالح) من غذائها، ولا لفظ (المالح) من الكلام الذي يكون في فمها العذب. وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تأنف لنفسها ومكانها من عشق هذا الأعرابي الغليظ الخشن الذي ألحقه (المالح) باللصوص والعارمين، وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا الأعرابي لها سواداً على سوادها في الناس، فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقية، وابيض من الزهرة البيضاء؟
قالوا: ويصنع الله لغيلان المسكين، فيمدح وينافق ويحتال، ويعده الممدوح بالجائزة إذا غدا عليه، ويكون ذلك والشمس نازلة إلى خدرها، فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرامائه من البقالين يبيت فيه أخرى لياليه، ويغلقون عليه وقد سئموه آكلاً وماطلاً، وهان عليهم فلا يعتدونه لا فأراً من فئران حوانيتهم، غير أنه يأكل فيستوفي، ولم يعد اسمه عندهم ذا الرمة، بل ذا الغمة. . . فلم يعطوه لعشائه هذه المرة لا ما فسد وخبث من عتيق (المالح)، فهو نتن يسمى طعاماً، وداء يباع بثمن، وهلاك يحمل عليه الاضطرار كما يحمل عل أكل الجيفة، وكانوا قد وضعوه في آنية قذرة متلجنة طال عهدها بالغسل والنظافة، وفيها بقية من عفن قديم، فلصق بها ما لصق، وتراكب عليها ما تراكب، ووقع فيها ما وقع.
ثم يتهيأ الشاعر لصلاة العشاء يرجو أن تناله بركتها فيستجيب الله له ويفرّج عنه، وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه، ولكن (المالح) الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضرم على أحشائه وهو صيف قائظ، فما زال يطفئه بالشربة بعد الشربة، والمصة بعد المصة، حتى اشتف القدح وأتى عليه، فيكسل عن الصلاة ويلعن (المالح) وما جر عليه. ثم يعضه الجوع فيكسر خبزته ويسمي ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة، فينظر في الآنية وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس فإذا في (المالح) خنفساء قد انفجرت شبعاً، ويدقق النظرة فإذا دويبة أخرى قد تفسخت وهرأها (المالح) وفعل بها وفعل. قالوا وتثب نفسه إلى حلقه ولا يرى الطاعون والبلاء الأصفر والأحمر إلا هذا (المالح) فيتحول إلى كوة الحانوت يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن (المالح) عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل. ويطول ذلك عليه حتى إذا كاد ينشق لمع الفجر لعينه فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من (المالح) وأوضار (المالح). ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت. ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه (المالح).
قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقه فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا (كالمالح) في الأطعمة. ثم يغلبه الطبع، وينزو به الطرب، وتهزه الحياة فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار ميّ، وفي (عقله الباطن) حوانيت وحوانيت من (المالح)، فيأتي هذا (المالح) في شعرة ويدخل في لغته فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه (المالح)، وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر:
ولو تفلت في البحر والبحر (مالح) ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
أو مثل قول القائل:
بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها (المالح) والطريا
هذه هي الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي ولا مذهب عنها في التعليل إذا صار (المالح) كلمة نفسية في لغة ذي الرمة على رغم أنف الأحمر والأسود، والأصمعي وأبى عبيدة، فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة (المالح) فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش، وغلبه ما لابد أن يغلب من تسلط (وأعيته الباطنية)
والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن ابلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولابد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهاً وجاء به الهاجس على وجه آخر.
وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل - ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى، فلا تنظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام إلا يكون له في الأدب والبلاغة (مالح) كمالح ذي الرمة وإن كان ابلغ الناس لا ابلغ كتاب الصحف وحدهم.
و (المالح) الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا أنه كتب في إحدى الصحف عن ديوان هو في شعر هذه الأيام كالبعث بعد موت شوقي وحافظ رحمهما الله، فيأتي بالمجاز بعد الاستعارة بعد الكناية مما قاله الشاعر ثم يقول: هذا عجيب تصوره، لا أعرف ماذا يريد، البلى للشعاع غير مقبول. ولا يزال ينسحب على هذه الطريقة من النقد ثم يعقب على ذلك بقوله: (والأصل في الكتابة أنها للافهام، أي نقل الخاطر أو الإحساس من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفس، ولا سبيل إلى ذلك إذا كانت العبارة يتعاورها الضعف والإبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الأداء، وإذا كنت تستعمل اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد به، فكيف تتوقع مني أن افهم منك.)
لا، لا، هذا (مالح) من مالح الأدب، فإذا كان الضعف والإبهام والركاكة وسوء الإفهام وضعف الأداء - آتية في رأي الكاتب من استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له - فان محاسن البيان من التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية ليس لها مأتى كذلك إلا استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له.
وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً).
أتراه يقول: كيف قدم الله، وهل كان غائباً أو مسافراً، وكيف قدم إلى عمل، وهل العمل بيت أو مدينة؟
ثم كيف يصنع في هذه الآية: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أيسأل: وهل للأرض حلق تحركه عضلاته للبلع، وإذا كان لها حلق أفلا يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلاج وطب؟
وماذا يقول في حديث البخاري: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت الدم، أو صوتاً يقطر منه الدم (كما في الأغاني) أيوجه الاعتراض على الصوت وجرحه ودمه، ويسأل: بماذا جرح، وما لون هذا الدم، وهل للصوت عريق فيجري الدم فيها؟
إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وان كانت منها، وإلا فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الأدب، إذ هي من هذه الناحية لا يقدح قيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام.
ههنا خوان في مطعم كمطعم (الحاتي) مثلاً عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافاً مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل. أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس الا، به ينضاف الجمال إلى المنفعة فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معاً، وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعوراً متصلاً بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعوراً متصلاً بالمائدة.
وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة هو بعينه فنية السهولة وروحيتها. وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف.
والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها، بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيته وروحيته؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئاً إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينتأ من هنا وينخسف من هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة المطلقة في الوضع كما يتفق هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة (كما يتفق).
والطريقة التي يكون بها الجمال جميلاً هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغاً، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس.
وأنت فقل: إن هذا مفهوم وهذا غيرمفهوم، وذاك سهل والآخر معقد، وواضح ومغلق، ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقته. انك في ذلك لا تدل على شئ تعيبه أو تمدحه في الجمال أو البلاغة اكثر مما تدل على ما يمدح أو يعاب في نفسك وذوقها وإدراكها.
ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه، فان محالاً أن تكون الجميلة ممدوحة مذمومة لجمالها في وقت معاً، وإلا كانت قبيحة بما هي به حسناء، وهذا شد بعداً في الاستحالة، وحكمك على شئ هو عقلك أنت في هذا الشيء.
ومتى اتفق الناس على معنى يستحسنونه وجدت دواعي الاستحسان في أنفسهم مختلفة، وكذلك هم في دواعي الذم إذا عابوا. ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكون الحكم، ورجع إليها المختلفون، والتزموا الأصول التي رسمتها وتقررت بها الطريقة عندهم في الذوق والفهم فذلك ينفي أسباب الاختلاف لما يكون من معاني التكافؤ وخاصة المناسبة. ولهذا كان الشرط في نقد البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيانه لم تفسده نزعة أخرى، وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطالت ممارسته لهذا الفن فليس له نزعه أخرى تفسده.
وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية، إذ هي بطبيعتها تريد دائماً ما هو اعظم، وما هو اجل، وما هو أدق. وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفاً وتعسفاً ووضعاً للأشياء في غير مواضعها؛ ويخرج من هذه انه عمل فارغ، وإساءة في التأدية، وتمحل لا عبرة به. ولكن فنية النفس والشاعرة تأبى لا زيادة معانيها فتصبح ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف احساسها، فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس. ومن ذلك يأتي الشعر دائماً زائداً بالصناعة البيانية لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعياً في الطبيعة إلى أن يكون روحانياً في الإنسانية. والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما هو جامد مستلق كالنائم أو كالميت، وبهذا لا تكون حقيقة المحسنات البيانية شيئاً اكثر من أنها صناعة فنية لابد منها لأحداث الاهتياج في ألفاظ اللغة الحساسة كي تعطي الكلمات ما ليس في طاقة الكلمات أن تعطيه.
لقد تكلموا أخيراً في جناية الصحافة على الأدب. والصحافة عندي لا تجني على الأدب ولكن على فنيته، فلها من الأثر على سليقة البليغ وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة على طبع ذي الرمة وسليقته. وكلما قرب الصحافي من الصنعة وحقها على الجمهور بعد عن الفن وجماله وحقه على النفس، وهذا واضح بلا كبير تأمل، بل هو بغير تأمل. . .
مصطفى صادق الرافعي