مجلة الرسالة/العدد 5/إسكندر يقتل صديقه!
→ مسارح الأذهان | إسكندر يقتل صديقه! إسكندر يقتل صديقه! عبد الوهاب عزام |
مجمع البحور وملتقى الأوزان ← |
بتاريخ: 15 - 03 - 1933 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
إسكندر يثبت عرشه وسلطانه وهيبته وكبرياءه في مقدونية واليونان، ثم يتوجه تلقاء آسيا.
الفريقان من اليونان والفرس يلتقيان على نهر (كرانيكوس) الصغير عام أربع وثلاثين وثلاثمائة، فيتاح لإسكندر أول فتح في آسيا، وتخضع له المدائن حتى سرديس، فقد دانت له آسيا الصغرى كلها.
ثم يتقدم صوب الجنوب، فيجتاز طوروس ويسير تلقاء الشام. وإذا جيش دارا، الجيش اللهام الذي لا يغلب من قلة رابض في طريقه. وفي سهل إسوس الضيق بين الجبال والبحر تزدحم مئات الألوف في المعترك، ويسقط في البحار مائة ألف من الفرس، ويفر دارا وينهب معسكره، وتؤسر أمه وزوجه وابنتاه. . فانظر إسكندر قد قهر (الملك الأعظم) ملك الفرس الذين طالما فخر اليونان بأنهم احتملوا صدمتهم، وردوهم عن بلادهم!!
يتقدم الفاتح العظيم فيقهر مدن الشام، وتقاومه صور وتتحدى جبروته وسلطانه، ثم تخر أمامه بعد حصار سبعة اشهر، فيقتل منهم ثمانية آلاف، ويؤسر ثلاثون ألفا فيباعون عبيدا، ويصلب على القلاع ألفان عبرة ونكالا! ذلكم إسكندر الفاتح العظيم، وذلكم جزاء من يقف في سبيله!
ويفتح إسكندر مصر عام اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ويرفع نسبه إلى أمون. ثم يجمع جنده ويسير إلى العدو الأكبر الملك الأعظم. يجتاز الفرات ودجلة إلى حيث يعسكر دارا. وهنالك على مقربة من أطلال نينوى العظيمة التي تندب مجد آشور الغابر، وعلى سبعين ميلا إلى الشمال والغرب من مدينة أربيل، ليس بعيدا من ملتقى عبد الله بن علي العباسي، ومروان بن محمد خاتمة الخلفاء الأمويين، حيث سقطت دولة وقامت دولة! هنالك تراءى الجمعان، وعسكر إسكندر تجاه دارا، ويشير (برمينيو) على الفاتح المقدوني أن يهاجم عدوه ليلا، فيأبى مجد إسكندر وكبرياؤه، فيقول له: (أنا لا أسرق النصر). ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر صوب المشرق. أرأيت بابل العظيمة مدينة السحر والعلم؟ ها هي تفتح أبوابها لإسكندر ويباركه كهنتها. ويطوي الملك الشاب المراحل إلى سوس وأصطخر حاضرتي الفرس، لا يصمد لمدينة إلا فتحها، ولا يعمد لجيش إلا مزقه.
تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء بإسكندر إلى ما وراء النهر في طريقه شطر الهند، بعد أن طارد دارا حتى عثر به في الطريق قتيلا.
إسكندر العظيم في مدينة سمرقند عام سبع وعشرين وثلاثمائة. قد طوى المراحل والممالك ما بين مقدونية ونهر سيحون. ينعم هنالك بالشباب والظفر والملك الفسيح، والكنوز التي لا تحصى، والجند الذي لا يعد إسكندر الآن أعظم ملك في العالم كله.
ويدعو أصحابه وقواده إلى مأدبة في سمرقند، فيأكلون ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادون، ثم تترع للملك المظفَّر كؤوس من الإطراء والإعجاب والآجال والإكبار، ويغلو المتملقون المعجبون فيرفعونه فوق الأبطال جميعاً. ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون إلا عن نسب ألهي، بل يرفعونه إلى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب في إعظام مآثره والإعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل لنفسه ما نال أبوه من ظفر آخر عهده، ويغض من فيليب وإن كان أباه!.
يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم لا ينبسون. و (كليتوس) رابض ينظر إلى إسكندر ومادحيه ساخطا محملقا. كليتوس أيحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق القديم أخو (لانيس) حاضنة إسكندر التي قتل اثنان من أبنائها تحت رايته، كليتوس الذي نجى إسكندر في معركة كرانيكوس حين أبصر أحد الفرس يهوي بسيفه إلى الملك من خلفه فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك. كليتوس هذا لم يستطع صبرا على الغض من فيليب! قال كليتوس: ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد الحاضرين؟ أن فيليب كان عظيما! ثم تأخذه الحدة فيقول: (ليست مآثره دون مآثر ابنه! لا، أن مآثره لأعظم. فقد خلق الرجل لنفسه ملكا وجيشا. وإنما صلت أيها الملك بما أورثك فيليب من ملك ممهد وجند مدرب. إنما ظفرت بفضل هؤلاء المقدونيين الذين تحقرهم اليوم وتقدم الفرس عليهم. ألم تقتل برمنيون العظيم؟)
هاج الحاضرون وقذفوا كليتوس بالجدل والتوبيخ. وثار ثائر إسكندر الفتى الفاتح الذي سخر ملك مصر وبابل وآشور وفارس، إذ قرعت أذنه لأول مرة نبأة ناقد يعترض كلامه ويرد عليه دعواه. غضب إسكندر وصاح بكليتوس يزجره ويجادله، وانحاز الحاضرون للملك المعجب بنفسه، وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائما ويصيح مادا يده إلى الملك: (اذكر أن حياتك دين لهذه اليد التي نجتك يوم كرانيكوس! وأصغ لصوت الحق الصراح، أو تجنب دعوة الأحرار إلى مأدبتك، واختص العبيد بصحبتك!)
اهتاج إسكندر لموقف كليتوس ولذكرى كرنيكوس وبرمنيون، فنهض يتحسس خنجره، فإذا الخنجر بعيد قد نحاه أحد الحاضرين. فينادي الحرس مغضبا هائجا ويأمر أن ينفخ في الصور إيذانا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان، وتقدم نحوه بطليموس (وبردكاس) القائدان الكبيران فأحاطا به وأمسكا يده برفق يسكنان ثورته، ويكسران حدته، ويحيط آخرون بكليتوس يخرجونه من البهو، فيأبى أن يخرج فيعترف بأنه أساء واعتدى. ويقول إسكندر: (وا أسفاه! إن قوادي قد غلوني كما فعل بسوس بدارا. وإنما لي من الملك اسمه). ويتقدم إسكندر تلقاء كليتوس، ولا يجرؤ القواد أن يقفوه قسرا، ثم ينقض كالصاعقة فينتزع حربة من أحد الجند فيغمدها في صدر كليتوس الصديق القديم!
يرتاع الحاضرون. ويفيق إسكندر من نشوته وثورته وعنجهيته، فيفتح عينيه فإذا كليتوس طريح يضطرب في دمه.
خرج إسكندر من البهو يعدو إلى فراشه، فارتمى عليه ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، يبكي بدموع عزت على الخطوب الشداد، وغلت في الحوادث السود. ويتمادى به البكاء، وكلما كفكف دمعه تمثل له صديقه طعينا بيده، ويلعن نفسه نادما، ويهتف باسم كليتوس وأخته لانيس، ثم يقول: ويلي! أنا الغادر الكنود. لقد جزيت كليتوس ولانيس شرا بما أحسنا ألي. لست بعد اليوم جديرا بالحياة.
ويجتمع إليه صحبه يعزونه. ويسوغون ما عمل، فلا يزداد الا حزنا واكتئابا وندما وأسفا، ويجتمع الجند المقدونيون فيجمعون على أن كليتوس قتل بحقه، وأنه ينبغي الا يدفن، فيغضب إسكندر ويقول: كلا! أنه سيدفن بأمري. ويأتي الكهنة فيقولون: أن الملك لم يقتل صديقه بيده، ولكنها نقمة من الإله (ديونسوس) أجراها على يد الملك انتقاما لنفسه بما حرم القربان في هذه المأدبة. ثم يأتي الفيلسوف (انكشر خوس) فيقول: أيها الملك أن الذي أنت فيه لعجز. وأنك أيها الملك العظيم والفاتح القاهر لجدير بأن تحل وتحرم وتحق وتبطل بإرادتك لا أن تخضع للقوانين التي سنها الناس. ثم يأتي كلستنوس الفيلسوف فيجهد أن يهون على الإسكندر ما فعل.
فارق إسكندر مضجعه بقلب كليم إجابة لنصحائه وإجابة لواجبه في هذه البلاد النائية. ولكني أحسب الجرح قد ذهب مع إسكندر إلى قبره!
إسكندر العظيم لم يعظم عليه مطلب، ولا بعدت على همته غاية، ولا ثبتت في طريقه دولة، ولا وهن قلبه في سلم ولا حرب، ولكن إسكندر الفاتح القاهر، والملك المسلط، لم يحتمل وخزة واحدة من وخزات الضمير، فخر كالطفل يبكي ويتململ، وكاد يبخع نفسه فرارا من الندم!
أن عذاب الضمير هو العذاب الأكبر، ولكن لا يعرفه الا ذوو الضمائر، وقليل ما هم!
لله در كليتوس! لقد ذهب مثلا في الوفاء، وأين في الدنيا الأوفياء؟
ولله در كليتوس صريع الوفاء! ولله در إسكندر صريع الوجدان!.