مجلة الرسالة/العدد 498/الثالوث الجامعي!
→ دفاع عن البلاغ | مجلة الرسالة - العدد 498 الثالوث الجامعي! [[مؤلف:|]] |
أطوار الوحدة العربية ← |
بتاريخ: 18 - 01 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
هذا العنوان من ابتداع الأديب حسين فهمي صادق، وقد نَصّ في خطابه على أنه يَعني به الأزهر وجامعتي فؤاد وفاروق، وهو يسأل عن جوهر الحياة العلمية والأدبية في هذه الجامعات الثلاث، ويطلب أن (تُظهِر شيئاً يعلن عن نفسه على رءوس الأشهاد)
ومن قبل هذا الخطاب قرأت في مجلة الصباح مقالاً يسألني فيه الأستاذ عبد الحليم عبد البر عما صنع الأزهر وما صنعت دار العلوم في تخريج الأدباء، وكان من رأيه أن دار العلوم لم تخرج في ستين سنة ستين أديباً وأن الأزهر لم يخرج في ألف سنة ألف أديب (؟!)
وأقول إن الفكرة الجامعية لم تُشرح في مصر على الوجه الصحيح، ففي مصر أقوامٌ يتوهمون أن محصول الجامعة هو محصول مدرسيها في النواحي العلمية والأدبية، وهذا خطأ، لأن أساتذة الجامعات لهم صفةٌ غير صفة التأليف، هم يوجّهون ولا يُبدعون، إلا أن يكون فيهم رجالٌ مفطورون على الإبداع
الأستاذ في الجامعة لا يطاَلب بالمساهمة العلنية في نشر الثقافة العلمية والأدبية، وإنما يُسأل عن الصدق في توجيه الطلاب إلى فهم دقائق العلم الذي تخصص فيه، ومن حقه أن يتَسم بالخمول على أنه تشريف، ومن واجب الدولة أن تثيبه عليه، حين يصح عندها أنه خمول لا خمود
الأستاذ في الجامعة مسئول عن رعاية الأستاذية، والأستاذية نشأت في جوّ الرهبانية، فما يجوز له ما يجوز لسائر الرجال من مسايرة المجتمع في جميع الأحوال، إلا أن يكون فيلسوفاً يأخذ مادته الفلسفية من درس الأحلام والأهواء والأضاليل، وهذا نموذج لا يوجد في كل يوم، وإنما تُبدعه الأقدار من حين إلى أحايين
لأساتذة الجامعة واجبات نرجو أن يعرفها تلاميذهم على النحو الذي نريد، وتلك الواجبات ترجع في جملتها إلى خصيصة أساسية، هي الفناء المطلق في الدرس والبحث والتنقيب، ولو انتهى الأمر إلى أن يعيشوا مجهولين
فإن لم يكن بدٌّ من أن تتعرف الجامعة إلى الجمهور فذلك واجب الخِرّيجين، لا واجب المدرسين. وإليكم الشواهد الآتية: 1 - نشاط كلية الحقوق لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من القضاة والمحامين، وهؤلاء هم البرهان على قوتها الذاتية
2 - نشاط كلية الآداب لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من المؤلفين والمترجمين والمدرسين والمفكرين، وهؤلاء هم البرهان على قوتها الذاتية
3 - نشاط كلية الهندسة لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من كبار المهندسين، وإليهم يرجع الفضل في شؤون تفوق الإحصاء
4 - نشاط كلية الطب لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل فيمن أخرجت من أطباء لهم مركز ممتاز في مصر والشرق
5 - نشاط كلية الزراعة لا يتمثل في دار تلك الكلية، وإنما يتمثل في خريجيها النوابغ، وقد أدوا خدمات جديرة بالثناء
6 - نشاط الأزهر لا يمثله أساتذة الأزهر، وإنما تمثله تلك الجيوش التي أخرجها الأزهر من وّعاظ وأساتذة وقضاة وباحثين
7 - نشاط دار العلوم لا يمثله أساتذة دار العلوم، وإنما يمثله المدرسون الذين أنجبتهم دار العلوم، ولهم في كل بلدة مصرية صوت
وعلى هذا يُقاس، فالأساتذة يوجّهون ولا يُبدعون، وأنا أرى أن المعاهد المصرية أدّت واجبها خير الأداء، فهي جديرة بالتبجيل.
هذا هو الرأي في تقدير الذاتية الجامعية من ناحية الصلة الخارجية، ولكني مع ذلك أرى من الواجب أن أرجع إلى هذا الرأي بشيء من التعديل فأقول:
يبدو لي أن ابتعاد الأساتذة عن المشاركة في الجانب العلني من الحياة العلمية والأدبية يعرّضهم لخطرين، فهو أولاً يهوّن أقدارهم في أنفس الطلاب، وهو ثانياً يضيع عليهم فوائد كثيرة، فوائد تخلقها مواجهة المجتمع في موجاته النفسانية والروحانية
والذي يعرف شيئاً من أحوال الشبان يلاحظ أن استفادتهم مما يقرءون تفوق استفادتهم ما يسمعون، فهم تلاميذ للكتاب والمؤلفين قبل أن يكونوا تلاميذ لأساتذة الكليات. وهذه الظاهرة لا تحتاج إلى توضيح
وإذن يجب على أساتذة الجامعة أن يخلقوا لأنفسهم جواً خارجياً يساعد على تجديد الهواء في جو الكليات، ويشعر الطلبة بأن لأساتذتهم قدرة على فهم ما في المجتمع من آلام وآمال، ويبدد الشبهة التي تزعم أن الأساتذة يعيشون في زمانهم غرباء
والحق أن الأدب الذي يقف عند درس الكتب وتحقيق الأسانيد هو (أدب الجماجم) لا أدب الأرواح
والنصوص القديمة لا تفهم جيداً إلا إذا عولجت بالروح الجديد، وقد كان أستاذنا برونو يوصينا بأن نتسمّع لما يدور من المحاورات في قهوات باريس، عسانا نستفيد شيئاً ن المرونة التي يبدعها الحوار الخالي من شوائب التكلف والافتعال
والحق أيضاً أن الرهبانية التي حاصرت حياة الأستاذية لم يبق لها في هذا العصر مكان، فهي تزمتٌ موروث عن عصور الرياء، وهي الثوب الذي يدارى الهزال عند بعض المهازيل
هل تعرفون السبب في ضعف الفكرة التشريعية عند مدرسي القوانين في هذا الجيل؟
يرجع السبب إلى أن أكثر أولئك المدرسين لم تكتو أيديهم بنيران المعاملات، فلم يعرفوا احتياج التشريع إلى التجديد الموصول
وسيأتي يومٌ نعرف فيه أن تدريس القوانين يجب أن يوكل إلى قدماء المحامين، لأن صلتهم بما في المجتمع من متاعب ومصاعب تبّصرهم بما يعتور الفكرة التشريعية من عقابيل
وما يقال في أساتذة الحقوق يقال في أساتذة الآداب
فأستاذ الأدب يجب أن يكون أديباً بالقول والفعل، أديباً مبدعاً لا أديباً مدرساً، أديباً من رجال الصناعتين: صناعة الشعر وصناعة الكتابة
بين الكلمة والكلمة صلات لا يدركها إلا من عانى المكاره التي يوجبها ضم كلمة في الحدود التي يوجبها روح البيان
الكلمة في المعجم غير الكلمة في الجملة؛ هي في المعجم سمكة محنَّطة، وهي في الجملة سمكة حية، وبين موت الكلمة وحياتها برزخٌ لا يَعبُره إلا من يملك إنقاذها من الموت، وهو الأديب الفنّان
ومن مقاتل الأستاذية في الأدب لهذا العهد أن بعض الأساتذة لا يلتفتون لا يلتفتون إلى الوشائج الأصيلة بين الأدب وسائر العلوم والفنون، مع أن أسلافنا نصوا على هذه الوشائج منذ أجيال وأجيال
كل ما في الوجود مواد أساسية لعقل الأديب، وروح الأديب. هو مسئول عن فهم جميع الحقائق بقدر ما يستطيع، وفي حدود ما يطيق
فهل ترون أستاذ الأدب يقل في المسئولية عن الأديب؟
آفة الأستاذية في هذا العصر أنها صارت وظيفة، وجّو الوظائف عجيبٌ غريب. ألم تسمعوا أن رجالاً تركوا كراسّيهم في الجامعة ليظفروا بوظائف ضخمة الرواتب؟
الغرض من هذا الكلام هو توجيه أساتذة الأدب إلى فهم واجباتهم الحقيقية، وأنا أحذِّرهم عواقب ما اطمأنوا إليه من الرضا بزخرف الحياة الجامعية، فزمام التوجيه الأدبي كاد يضيع من أيديهم، إن لم يكن ضاع
كان في مصر قتال بين الأفندية والمشايخ، وكان المفهوم أن الأفندية رجال الدنيا وأن المشايخ رجال الدين
ثم دار الزمن دورته فأصبح كتاب المباحث الإسلامية رجالاً مطربشين، أشهرهم فريد وجدي ومحمد هيكل وعباس العقاد
وإن طال سبات رجال الأدب من أهل (الثالوث الجامعي) فستكون لهم مصاير لا يعلمها غير علام الغيوب
أذهان الطلاب في الجامعات الثلاث محتلة بأفكار وآراء لم تصدر عن تلك الجامعات، فمن يمنّ على هؤلاء الطلاب بنعمة الاستقلال؟
من يدري؟
لعل الخيرة فيما اختاره الله! ولعل الله أراد أن تكون وظيفة الأدب وظيفة روحية لا رسمية! ولعل الله أراد لطلبة الجامعات خيراً مما نريد، فأباحهم ما في الحدائق الخصوصية والعمومية من أزهار وثمرات
من يدري؟ من يدري؟
الهواء الطلق هو الأصل، وهل تنفَّس سقراط وأفلاطون في كلية لها جدران وأبواب؟
الحرية الروحية والعقلية هي أساس العبقرية، ولا حياة لأدب لا يتمتع بحرية العقل والروح
لم تقبل جامعة باريس أن يكون جوستاف لوبون أستاذاً للفلسفة بالسوربون، لأنه دكتور في الطب لا في الآداب، فهل أنصفت جامعة باريس؟
وهل كان أستاذنا فلان الذي أضحكني مضغه للألفاظ اليونانية الميتة أعرف بدقائق الفلسفة من جوستاف لوبون؟
كان أستاذنا ذاك مقبول الرأي في أكثر ما يقول، إلا حين يمضغ الألفاظ اليونانية، وعند الدكتور مصطفى زيور نوادر لذلك الأستاذ الجليل!
كنا ندخل عليه فيهولنا أن نراه يترجم ويبرجم بأسلوب فظيع، وهو يعرف أن اليونانية القديمة لن تبعث أبداً، وهل بعثها اليونان حتى يبعثها الفرنسيس؟
آلآن فهمت كيف احتلت برلين باريس؟
كان الأساتذة الذين يراجعون رسالتي المقدمة إلى السوربون يكرهون أن يقع فيها بيت من الشعر، لأن موضوعها هو النثر الفني
وشكوت هذا التحكم إلى المسيو ديبويه فقال: إن جامعة باريس محتلة بالفكر الألماني منذ انتصار الألمان في حرب السبعين، والألمان غاية في التدقيق والاستقصاء
ثم ماذا؟
ثم عرفت بعد لأي أن الألمان خدعوا الفرنسيس بزخرف الوسوسة البحثية، ليصرفوهم عن التفكير في إعداد وسائل الموت لمن يعادون
كانت فرنسا بعد انتصارها في الحرب الماضية تتوهم أن غاية المجد أن يكون لها معهد مثل السوربون، وكانت تصرّح بأن الشهادات التي تعطيها الجامعات الألمانية شهادات تجارية، وأنها بذلك تتودد إلى الأغنياء من الطلبة الغرباء
وكان الأمر كذلك بالفعل، وكانت النتيجة أن لا تقيم الحكومة المصرية وزناً للشهادات الألمانية، لأنها شهادات مبذولة بلا تعب ولا عناء، كالشهادات التي تعطيها أمة الطليان
ثم ظهر أن لألمانيا سريرة غير سريرة السوربون، وهي النية المستورة لأكابر الفلاسفة من الألمان
وهنا أشهد أني قرأت بالفرنسية نحو خمسين كتاباً تصور انحلال الألمان من الناحية المعنوية بسبب طغيان الشهوة الجنسية
فهل التفت الألمان إلى هذا الاتهام الخسيس؟ مضوا يعملون في السراديب الخفية ليلقوا خصومهم بعد حين أو أحايين
أما بعد فالأدب عندي هو أن تسبق زمانك، وأن تقتل خصومك. الأدب عندي أن تكون قوة تزلزل الزمان، ولا تقنع بشهادة التاريخ
لأساتذة الجامعات شواغل من العلاوات والترقيات والدرجات، فدعهم في غيهم يعمهون، واجعل همك الأول والأخير أن ترفع راية القلم البليغ
زكي مبارك