مجلة الرسالة/العدد 496/الرسالة في عامها الحادي عشر
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 496 الرسالة في عامها الحادي عشر [[مؤلف:|]] |
خواطر ليلة الميلاد ← |
بتاريخ: 04 - 01 - 1943 |
أقبل العام الميلادي تسعى بين يديه الشمس، ومن ورائه يقبل العام الهجري يسعى بين يديه القمر؛ وبين هذين النيرين الإلهيين تبلغ (الرسالة) مرحلتها الحادية عشرة في سبيلها الشاقة، إلى غايتها الحاقة، ومنهما معرفتها ورشادها، وفيهما تضحيتها وجهادها؛ ومن نور القمرين نور الدنيا، ومن هدى التاريخيين هدى الناس؛ فإذا تعسر الخطو وتعثر الخطاة فذلك لأن النور الإلهي احتجب، والبصر الإنساني كلّ. على أن نور الله تدركه البصائر لا الأبصار؛ فإذا عميت القلوب تخبط الناس في ظلام جهنمي تموج فيه تهاويل الشر، فأفسدوا كل صالح، وبددوا كل منتظم، وهددوا كل حي. وما محنة العالم اليوم إلا ضلال عن الطريق. والضال إذا لم يهتد هالك لا محالة. ومن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً
كلما عاد عيد الهجرة أو عيد الميلاد صاح بالضالين المتفانين شيخ الإسلام أو حبر النصرانية: أن تعالوا إلى الطريق! ولكن كلا الدليلين - وا أسفاه! - يقف على رأس الجادة المهجورة داعياً ولا سميع، وراعياً ولا قطيع!
فمتى يا إله الناس تنحسر عن العيون السادرة أغشية الضلالة فيعود الجائر إلى القصد، ويرجع الشارد إلى الحظيرة؟
لقد طغي الفناء على الكون، وأرسل على ملكوت الله سمائمه السود تعصف في كل مكان بالخوف والجوع والدمار والموت لا تكف ولا تخف حتى لا يدري الممسي كيف يصبح، ولا الغادي كيف يروح!
هذا هو الشتاء الرابع يقبل على هذه الرجفة الآدمية العالمية وهي راعدة لا ينقطع لها دوي ولا حمم ولا نار ولا ضحايا؛ وبنو آدم المتمدنون لا يفتئون يسخرون العلم الذليل الخاضع في تأريث براكينها المزمجرة، فتقذف الردى شهباً في السماء، وتصحبه حميماً في الماء، وتشعله جحيماً في الأرض، وأولادهم هم أشلاء هذه المقتلة، وحضارتهم هي أنقاض هذه الزلزلة. وكل أولئك في سبيل الرغيف. ورزق الله موفور ميسور ما دامت السماء تمطر والأرض تنبت؛ ولكن الإنسان مهما تعلم وتقدم لا يزال في سياسة معدته على الفطرة الأولى من حب الاستئثار والاحتكار، فلا يعرف القناعة في الرزق، ولا يقبل العدالة في القسمة، ولا يحسم الخلاف على القوت إلا بالقوة إذا تأسد، وبالمراوغة إذا تثعلب. وق تتفانى الدول وتبقى الأرض، كما يتفانى الأسود وتبقى الفريسة
والخاسرون في معركة الحياة هم عبيد الطمع من الأفراد والأمم. يبذلون دماءهم في سبيل الحياة لا لينعموا بها، ولكن ليحافظوا عليها. وهم مادة الغذاء في يد الطبيعة: ترعاهم ليأمنوا، وتدر عليهم ليسمنوا؛ فإذا ما تكاثروا وامتلئوا قدمتهم إلى الحياة العامة فكانوا سماد الزرع ليخصب، وقلامة الشجر ليغلظ!
كان الشأن في الحرب القديمة أن يخرس اللسان والقلم إذا نطق السيف والرمح. وكانت نيرانها المحصورة لا يصلاها إلا المتحاربون، رجلاً لرجل، أو فئة لفئة؛ ولكن هذه الحرب الجديدة في خططها وعددها، جندت كل قوة وأوعدت كل حياة: جندت العلم والأدب والفن والصحافة والإذاعة والتمثيل والسينما، وعبأت الزراع والصناع والتجار والمدنيين والعسكريين والمحايدين والمحاربين والأطفال والشيوخ، فلم تدع أحداً في العالم كله يفكر إلا فيها، ولا يشغل إلا بها، ولا يعمل إلا لها، ولا يألم إلا منها؛ فكأنها أصبحت المحرك الأول لآلة العيش، استولت عليه الشياطين فأنتجوا به من أداة الشر ما لم يقع في سماع التاريخ ولم يخطر ببال الناس ليهلكوا ما ادخرته القرون، ويهدموا ما شاده الله!
لذلك نما وطما كل ما يمت إلى هذه الحرب بسبب من الإنتاج المادي والفكري، وذبل وضؤل منهما مالا يحارب ولا يدعوا. والأدب في الحرب القديمة كان تشجيعاً، ولكنه في هذه الحرب أصبح دعاية. وقد نفق هذا النوع من الأدب نفوقاً عجيباً في كل أمه، لأن الحكومات على اختلافها وائتلافها تتملقه وتتعهده وتنفق عليه. والأدب كالحرب عصبة المال: بفضله يخصب ويزدهر، وبحوله يتسع وينتشر. أما الأدب الذي لا يحارب ولا يدعو، فقد ظل كالشعب المحايد، يعاني الحرمان ولا يد له فيه، ويقاسي الغلاء ولا ربح له منه
والصحافة الأدبية من هذا النوع، ألحّ عليها فحش الغلاء وحرمان العوز حتى نحل بدنها وشحب لونها، وكادت تنبت من فرط الضنى في وسط الطريق
أصبحت لا تجد الورق إذا وجدت المال، ولا تملك زيادة العرض إذا ملكت زيادة الطلب، ولا تضمن بقاء الغد إذا اطمأنت على بقاء اليوم. فإذا قدر الله لها أن تخرج من محنة هذه الحرب وفيها حشاشة نفس، كانت حرية بعد ذلك أن تستهين بكل صعب، وتثبت على كل خطب. ورجاء الرسالة في الله أن يرزقها من الجلد ما تتماسك به على عرك هذه الشدائد. وحسبها من صدق الأماني أن تعيش حتى ترى الطريق قد استبصر، والسلام قد استقر، والأمر قد استقام. ويومئذ يتسع لها المجال فتشارك جاهدة مخلصة في رأب ما تصدع وتجديد ما تهدم
وإذا كانت للرسالة في مستهل هذا العام ما تغتبط به من فوز جهادها ونجاح دعوتها، فذلك توفيقها في معالجة الإصلاح الاجتماعي توفيقاً لمست أثره في منهاج وزارة الشؤون الاجتماعية في عهد وزيرها القائم بأمرها اليوم. فلقد آتاه الله حزم الحكماء وعزم المصلحين فطوى فؤاده الشهم على نية الإصلاح بالفعل لا بالقول، فرفع شأن العربية في دواوين الحكومة، ومهد السبل المؤدية إلى تنظيم الإحسان وجباية الزكاة ومحاربة الأمية ومطاردة الفقر على نحو يشبه ما نحته الرسالة في معالجة هذه الشؤون
وأمنية أخرى طالما تمنتها ورددتها الرسالة توشك أن تكون من مقاصد الحكم في هذا العهد: تلك الأمنية هي الاتحاد العربي على أي صورة يكون. وفي كلام الزعماء ومنطق الحوادث ما يعزز الرجاء في تحقيق هذا الأمل؛ وفي توفيق الله وجهاد الصادقين ما يحقق النفع المرجو من هذا العمل
أحمد حسن الزيات