مجلة الرسالة/العدد 50/بين المعرى ودانتي
→ مشروع القرى | مجلة الرسالة - العدد 50 بين المعرى ودانتي [[مؤلف:|]] |
أعيان القرن الرابع عشر ← |
بتاريخ: 18 - 06 - 1934 |
9 - بين المعرى ودانتي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
بقلم محمود احمد النشوي
قد وعدنا أن نحدثك عن خيال دانتي في الانتحار والمنتحرين وعما وصف به ما هم فيه من عذاب. فلعلك على ذكر من أن أبا العلاء لم يتبع سبيل الخيال إبان ذلك، بل سلك طريق الحكماء، ولعلك على ذكر أيضاً من تعليله. فأما دانتي فقد انتحى نحو الخيال يستمد منه الزراية بالانتحار والمنتحرين، فبينما هو في الدرك السابع من جهنم إذ رأى غابة موحشة، أشجارها متجعدة الأغصان، متجردة إلا من أشواكها المسممة الأطراف، وقد ملئت وحوشاً أنصاف جسومها في زي الأناسي، وأنصافها الأخرى على هيئة طيور، وهي ترفع صوتاً تنخلع منه القلوب عن أبدانها، فسار في جنبات تلك الغابة على خيفة من وحوشها، وهو يسمع أنات وزفرات لا يعلم طريقها، فسأل عنها فرجيل فأجابه: أن اقطع طرفاً من هذه الغصون لعلك تتعرف تلك الأنات، فصدع بالأمر، وامتدت يده إلى غصن لم يكد يجتذه حتى نطقت له تلك الشجرة صاحبة الغصن قائلة: لم نزعتني؟ أليس في حنايا قلبك شيء من الرحمة؟ لقد كنا رجالا مثلكم، وقد صرنا نباتاً، فأما شجرات تلك الغابة فهم المنتحرون نبتوا اشجاراً كان مأواها جهنم وبئس القرار وأما تلك الشجرة التي قطع دانتى غصنها فهي الشاعر (بيير ديللي فيني وقد كان في حياته الدنيا مستشاراً لحكومة الإمبراطور فردريك الثاني، فخدم مليكه مخلصاً في خدمته، ولكن السنة السوء عبثت به فتقولت عليه الأقاويل، فأصاخ لها الإمبراطور وفقأ عيني مستشاره، وألقى به في ظلمات السجن، فأكبر بيير ما حاق به وهو الشاعر الملتهب العاطفة، فضرب برأسه في جدران السجن ضربة أودت بحياته، وختم أيامه بتلك الجريمة الكبرى، فلم يك ينفعه إخلاصه، ولم تك تنفعه أمانته، بل دخل النار مع الداخلين، وكان شجرة في تلك الغابة الموحشة التي تنخلع لهولها القلوب.
في الطريق إلى الفردوس
لقد كان طريق الفردوس في خيال المعري مليئاً بالمفاجآت الطريفة، وبالدعابة الساخرة، ينبعث من كل عبارة فيها ما يضحك الثكلى. وسندع ابن القارح يقص علينا حديث ذلك الطريق، وما تذرع به لدخول الجنة، إذ يحاور تميماً بن أبي ويسأله عما يريده بكلمة (المرانة) من قوله:
يا دار سلمى خلاء لا أكلفها ... إلا المرانة حتى تسأم الدنيا
فيجيبه تميم بان الحساب العسير أنساه كل شيء، فلم يدخل الجنة ومعه كلمة من الشعر أوالرجز، ثم يقول لابن القارح أن حفظك لمبقي عليك كأنك لم تشهد أهوال الحساب، فيقص عليه ابن القارح حديث الموقف، وحديث دخوله فراديس الجنان، وانه يمم شطر رضوان خازن الجنان يمتدحه بشعره، فلا يزداد رضوان إلا إعراضاً عنه، وصدا دونه، ولما لم تجد مع رضوان ضراعة الشعر، صاح ابن القارح قائلا: يا رضوان! استطالت مدة الحساب، ومعي صك التوبة، وقد امتدحتك بأشعار كثيرة، فيستجيب دعاءه ثم يحاوره، لا في دخول الجنة بل في تعريف الشعر وفائدته. وفي جمع كلة شعر، ثم ينتهي بينهما الحوار إلى منعه من دخول الفردوس دون إذن من رب العزة. فلا تنقطع أطماعه بل يذهب إلى خازن آخر اسمه زفر يمتدحه بالشعر فيقول له زفر احسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد، ولا ينفق عن الملائكة. فمن أي الأمم انت؟ فيقول له من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فيقول له زفر: صدقت ذلك نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأن إبليس اللعين نفثه في إقليم العرب، وقد وجب علي نصحك، فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ما ابتغيت. فيتركه ابن القارح غضبان أسفاً، ثم يسير في طريقه فيرى حمزة بن عبد المطلب فتتجدد آماله، وترجع له ثقته بالشعر: يأمل أن يجد له نفاقاً لدى ابن عبد المطلب، فيناديه وينشده، فيقول له حمزة: ويحك! أفي مثل هذا الموقف تحييني بالمديح؟ إني لا اقدر لك على ما تطلب. بيد انه يرسل مع رسولا إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ليخاطب النبي ﷺ في أمره، فلما قص عليه القصص، قال له: أين صحيفة حسناتك؟ فيبحث عنها فإذا بها سقطت في شجار بين أبي علي الفارسي وبين شعراء حرف كلامهم، وأول أغراضهم، تدخل ابن القارح في فضه قائلاً: يا قوم، هذه أمور هينة، فلا تعنتوا الشيخ فانه ما سفك لكم دماً ولا احتجن عنكم مالاً. وعاد إلى كتاب التوبة يبحث عنه فلم يجده، فجزع وهلع؛ ولكن أمير المؤمنين قال له: لا عليك، ألك شاهد بالتوبة؟ فقال له نعم، يشهد لي عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب (حرسها الله) في أيام شبل الدولة، فيناديه الهاتف فيجيبه بعد لأي شاهد بتوبته. ولعل أمير المؤمنين كرم الله وجهه اتهم تلك الشهادة فأعرض عنه. بيد أن اليأس ولم يخامر قلبه، فذهب إلى العترة متوسلاً بهم، قائلاً: إني كنت في الدار الذاهبة إذا كتبت كتاباً وفرغت منه قلت في آخره: وصلى الله على سيدنا خاتم النبيين، وعلى عترته الأخيار الطيبين؛ وهذه حرمة لي ووسيلة. فقالوا ما نصنع بك؟ فقال أن مولاتنا فاطمة عليها السلام تخرج من الجنة كل حين مقداره أربع وعشرون ساعة من ساعات الدنيا الفانية، فتسلم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، فإذا هي خرجت كالعادة فاسألوها في أمري باجمعكم، فلعلها تسأل أباها في ذلك. فلما جاءت قال لها جماعة الأبرار: هذا ولي من أوليائنا قد صحت توبته ولا ريب انه من أهل الجنة، وقد توسل بنا إليك (صلى الله عليك). فقالت لأخيها إبراهيم دونك الرجل، فقال له إبراهيم: تعلق بركابي، وطارت الخيل في الهواء من الزحام حتى بلغ الركب الرسول ﷺ. فقالت له فاطمة رضي الله عنها: هذا رجل سأل فيه فلان وفلان. فقال حتى ينظر في عمله: فسأل عن عملي فوجد في الديوان الأعظم وقد ختم بالتوبة، فشفع لي، فأذن لي في الدخول.
(يتبع)
محمود احمد النشوي