مجلة الرسالة/العدد 499/الطيران بين أسلحة الحرب
→ الحضارات القديمة في القرآن الكريم | مجلة الرسالة - العدد 499 الطيران بين أسلحة الحرب [[مؤلف:|]] |
أشواق. . .! ← |
بتاريخ: 25 - 01 - 1943 |
الملازم الأول حسين ذو الفقار صبري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
سنجد إذا نظرنا في أمر (الناقلات) أن ما ذكرناه عن القاذفات ينطبق عليها تماماً، إذ أنهما نوعان متماثلان، لا يختلفان في شيء اللهم إلا في تصنيف الأحمال، وليس في تقدير الأحجام والأثقال؛ هذه ارتحلت بالقنابل والمقذوفات، وتلك نقلت الرجال والعتاد أو ربما نقلت جنود الهابطات
أما (المنقضات)، أدوات التحطيم التكتيكي، فهي طائرات تعمل ضد أهداف ضاقت مساحتها وإن عظمت أهميتها كمدافع الميدان، أو معاقل المقاومة، أهداف لا تميز إلا من ارتفاع بسيط، إصابتها عسيرة إلا إذا هوت عليها الطائرات كالعقبان. فهذه إذن طائرات مقدرتها على الاحتمال عظيمة: هياكلها متينة، تغالب ضغوطاً نشأت عن حركات اعتدال عنيفة إثر سقطات هاوية، وطائرات كهذه يجب أن يكون ثقلها محدوداً حتى لا تؤثر جاذبية الأرض عليها تأثيراً كبيراً، فيا حبذا لو تمكنا من اجتجاز ما تبقى من ثقلها هذا المحدود. لحساب محرك قوي يساعدها على الانطلاق سريعاً. ولكن هل ترانا نسينا أنه يجب عليه اقتسام ذلك الثقل الفائض مع قنابل ضخمة لولاها لما أنشئت تلك الطائرات ولا كان لها وجود؟ فلتقنع (المنقضات) إذن بمحرك ضعيف يتركها فريسة سهلة لطائرات الأعداء، إلا إذا أحطناها بالمقاتلات تحرسها وتحمي ظهرها، فتعينها ولو قليلاً على القيام بواجبها وتنفيذ مآربها
تلك هي أنواع الطائرات الرئيسية، وياليتها كانت مقسمة ذلك التقسيم البسيط! إن واجبات الطيران أصبحت عديدة متفرقة، لا تؤديها على الوجه الصحيح إلا أنواع من الطائرات تعددت بتعددها، وتخصص كل نوع منها كل التخصص، كل منها يخالف الآخر في خواصه بل يناقضه أحياناً وإن تضافروا جميعاً نحو الغاية وتكاتفوا على الهدف
وتعدد أنواع الطائرات هنا هو بالذات السبب الرئيسي الذي وقف في سبيل سيطرة الطيران سيطرة تامة على ميادين القتال؛ فإن السلاح الذي كتب له التحكم والسيطرة يجب أن يكون سلاحاً مرناً متعدد النواحي لا الأنواع، يقابل كل حالة طارئة بأسلوب جديد يناسبها، أو مبتدع يعالجها. وما الحرب إلا ظاهرة اجتماعية لبشر يعيشون على وجه الأرض، ولذا سيظل سلاحها الأساسي جيوشاً تعمل مثلهم على وجه الأرض
بعد الحرب الماضية بقليل، غمرنا الجنرال الإيطالي (دوهيه) بمقالات عديدة ومؤلفات كثيرة ما قرأها قارئ إلا انقاد لآرائه وسلم بصحتها. فوثق من أن حروب المستقبل القريب هي حروب الفناء، حين تبسط الطائرات أجنحتها من شرق السماء إلى غربها، وتنقض على البلاد تمحوها، وعلى معالمها تدرسها
ولم يكتف (دوهيه) بالوصف والتصوير، بل قدم برنامجاً مفصلاً شاملاً، لم يترك فيه صغيرة إلا ذاكرها، ولم يمنعه الإمعان الطويل في الزوايا والأركان، من الابتعاد بين الحين والحين ليرنوا إلى هيكل بنائه كاملاًن فيضع قواعده، ويرسم خطوطه، بحيث تتسق بداخله التفاصيل، وتتماسك لتكون وحدة لا تنفصم
ولكن ذاك البرنامج عسير التنفيذ إلا على دولة ملكت من الطائرات عدداً عديداً، وكان لها منها وفرة وفيرة. فيقوم الإيطالي يدعو بعدم (تبذير) الميزانيات على الجيوش والأساطيل، فهي في نظره أشياء لا نفع فيها، ويتشبث بوجوب إنفاق أموال الدولة كلها في سبيل بناء الطائرات، بل يذهب إلى أن يخص منها بالذكر القاذفات، ويهمل المقاتلات وطائرات الاستطلاع. ويجب علينا هنا الانتباه إلى إحساس (دوهيه) العميق: باستحالة ضمان السيطرة للطيران إلا إذا تمكنا من تركيز قوتنا في نوع واحد من الطائرات، ظنه قادراً على مجابهة جميع الطوارئ. وهذه لم تكن طوارئ بمعنى الكلمة، بل تيارات مرسومة يسيرها المهاجم كيفما شاء، (وهيهات أن تنعدم في هذا العالم المفاجئات)، فهو إذن مشروع جامد تنقصه المرونة اللازمة لكل أداة يريدها الإنسان لمجابهة مشاكل الكفاح في سبيل الحياة، تلك المشاكل التي لا تبرز مجسمة كل التجسم إلا أثناء الحروب التي هي أشد مظاهر كفاح الحياة تركيزاً وأعنفها صورة
ومع ذلك فقد أرتكن مشروع (دوهيه) هذا على كثير من الأسس الواهية
قسم (دوهيه) مراحل الهجوم إلى ثلاث؛ أولاها: مرحلة تحطيم مطارات الأعداء وتدمير قوتهم الجوية، فما يكاد يجهز عليها حتى ينتقل إلى مناطق الصناعة يدك أركانها ويقوض أساسها؛ ثم يلتفت أخيراً إلى مساكن المدنيين يصدّع أجنابها ويهدّم سُقفها. هي (الحرب الكلية) لا تبقى على شيء ولا تذر؛ هي حرب سلاحها القاذفات تحمل أسباب الهلاك والفناء على دفعات ثلاث، دفعات متعاقبة متلاحقة؛ السابقة منها تمهد السبيل للاحقة، واللاحقة منها تباري السابقة في افتنان وسائل الدمار، أولاها قذائفها ثقيلة ضخمة، والأخيرة سلاحها أرق من النسيم، وأفتك من ألف قنبلة تدافعت نحو الهدف. هذه هي جراثيم أمراض وبائية حشرت في أنابيب صغيرة، ولكنها سلاح يعجز عن إلحاق الضرر الشامل إلا إذا سبقتها حالة عم فيها الفزع، واختلط خلالها الحابل بالنابل، وانقلب أثناءها العالي على السافل؛ حالة شُلت فيها وسائل الوقاية، وانعدمت أثناءها أسباب العلاج. حالة تخلقها القاذفات بإشعال الحرائق الكبيرة تستعر وتمتد حتى لا يعود إنسان يفكر في رفيق، ولا أخ في شقيق، ولا أم في وليد. ولكن هل يسعنا إشعال تلك الحرائق ما دام هناك على الأرض أفراد لها مترقبون. وبكامل الوسائل مستعدون؟ لا مناص إذن من إقصائهم عن مراكزهم أو تحويل رقابتهم بقنابل قاصفة شديدة الانفجار، تهز أعصابهم إن لم تنثر أشلاءهم.
تلك هي المراحل الثلاث، وهي كما ترى مرتبطة ببعضها، متسلسلة الترتيب، ممهدة لأخيرتها التي هي أصدقها إصابة، وأمضاها نتيجة
طبق الألمان نظريات (دوهيه) على عمليات بولندا فنجحت نجاحاً لا بأس به: فَقَدَ البولنديون سلاحهم الجوي إثر هجوم خاطف شنته قاذفات الألمان على المطارات، ووقفت جيوشهم مشلولة حيرى لا تدري عما حولها شيئاً. كيف لا؟ وقد فقدت طائراتها وأصبحت كالساري في ظلام دامس، يتحسس الطريق فيتعثر، ويتنسم الاتجاه فيتخبط! أما المصانع فلم تدمر تدميراً تاماً كما أمل الألمان؛ وأمام المدن عجز برنامج (دوهيه) عن شق طريقه إلى سُبُل التنفيذ والتحقيق. ولا داعي لتذكير القارئ أن ألمانيا أحجمت عن استعمال الجراثيم الوبائية حرصاً على موقفها إزاء الدول، وخوفاً من استفزاز الرأي العام.
وفي صيف 1940 حاول الألمان معاودة تطبيق تلك النظريات على مطارات بريطانيا ففشلوا فشلاً تاماً، إذ هبت المقاتلات في وجه القاذفات المغيرة تردها وتقصيها، حتى فاه تشر شل بكلمته المشهورة في الإشارة بأعمال رجال الطيران البريطاني: (لم يسبق قط في تاريخ الحروب أن علقت فئة قليلة كهذه على أعناق شعب مثلنا، جموعه زاخرة بالأفراد، مائجة بالأعداد، دّيْناً كهذا، قيمته تفوق كل قيمة)؛ وهكذا أصبح القسم الأول نفسه من برنامج (دوهيه) عسير التحقيق، إلا في تلك الأحوال الخاصة التي أنقضَّت فيها دول كبرى على دول صغرى ضعيفة لا تملك من تلك المقاتلات كثيراً
انهار إذن صرح (دوهيه) وهو أحسن ما شيد في سبيل تحقيق سيادة الطيران على ميادين القتال. فدعونا إذن من تخيلات المتخيلين، ولنخضع لما لا محيد عنه وهو أن الجيوش الزاحفة على الأرض ستظل العامل المسيطر ما عش الإنسان مثلها على سطح الأرض، وأن الأساطيل البحرية ستظل أقوى ما يؤثر على نشاط الصناعة والاقتصاد ما شقت السفن التجارية عباب الماء بشحناتها الغذائية أو مواد الصناعة الأولية. أما الطيران فستحتل ولاشك مكاناً تزيد أهميته بمر السنين، ولكنه سيظل دائماً أبداً السلاح المعاون لا الركن والأساس
أظهر الطيران تفوقه على غيره من وسائل الحرب في شئون الاستطلاع، فعم استعماله هناك، وفضل المدفعية في المقدرة على المسارعة بنيران تساعد قوات شقت طريقها للأمام سريعاً، بواسطة منقضات بنيت لهذا الغرض خصيصاً. وتمكن من التوغل بالقاذفات داخل بلاد الأعداء، وهذا ما لم يتوصل إليه أحد من قبل، وقدم المقاتلات تمد من تلك القاذفات، بل تشتتها أحياناً قبل وصولها إلى الأهداف، وهذا ما لم تقو عليه المدافع المضادة للطائرات.
وهكذا أصبح الطيران من أهم الأسلحة المعاونة، لا يجوز الاستغناء عنه بأية حال، خصوصاً إذا ارتد جيش منهزم أمام عدو يلاحقه، أو ارتحلت فوق البحر قوات حوصرت من البر، أو انتقلت جنود أثقلها العتاد من سفن حملتها إلى شواطئ الأعداء؛ أحوال تكون فيها الجيوش أو السفن متعرضة أشد التعرض لهجمات الجو، وتكون طائرات الأعداء فيها متهالكة على الأهداف، لا يردعها إلا سلاح من نوعها أقدر على محاربتها في نفس ميدانها، ومنازلتها بنفس وسائلها.
حسين ذو الفقار صبري