مجلة الرسالة/العدد 5/في الأدب العربي
→ فلسفة برجسون | مجلة الرسالة - العدد 5 في الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
اثر اللغة العربية في العالم الإسلامي ← |
بتاريخ: 15 - 03 - 1933 |
ابن خلدون في مصر
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
ترددت خلال العام الماضي دعوة لأحياء ذكرى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده، فاستجابت دوائر التفكير والأدب في جميع البلاد العربية لهذه الدعوة الكريمة، وأقيمت عدة حفلات علمية للإشادة بذكره وخالد آثاره، ولا سيما في تونس مسقط رأسه ومطلع مجده، وفي مصر مقام شيخوخته ومثوى رفاته؛ وحفلت المجلات والصحف حينا بمختلف البحوث عنه. ولكن ناحية من حياة المفكر الكبير لم تلق كبير عناية، تلك هي حقبة مقامه بمصر، وصلته بها، وأثره فيها؛ وهذا ما نريد أن نعنى به في هذا الفصل تحية لذكرى المؤلف والفيلسوف الاجتماعي الأشهر.
غادر ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون تونس في منتصف شعبان سنة 784 هـ (أكتوبر سنة 1382م)، فوصل ثغر الإسكندرية في يوم عيد الفطر بعد رحلة بحرية شاقة، ويقول ابن خلدون في (تعريفه) عن نفسه، أنه قدم إلى مصر لينتظم منها في ركب الحاج، وأنه لبث بالإسكندرية شهرا يهيئ العدة لذلك، ولكن لم يتح له يومئذ أن يحقق هذه الغاية، فقصد إلى القاهرة، وكان قضاء الفريضة حجته الظاهرة في مغادرة تونس، واستئذان سلطانها أبي العباس في السفر إلى المشرق. ولكن ما يقصه ابن خلدون من الحوادث قبل ذلك يدل على أن مغادرته لتونس كانت فرارا؛ وكانت خشية من بطش سلطانها، وغدر بلاطها. وكان ابن خلدون قد أنفق نحو ربع قرن في خوض غمار السياسة ودسائس القصور، وتقلب في خدمة معظم سلاطين المغرب والأندلس، وذاق نعم الرياسة ومحن النقمة مرارا، وعانى مرارة السجن والأسر وخطر الهلاك غير مرة. ولم تهدأ نفسه المضطرمة بشغف المغامرة والنضال والدس الا في كهولته، يوم أعيته الحيل، وغلبته الأرزاء والمحن، وفقد عطف معظم القصور التي تقلب فيها، وأضحى يتبرم بقضاء تلك المهام السلطانية التي كان يتخذ قضاءها وسيلة للنفوذ والرياسة. عندئذ عافت نفسه غمر السياسة ودسائس القصر، فارتد في أواخر سنة 776هـ، إلى قلعة نائية منعزلة بناحية أولاد عريف بالمغرب الأوسط؛ وهنالك أنقطع للبحث والتأليف مدى أربعة أعوام، وأخذ في كتابة تاريخه الضخم، وأنجز منه مقدمته الشهيرة وعدة مجلدات أخرى. ثم رأى أن يقصد إلى تونس ليستكمل مراجعه في مكاتبها، وكانت بينه وبين سلطانها وحشة؛ فاستأمنه وحصل على رضائه؛ وغادر مقامه النائي إلى تونس فوصل إليها في شعبان سنة 780. وهنالك اشتغل بإتمام مؤلفه بتكليف السلطان ورعايته حتى أتمه ورفعه إلى السلطان، ومدحه يومئذ بقصيدة طويلة أوردها في (تعريفه). وكان ذلك لنحو عامين من مقدمه إلى تونس (782 - 1380م).
وهنا ألقى ابن خلدون نفسه في معترك جديد من الدسائس، وقصده رجال البطانة بالكيد والسعاية لدى السلطان، وأغروه أكثر من مرة باستصحابه إلى غزواته ومهامه الخطرة، فخشى ابن خلدون عاقبة السعاية، ولم يجد في تونس ما كان ينشده من هدوء وسكينة، فانتهز فرصة وجود السلطان في تونس، ووجود سفينة مصرية في مرساها تقصد الإسكندرية، فألح على السلطان في الإذن له بالسفر لقضاء الحج، وركب البحر بمفرده تاركا أسرته في تونس، فوصل الإسكندرية كما قدمنا في يوم عيد الفطر سنة 784.
كان مقدم ابن خلدون إلى مصر إذا، نوعا من الفرار وخيفة البطش والمحنة، ولم يكن قضاء الفريضة قصده المباشر، بل كانت حجته الظاهرة. وكان يرجو بلا ريب أن يقضي بقية أيامه بمصر في هدوء ودعة، وأن ينعم بذلك الاستقرار الذي لم تهيئه له بالمغرب حياة النضال والمغامرة. وكان يومئذ في الثانية والخمسين من عمره، ولكنه كان وافر النشاط والقوة، يتطلع دائما إلى مراتب النفوذ والعزة؛ وكانت القاهرة يومئذ موئل التفكير الإسلامي في المشرق والمغرب، ولبلاطها شهرة واسعة في حماية العلوم والآداب، فكان يرجو أن ينال قسطه من هذه العناية والحماية. ووصل ابن خلدون إلى القاهرة في أول ذي القعدة سنة 84 - نوفمبر سنة 1382؛ فبهرته ضخامتها وعظمتها وبهاؤها كما بهرت سلفه ومواطنه الرحالة ابن بطوطة قبل ذلك بنصف قرن وكما بهرت على كر العصور كل من رآها من أعلام المشرق والمغرب. ولا غرو فان المؤرخ لم ير بالمغرب سوى تلك المدن الصخرية المتواضعة، ولم ير بالأندلس حيث قضا ردحا من الزمن، مدينة في عظمة القاهرة وروعتها. وهو يهتف للقاهرة اثر مقدمه ويحييها بحماسة تنم عن عميق إعجابه وسحره وتأثره، ويصفها في تلك الفقرة الرنانة: (فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك؛ تلوح القصور والأواوين في جوه. وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء، يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجة؛ ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. . .)
ولم يكن ابن خلدون نكرة في مصر. فقد كان المجتمع القاهري يعرف الكثير عن شخصه وسيرته؛ وكانت نسخ من مؤلفه الضخم ولا سيما مقدمته الشهيرة قد ذاعت قبل ذلك بقليل في مصر وغيرها من بلدان المشرق، وأعجبت دوائر العلم والتفكير والأدب بطرافة مقدمته وجدتها وروعة مباحثها. فلم يكد يحل بالقاهرة حتى أقبل عليه العلماء والطلاب من كل صوب. يقول ابن خلدون في كبرياء وتواضع معا: (وأنثال عليّ طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذرا) وهذا ما تشير إليه التراجم المصرية؛ فيقول أبو المحاسن بن تغري بردي في ترجمته لابن خلدون: (واستوطن القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد) ويقول السخاوي: (وتلقاه أهلها (أي أهل مصر) وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد عليه، بل تصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة. . .). جلس ابن خلدون للتدريس بالأزهر، والظاهر أنه كان يدرس الحديث والفقه المالكي، ويشرح نظرياته في العمران والعصبية وأسس الملك ونشأة الدول؛ وغيرها مما عرض إليه في مقدمته. وكانت هذه الدروس خير إعلان عن غزير علمه، وشائق بحثه، وساخر بيانه. وكان ابن خلدون محدثا، بارعا رائع المحاضرة، يخلب لباب سامعيه بمنطقه وذلاقته. وهذا ما يحدثنا به جماعة من أعلام التفكير والأدب المصريين الذي سمعوه أو درسوا عليه؛ ومنهم المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي الذي سمعه ودرس عليه فتى وكذا الحافظ ابن حجر؛ فقد درس عليه وأنتفع بعلمه ووصفه بقوله: (وكان لسنا فصيحا، حسن الترسل وسط النظم؛ مع معرفة تامة بالأمور خصوصا متعلقات المملكة) ونقل السخاوي عن الجمال البشيشي أنه (كان فصيحا مفوها جميل الصورة) وعن الركراكي (أن محاضرته إليها المنتهى).
وهكذا استطاع ابن خلدون لأول مقدمه أن يخلب الباب المجتمع القاهري، وأن يستثير إعجابه وتقديره؛ ولكن صفاء الأفق من حوله لم يدم طويلا كما سنرى، وفي أثناء ذلك اتصل ابن خلدون بأمير من أمراء البلاط يدعى علاء الدين الطنبغا الجواني، فشمله برعايته، وساعده على التقرب من السلطان والاتصال به. وكان السلطان يومئذ الظاهر برقوق؛ وقد ولى الملك قبيل مقدم ابن خلدون بأيام قلائل (أواخر رمضان سنة 784)، فأكرم وفادة المؤرخ واهتم بأمره؛ يقول ابن خلدون: (فأبر مقامي. وانس الغربة ووفر الجراية من صدقاته، شأنه مع أهل العلم) وبذا تحققت أمنية المؤرخ من الاستقرار والمقام الهادئ في ظل أمير يحميه ويكفل رزقه، ولم يمض قليل على ذلك حتى خلا منصب للتدريس بالمدرسة (القمحية) بجوار جامع عمرو وهي من مدارس المالكية فعينه السلطان فيه. ويعني ابن خلدون في تعريفه، بوصف مجلسه الأول في هذا المعهد؛ فقد شهده جمع من الأكابر أرسلهم السلطان لشهوده؛ والتفوا حول المؤرخ. وألقى ابن خلدون في ذلك الحفل خطاباً بليغاً، يحرص على إيراده بنصه. وقد تكلم فيه بعد الديباجة عن فضل العلماء في شد أزر الدولة الإسلامية. وعن تغلب الدول. ثم أشاد بما لدى السلاطين المصرية من فضل في نصرة الإسلام، وإعزازه، ومن همم في إنشاء المساجد والمدارس، ورعاية العلم والعلماء والقضاة، ثم دعا للملك الظاهر، وأشاد بعزمه وعدله وعقله؛ وعطف بعدئذ على نفسه، وما أوليه من شرف المنصب في تلك العبارة الشعرية: (ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحة المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون يسقط علينا من غصنه المورق. . أولوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا همتي إيضاحاً ونكرتي تعريفاً، ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف. . . إلخ)