مجلة الرسالة/العدد 499/أطوار الوحدة العربية
→ أهمية دراسة التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 499 أطوار الوحدة العربية [[مؤلف:|]] |
الحضارات القديمة في القرآن الكريم ← |
بتاريخ: 25 - 01 - 1943 |
العرب في ميادين الكفاح
للأستاذ نسيب سعيد
سأحدثك اليوم عن نزول العرب فعلاً إلى ميادين الصراع والنضال، وعن تأليف الجيش العربي واشتراكه بالمعارك والمواقع الحربية إلى جيوش الحلفاء فأقول:
لقد كان سفر الأميرين (علي) و (فيصل) من أبناء (الحسين) مع المتطوعين العرب، من معسكر (حمزة) في فجر أول يونيو (حزيران) عام 1916، أول نذير أنذر به الترك بخروج العرب عليهم، وانفضاضهم من حولهم. فاتجه الأميران العربيان بعد مغادرتهما الثكنة العسكرية إلى (الخانق) سالكين الطريق الشرقي، ثم عادا إلى (بيار علي) وهو موقع بقرب المدينة فخَّيما هنالك، وكاتبا القبائل العربية، وأخذ يجمعان القوى والجنود والأنصار
وفي صباح الثامن منه هاجما بستة آلاف مقاتل محطة (المحيط) مع حاميتها، ودارت أول معركة بين الترك والعرب؛ واستأنفا الغارة صباح 9 منه فهاجما الحسا، ودارت معركة عنيفة امتدت من الصباح حتى الظهر. وعلى هذا المنوال بدأت المعارك حول المدينة المنورة بين العرب والترك قبل أن تعلن الثورة رسمياً لأن الثورة الكبرى - كما قلت لك في حديثي السابق - بدأت في مكة صباح يوم السبت 9 شعبان سنة 1334 الموافق 10 يونيو (حزيران) عام 1916. وذلك أن الحسين أوعز إلى رجاله - وكان قد أعدهم من قبل - بأن يهاجموا الثكنة العسكرية في (جردل) - كما حصل في المدينة والطائف - وكان الترك غافلين عما يدبر لهم في الخفاء، وكان قادتهم وكبار ضباطهم في الطائف؛ ويتولى القيادة على الجيش التركي وقتئذ بكباشي اسمه (درويش) بك
وفي ذلك الصباح الأعز بدأ (الحسين) نفسه الثورة على الدامية بأن أطلق رصاصة من قصره على ثكنة الترك فكانت الإعلان الرسمي للثورة العربية الكبرى، كما كانت الإشارة التي اتفق عليها بينه وبين رجاله فشرعوا بالهجوم على أثرها. وكانوا قد احتشدوا في مكان مجاور قبيل الفجر
وأدرك درويش بك قائد الجند التركي حراج الموقف، وعرف أن مصير جنده إلى الفناء لأنهم كانوا يقومون بالتمرينات الرياضية المعتادة في خارج الثكنة، بلا سلاح ولا عتاد، فعمد إلى الحيلة لإنقاذهم، فخاطب الشريف تليفونياً وسأله عن السبب فيما وقع فأجابه:
(إن العرب لا يرضونكم حكاماً عليهم بعد ما قتلتموهم، وأهنتموهم وعاديتموهم)
فقال له: (ما دام الأمر كذلك فأرسل من قبلك من تعتمد عليه لنسلمه السلاح والجند، فنحن لا نريد إراقة الدماء عبثاً) فقصد الشريف عبد المحسن البركاني على الفور لمقابلة درويش بك وأمر الثوار بالتفرق. فدخل الجند الثكنة فوراً وأخذوا السلاح وأخذوا أهبة النضال والقتال، ونبه أحد الضباط العرب الشريف إلى الحيلة والمكيدة، فنجا بنفسه
وهاجم الشريف محسن بن أحمد منصور جدة صباح الأحد في 11 يونيو (حزيران) على رأس أربعة آلاف مقاتل، فتحصنت حاميتها التركية في شمالها وجنوبها، وصمدت للكفاح. وقد اشتركت - لأول مرة - ثلاث بوارج بريطانية. في هذا الهجوم يوم 13 منه وأصلت أماكن الترك نيراناً حامية. وكذلك طارت الطائرات البحرية البريطانية في سماء جدة يوم 14 منه وألقت على معسكر الترك منشوراً يعلن ثورة العرب على أحقاد جنكيز. وفي يوم 16 يونيو (حزيران) رفعت حامية جدة راية التسليم، فأنذرت بعدم إتلاف مدافعها وأسلحتها. وبلغ عدد الجنود الترك الذين استسلموا للعرب يومئذ (1346) جندياً يقودهم (47) ضابطاً مع غنائم كثيرة جداً
وفي يوم 27 وصل إلى جدة (ولسن) باشا حاكم بور سودان يحمل كتباً إلى الشريف (حسين) يتضمن تهنئة العرب بالنصر والاستقلال ويعرب فيه عن الإعجاب والإكبار لهذه الأعمال المجيدة التي يقوم بها العرب، وقال انه من البريطانيين الذين يحبون الشرق ولا سيما العرب منذ نعومة أظفاره. وجاء في الكتاب أيضاً أن الحكومة البريطانية أرسلت مع هذه التهنئة والتحية قوة بسيطة من قبلها لمساعدة العرب في جهادهم الجبار. . .
وفي يوم 25 شعبان سنة 1334 و 26 يونيو (حزيران) تم طبع منشور الثورة، وقد وضعه الشريف (حسين) بنفسه وبسط فيه الأسباب التي أهابت به إلى مقاتلة الترك بسطاً وافياً
ولا ريب أن أقطاب العثمانيين ريعوا لإعلان الثورة العربية في الحجاز، وكان جمال باشا أشدهم حسرة وألماً، لأنه أدرك أنه كان مخدوعاً، وعرف أنه لم يحسن التصرف مع (الحسين) وأبنائه الذين أفلتوا من يده بعد ما أخذوا المال والسلاح. ولقد كان فخري باشا محافظ المدينة المنورة أول من تنبه إلى هذه الحقيقة، كان يدعو إلى الفتك بالشريف وأبنائه، ويشير باتباع سياسة الشدة والحزم في الحجاز فقال كلمته المأثورة: (لقد انتصر الذكاء العربي في هذه المرة على الذكاء التركي وفاز عليه).
وقبض فخري باشا على ناصية الحال في المدينة على الأثر، وأخذ يستعد لمنازلة العرب الذين نزلوا إلى ميدان النضال والصراع، وشرعوا يقاتلون الترك بلا هوادة ولا توقف ولا رحمة. . .
وكذلك نزل العرب إلى ميادين الكفاح لأول مرة بعد نزولهم الحرب أيام الجيش المصري، بقيادة البطل الخالد إبراهيم باشا من القاهرة إلى فلسطين عام 1831 لمقاتلة الجيش التركي ففتحها بدون صعوبة ولا عناء بفضل تأييد عرب فلسطين إياه وانضمامهم إليه، وأكثر من ذلك بفضل شجاعة الجندي المصري وقوة بأسه وشدة فراسته، وواصل التقدم إلى دمشق وإلى حلب فاحتلهما، وكان العرب يقاتلونه في كل مكان بالهتاف والتصفيق والاستبشار وينضمون إليه ويرون فيه محرراً ومنقذاً مما سنفصله تفصيلاً حين الحديث على فضل مصر على القضية العربية
على أن إقدام (الحسين) وأولاده على إعلان الثورة وهم مجردون من كل قوة منظمة، ولا يملكون سوى مقادير قليلة من البنادق، وهي التي أخذوها من الترك للمتطوعة، ولا يجهلون أنهم سيستهدفون لقتال قوات كبيرة تنزل في ديارهم، وتحيط بهم، وتسد عليهم المسالك، ومن ورائها جيوش جرارة، تسرع لنجدتها؛ وأن هذا الإقدام ينطوي ولاشك على كثير من الجرأة، وصدق العزيمة. ولو تسنى لفخري باشا بلوغ مكة كما تصور جمال باشا لقضي على الثورة وأبادها في مهدها، بيد أن ثبات رجال العرب في وجهه واستماتتهم في المقاومة والكفاح، جعله يعدل عن خطة الهجوم، ويكتفي بالدفاع، فاستصفى العرب بذلك مدن الحجاز الواحدة بعد الأخرى بعد أن نزل (الجيش العربي) إلى القتال، ثم اتجهوا نحو الشمال، لتحرير سورية وإنقاذ بلاد الشام
ولقد أظهر الجيش العربي في خلال الأدوار التي اجتازها أثناء الحرب الماضية من الشجاعة والإقدام - على حداثة عهده - ما نال إعجاب الأعداء قبل الأصدقاء، وجعل قادة الحلفاء وفي مقدمتهم اللورد (اللنبي) يعترفون بما أسداه من خدمات جلى. أما أهم المعارك التي خاضها الجيش العربي فهي معركة جدة وهي أول معركة ربحها العرب في الحجاز، ثم معركة مكة والليثي وأوملج، والطائف، والمدينة، ورابغ، والوجه، والمويلح، وخبا، وحروب المحطات، والعقبة، ووادي موسى، والطفيلة، ومعان، والأزرق، وحوران، ومعركة الشام الكبرى، وغير ذلك من الحروب التي أظهر بها الجيش العربي الباسل كل ضروب القوة والشجاعة والعبر رغم حداثته وقلة أفراده، مما لا يتسع المقام لتفصيلها. ولقد انتصر هذا الجيش الفتي في جميع هذه المعارك والحروب انتصاراً مبيناً، وسجل آيات الظفر بأحرف من نور. وكذلك انتهت الحرب التي افتتحت بمعارك الحجاز واختتمت بحروب الشام بفوز العرب وكانت قوة الترك لا تقل عن عشرين ألف محارب مجهزة بأفضل الأسلحة الحديثة. وقد قطع العرب خط الرجعة على الجيش التركي المتقهقر من فلسطين ووادي الأردن، ومنطقتي معانة وعمان، وما كان يقل عن ثلاثين ألف محارب، فقد ارتد على جناح السرعة من دون أن يشتبك مع البريطانيين في قتال بسبب ظهور العرب وراء خطوطه، فانسحب بسرعة لكيلا يقع بين نارين، ولولا جهود العرب في الصحراء، وقطعهم الطريق على الجيش العثماني، وحاجتهم للمحطات على طول الطريق، لما وقع ما وقع ولارتد الجيش سالماً ولأنشأ خطوط دفاع جديدة في حوران وحول دمشق. ولقد سلم الترك والألمان بهذه الحقيقة الرائعة قبل الحلفاء، فقال المارشال (ليمان فون ساندرس) القائد العام للجيوش التركية في بلاد العرب في مذكراته التي نشرها بعد الحرب الماضية ما نصه: (لقد اتفق شريف مكة وأميرها مع الحلفاء في صيف عام 1912 على الاشتراك في الحرب، وأعلن استقلال العرب، فنشطت بذلك حركاتهم الثورية في بلاد الشام، وكان الحلفاء يحمونها، واتسع نطاقها، وخصوصاً بعد إفلاس سياسة الشدة التي سار عليها جمال باشا، في معاملة الشعب العربي. ولقد أراد أنور باشا إعداد حملة عسكرية كبيرة تزحف على مكة، وتنصب أميراً جديداً عليها، بيد أن عدم ملاءة الظروف الحربية، وعدم جواز اشتراك جنود مسيحيين في الحرب، حال دون إتمام ذلك فعدل عنه. ولقد أدت الثورة العربية خدمات جلى للجيش البريطاني، خلال تقدمه في شبه جزيرة سينا فكان الإنجليز آمنين مطمئنين يفعلون ما يشاءون كأنهم في داخل بلادهم، بعكس الترك الذين مقتهم أهل البلاد، وملوهم فكانوا يسوقون جيوشهم وكأنهم في بلاد معادية لهم). . .
(دمشق)
نسيب سعيد
المحامي