مجلة الرسالة/العدد 50/في الأدب الفرنسي
→ من الأدب الغربي | مجلة الرسالة - العدد 50 في الأدب الفرنسي [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 18 - 06 - 1934 |
7 - الدوق دي لاروشفو - كو
للدكتور حسن صادق
إننا نعجب باحتقار حطام الدنيا والزهد فيها، ونعد ذلك فضيلة، ولكن لاروشفوكو يقول عنها: (احتقار الثروة كان عند الفلاسفة رغبة مستترة في الانتقام لجداراتهم من الحظ، باحتقار النعم التي حرمهم منها، يدفعون به عن أنفسهم ذل الفقر، كان سبيلاً ملتوية يسلكونها لاكتساب الاعتبار الذي حرمتهم منه رقة العيش) (موعظة رقم 54). ومعنى قوله إن بعض الناس يزهدون في الثروة انتقاماً لجداراتهم من الحظ، وهذا كبرياء. وبعضهم يتخذون هذا الزهد سلاحاً يدفعون به أنفسهم ذل الفقر، وهذا خداع. وبعضهم يتخذونه مجازاً إلى الاعتبار، وهذا طموح؛ أي أن لاروشفوكو يجعل مصدر هذه العاطفة الراقية الكبرياء والخداع والطموح.
الاعتدال فضيلة جميلة، ولكن لاروشفوكو يقول عنها: (الاعتدال هو خوف الوقوع في جحيم الحسد واتقاء الازدراء الذي يستحقه من تثمله السعادة، انه تفاخر جديب بقوة العقل، وعلى الجملة اعتدال الناس في أرقى درجات علوهم هو الرغبة في الظهور اكبر من حقيقة مركزهم وثروتهم) (موعظة رقم 18) (الاعتدال لا يستطيع أن يتطلع إلى مناجزة الطموح واخضاعه، لأنهما لا يجتمعان مطلقاً. هو فتور النفس وكسلها، كما أن الطموح نشاطها وتوقدها) (موعظة رقم 293). (عد الاعتدال فضيلة ليخفف من غلواء الطموح الذي يتملك العظماء، وليتعزى به صغار الناس عن ضآلة ثروتهم وجدارتهم) (موعظة رقم 308). فالخوف والغرور والكبرياء والكسل هي جوهرة فضيلة الاعتدال. وهذه الفكرة برهان آخر على أن لاروشفوكو استخلص مواعظه من عصره، لأنها تنطبق على خلق مازاران. كان هذا الوزير يتكلف البشر إذا اختلت مصالحه ليظهر للناس أن المحن لا تروعه، ويتصنع الرزانة إذا كلل النجاح أعماله، ليظهر أن الرفاهية لا تستخفه طرباً. ولكن اعتداله الكاذب لم يخف على أحد معاصريه. أما (فوكيون) الإغريقي - مثلاً - فقد اشتهر بالاعتدال النقي وشهد له به أهل أثينا وأيدت حياته شهادتهم. ولما حكم عليه بشرب السم قال لابنه والكأس في يده: (آمرك وأرجو منك إلا تحمل للاثنين في صدرك غلا أو ضغينة من اجل موتى) جلد الحكماء يستدر إعجابنا، ولكنه في اعتقاد لاروشوكو (ليس إلا فن كتمان اضطرابهم في دخيلتهم) (موعظة رقم 20)، أي أن الحكمة ليست شيئاً آخر غير النفاق. ولو قيد لاروشفوكو هذه الفكرة قليلاً ولم يضعها في صيغة عامة لكان اصح. إذ يروي التاريخ أخبار حكماء كان الجلد عندهم غراماً بالفضيلة لا ينال منه خوف أو أمل. ولنضرب مثلاً: سقوط الحكيم الذي جلس في سجنه قبيل إنفاذ حكم الموت فيه يحدث أصحابه عن موضوعات فلسفية هامة، وهو اشد ما يكون هدوءاً واطمئناناً (راجع فيدون لأفلاطون). وكيف نعرف أن الهدوء الظاهر يخفي اضطراباً باطنياً؟ انه في هذه الحالة ينم عن نفسه مهما حاول المضطرب إخفاءه. ومثل هذا الإنسان لا يسمى حكيماً. وإذا لم يبد لنا اثر من آثار الاضطراب، فليس من حقنا الجزم بوجوده.
وماذا يقول لاروشفوكو عن فضيلة العدل؟ (حب العدل ليس عند كثرة الناس إلا الخوف من وقوع ظلم عليهم) (موعظة رقم 78). وهو لم يميز العدل الذي يصدر عن إيهام نفساني وما يسمى صرخة الضمير وينتج الأعمال الكريمة، من العدل الذي يصدر عن التفكير والروية وينتج القانون الذي يمنع أعمال الظلم من الوقوع.
ثم يقول عن الطيبة: (الإنسان العاجز عن أن يكون شريراً، لا تستحق طيبته المديح، والطيبة في هذه الحالة - أي حالة العجز عن فعل الشر - ليست في الأغلب إلا خمولاً أو ضعف إرادة) (موعظة رقم 237). وهذه الفكرة نقد لخلق الملكة ان دوتريش
ونذكر عقب الطيبة قوله عن الفضيلة التي تمت إليها بصلة كبيرة، وهي الشفقة: (الشفقة في الأغلب شعور بآلامنا في آلام الغير. إنها تبصر ما هو في عواقب المحن التي قد تصيبنا. إننا نقدم المعونة للغير لنضمن معونته في ظروف مماثلة لظروفه. وهذه الخدمات التي نسديها إليه هي في الواقع معروف نسديه إلى أنفسنا مقدماً) (موعظة رقم 264). وهذه الفكرة لا تدعو إلى العجب بعد الذي ذكره عن الشفقة في معرض حديثه عن نفسه. وقولة (في الأغلب) يدل على إيمانه بوجود الشفقة النقية التي تتفجر من القلب وتسبق كل تفكير وتأمل، وتنتج الخير من تلقاء نفسها، وفي بعض الأحايين على الرغم مما تتطلبه المصلحة الذاتية. وهذه العاطفة الزم ما يكون للإنسانية لأنها بلسم البائسين، تربط القوي بالضعيف، والمجدود بالمحدود، ولن يصيبها العفاء مادام على الأرض بشر.
وتأتي عقب الشفقة فضيلة الشكر على المعروف، فيقول عنها: (شكر الكثرة من الناس إلا رغبة خفية في الحصول على معروف اكبر من الذي حصلوا عليه) (موعظة رقم 298).
ومن الطيبة والشفقة المتبادلة والشكر تنتج الصداقة: (إننا لا نستطيع أن نحب شيئاً لا تربطنا به اصرة، ولا نتبع غير ذوقنا ولذتنا لما نفضل أصدقاءنا على أنفسنا. وهذا التفضيل فقط هو الذي يجعل الصداقة حقة كاملة) (موعظة رقم 81)، أي أننا ننسى مصلحتنا الذاتية في سبيل أصدقائنا ونجد في هذا النسيان لذة. وهو يذكر هذه الكلمة للحط من قيمة هذه العاطفة، ولكنها لذة فيها نبل وبطولة.
ولم يلبث أن أنكر وجود الصداقة التي توهب ولا تباع، فقال: (الصلح مع أعدائنا ليس إلا رغبة في إصلاح حالنا، والملل الناشئ من عناء الحرب، والخوف من وقوع حادث سيئ) (موعظة رقم 82). وهذه الفكرة مأتاها الحرب الأهلية التي سبق الكلام عنها. فان لاروشفوكو الذي دفعته مصلحته الذاتية إلى الاشتراك في هذه الحرب، رغب في الصلح بعد أن جرح رأسه وهلك زرعه ودمر قصره، خشية أن تصيبه ملمات أخرى.
وكانت الملكة ان دوتريش أثناء هذه الحرب لا تثق بمن يلتفون حولها لأنها لم ترض طموحهم، وتوجس منهم خيفة كما يدل على ذلك قولها: (متمناي أن يبقي الليل في مجثمه أبداً لأني لا أرى في النهار إلا أناساً يدأبون على خيانتي). فالبلاط والثائرون لم يلجأوا إلى الصلح إلا فراراً من الملل الناشئ من عناء الحرب، وخوفاً من وقوع حوادث أليمة، ورغبة في إصلاح حالهم). ثم قال في موضع آخر: (إن ما يسميه الناس صداقة ليس إلا شركة، أو إدارة وتدبير مصالح ذاتية متبادلة، أو تبادل ضروب المعروف. وهي على الجملة ليست إلا تجارة يتطلع حب الذات فيها دائماً إلى شيء يربحه) (موعظة رقم 83). (إننا نقنع أنفسنا في اكثر الأحايين بأننا نحب من هم اكثر منا قوة واشد بأسا. وفي الحق أن المنفعة هي فقط التي تنتج صداقتنا؛ ونمنحهم هذه الصداقة ابتغاء خير نروم الحصول عليه منهم، لا في سبيل خير نريد أن نهديه إليهم) (موعظة رقم 85).
تتمه البحث في العدد القادم
حسن صادق