مجلة الرسالة/العدد 5/الكتب
→ المبارزة | مجلة الرسالة - العدد 5 الكتب [[مؤلف:|]] |
ضحى الإسلام ← |
بتاريخ: 15 - 03 - 1933 |
فتح العرب لمصر
تأليف الدكتور ألفرد. ج. بتلر
وتعريب محمد فريد أبو حديد
للأستاذ عبد الحميد العبادي. أستاذ التاريخ بكلية الآداب
سمعت أستاذنا الجليل احمد لطفي السيد بك يقول مرة ما معناه: أننا الآن في دور النقل والتعريب من حياتنا العلمية. وهو قول لا غبار عليه، فان زمن الاقتصار على تراثنا العلمي والأدبي القديم قد انقضى منذ عهد بعيد، وزمن الابتكار في العلم والأدب لم يأت بعد، وينبغي أن يتقدمه زمن نتوفر فيه على نقل أصول العلوم والفنون والآداب الغربية إلى لغتنا العربية إقتداء بما فعل السلف الصالح في صدر الدولة العباسية.
أننا بهذا التوفر نبث في حياتنا العلمية روحا جديدا، ونكسبها مادة جديدة وأسلوبا في البحث والعرض العلمي جديدا، ونكون قد مهدنا للحياة العلمية المستقلة، وأعددنا لها أساسا قوياً راسخا لا يخشى عليه من تطاول البنيان ومرور الزمان، ونكون قد أدينا واجب العلم والوطن والإنسانية جميعا.
لكن الترجمة الصحيحة عبء ثقيل مضن يقتضي كثيرا من الجهد والتضحية. فهي من ناحية المترجم تتطلب غزارة علم وأدب، وإنكارا شديدا للذات، يستعذب معه المترجم أن يكون أسيرا للمؤلف الذي ينقله، وقليل من الناس من يصبر على مثل هذا العناء. ثم هي تقتضي من ناحية الناشر، وبخاصة في بلدنا هذا، أن يوطن نفسه على الخسارة المادية تصيبه مما ينشر، فإذا استطاع أن يخرج من الأمر كفافا لا له ولا عليه فحسبه ذلك.
والناشر يُعد تاجر يقيس قيمة الكتب بالفائدة المادية المرجوة منها، فماذا يحمله على أن يعرض ماله للضياع؟
من اجل هذا كسدت سوق الترجمة في بلدنا، وتأثرت حياتنا الأدبية بهذا الكساد تأثرا شديدا، حتى أصبحت لا شرقية ولا غربية، ولا قديمة ولا حديثة، ولكن الحمد لله، فقد أخذت هذه الحال تؤذن بالتحول والزوال. وآية ذلك ما نسمعه عن التفكير في وضع قاموس عربي جديد يجمع شتات اللغة التي أصبحت إلى حد بعيد سماعية غير مدونة. ومن آيته أيضاً ما ترجم في السنوات الأخيرة من غرر أدب الغرب وعلمه. نذكر من هذه الغرر على سبيل المثال: كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، ونظام الأثينيين لأرسطو، وآلام فرتر لجوته، وفاوست له أيضاً، والشاهنامه للفردوسي، وأصل الأنواع لدارون، ثم كتاب فتح العرب لمصر، وهو الذي سقنا هذه المقدمة تمهيدا للتعريف به أصلا وترجمة.
ألف كتاب (فتح العرب لمصر) منذ ثلاثين سنة بحاثة إنجليزي هو الدكتور الفرد. ج. بتلر، ونقله إلى العربية منذ عام صديقنا الأستاذ محمد فريد أبو حديد، ثم نشرته في هذه الأيام لجنتنا المباركة لجنة التأليف والترجمة والنشر. والكتاب يقع في قرابة ستمائة صفحة مكسورة على ثلاثين فصلا وبضعة ملحقات. في الفصول الأربعة الأولى يعرض المؤلف الحال السياسية العامة للدولة الرومانية في أوائل القرن السابع الميلادي ويتكلم عن الثورة التي انتهت بأن أصبح هرقل عاهل الدولة المذكورة، وفي الفصل الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع يتكلم عن غزو الفرس الشام ومصر، فنهضة هرقل واسترداده الإقليمين المذكورين وعقده مع الفرس صلحا أعاد إلى الروم شرفهم العسكري، فالحال الأدبية للإسكندرية خاصة لذلك العهد. وفي الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر يتكلم عن ظهور الإسلام، وفتح العرب الشام ومصر، واضطهاد قيرس البطريرك الملكاني للأقباط في السنوات العشر السابقة على الفتح. ومن الفصل الرابع عشر إلى الثالث والعشرين يفصل المؤلف الكلام عن حوادث الفتح العربي لمصر، فيتكلم عن زحف عمرو بن العاص على مصر وبلوغه مدينة مصر، فغزوة الفيوم، فواقعة عين شمس، فحصار حصن نابليون وأخذه، فالزحف على الإسكندرية والاستيلاء عليها، فاخذ المدن الساحلية الشمالية، فانتهاء السيادة الرومانية على مصر. ومن الفصل الرابع والعشرين إلى الثلاثين يتكلم المؤلف كلاما ممتعا موضوعه حال الإسكندرية وقت الفتح، ومكتبتها المشهورة، وحريق هذه المكتبة المنسوب إلى عمرو، وغزو عمر لبرقة وطرابلس، والنظام الإداري الإسلامي الذي وضع لمصر عقب الفتح. ثم يتبع المؤلف هذه الفصول بملحقات حقق فيها، بصفة خاصة، شخصية المقوقس، والترتيب الزمني لحوادث الفتح العربي. والكتاب إلى جانب ذلك كله مزود بخرائط ورسوم تعين على فهم موضوعه.
من هذا العرض العام يتبين القارئ أن المؤلف قد أحاط بموضوع الفتح العربي لمصر أتم الإحاطة، واستوعب وقائعهكل الاستيعاب، والحق أن الدكتور بتلر قد جلا موضوعا من أوعر موضوعات التاريخ الإسلامي، وحل كثيرا من ألغازه: أوضح شخصية المقوقس وكانت غامضة، ورتب حوادث الفتح ترتيبا أدنى إلى الصحة منه في أي مصدر قديم، وأتى بالقول الفصل في حريق مكتبة الإسكندرية، وبين وجه الخلاف القديم في فتح مصر، أصلحا كان أم عنوة؟ على أن الكتاب يؤخذ بنقص جوهري واحد: ذلك أن المؤلف عنى بالجانب السياسي والديني فقط من حال مصر قبيل الفتح وأغفل شئونها الإدارية والاقتصادية على ما كان لها من أثر قوي في سهولة انتقال مصر من حكم الروم إلى حكم العرب. ولقد ظهر في هذا الموضوع في العشرين سنة الأخيرة بحوث قيمة كنا نود لو أن الكتاب طبع طبعة ثانية تضمن نتائجها. من هذه البحوث: (النظام العسكري لمصر البيزنطية) لجان ماسبرو، و (الإدارة المدنية لمصر البيزنطية) لجرمين رويارد.
ثم أننا لا نوافق المؤلف على تصويره لغارة عمرو على الفيوم، فهو يرى أن عمرا عندما بلغ رأس الدلتا ورأى قلة من معه من الجند، وحرج موقفه بين جنود الروم جنوبا وشمالا، أرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستمده، ورأى في الوقت نفسه أن يشغل جنده ويستنقذهم من الخطر ريثما يصل المدد، فتكلف عبور النيل إلى شاطئه الغربي، وأغار على الفيوم ثم عاد فعبر النيل ثانية، فوجد المدد قد قدم من المدينة. لا شك أن هذه طريقة غريبة جدا في الخلاص من المواقف العسكرية الحرجة، ثم هي لا تأتلف بحال مع ما عرف عن عمرو من شدة الدهاء وبعد المكيدة. يضاف إلى ذلك أن المصادر العربية من حيث هذه الغزوة نوعان: فنوع لا يعرفها بالمرة، ونوع يعرفها، ولكنه يوردها على صورة تجعلها أقرب إلى المعقول من الصورة المذكورة؛ ومع ذلك لم يعتمد عليها المؤلف واكتفى بمتابعة يوحنا النقيوسي بحجة إنه أقدم عهدا من كل المصادر العربية. ولكن القدم وحده لا يكون دائما دليلا على صحة المصادر التاريخية. كذلك يؤخذ على المؤلف حكمه في الفصل الحادي عشر بأن غزوة تبوك المشهورة كانت فشلا، لأنها لم تؤدي إلى ما كان الرسول يرمي إليه بها من مصادمة الروم. والحق أنها أدت إلى ما كان النبي (ص) يرمي إليه من شد سلطانه السياسي على شمال الحجاز. بقيت ملاحظة يسيرة: لقد توهم المؤلف أن مسيلمة المتنبئ ظهر باليمن (ص131) والصحيح أنه ظهر باليمامة.
ومع ذلك فهذه الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب العلمية، وحسب القارئ أن يعلم أن الدكتور بتلر قد أقام في كتابه، تاريخ الفتح العربي لمصر على أساس علمي متين، وأنه إلى الآن لم يظهر في ذلك الموضوع كتاب آخر يدانيه، فضلا عن أن يفوقه.
أما الترجمة العربية لكتاب فتح العرب لمصر فأحب قبل كل شيء أن أهنئ صديقي فريدا على توفيقه فيها أخلص التهنئة. فقد جاءت صورة صادقة للأصل مطابقة له فقرة فقرة وجملة جملة. هذا مع سهولة العبارة وسلاستها ووضوحها، مما يشهد للأستاذ فريد بالبراعة في صناعة الترجمة. ولكن ليت شعري أي مترجم، ولو كان الأستاذ فريد نفسه، يترجم زهاء الستمائة صفحة ثم لا يهفو قلمه ولا ينحرف عن الأصل الذي ينقل عنه يمنة أو يسرة؟ على هذا الاعتبار أهدي إلى الأستاذ فريد هذه الملاحظات اليسيرة.
جاء في صفحة 25 هذه العبارة (النذر اليسير) وصوابها (النزر) بالزاي المعجمة. وفي صفحة 27 عرب اسم المستشرق المشهور بـ (دي جويجة) وصوابه (ده غويه) ووردت في صفحة 27 أيضاً كلمة (المونوفيسية) واحسن منها أن يقال (المذهب اليعقوبي). وجاء في صفحة 123 (هزيمة تبوك) بدلا من (فشل غزوة تبوك) وهو المقابل للأصل، وفي صفحة 83 ترجمت (بالفقه) وصوابها (اللاهوت)، وجاء في صفحة 218 (تسور الزبير إلى الحصن) والصواب أن يحذف حرف الجر، وفي صفحة 228 ترجمت بـ (قناطر) وأصح من ذلك (جسور) لأن العرف جرى بإطلاق اللفظ الأول على البناء الثابت الذي يعقد فوق الأنهار وهو غير المراد من اللفظ الإنجليزي. وجاء في صفحة 255 (وكانت مسلحة المدينة) بدلا من (وكانت حامية المدينة). وفي صفح 406 (وقال عنه النواوي) وصوابه (النووي) بدون ألف المد.
على أن هذه الملاحظات أيضاً لا تضر الترجمة شيئا. وإذا كان الكتاب مثالا يحتذى من حيث دقة البحث العلمي، فترجمته العربية مثال ينسج على منواله من حيث أمانة النقل وصحة التعريب.