مجلة الرسالة/العدد 495/مسابقة الأدب العربي
→ (التلباثي) | مجلة الرسالة - العدد 495 مسابقة الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
العيد ← |
بتاريخ: 28 - 12 - 1942 |
1 - ديوان حافظ إبراهيم
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - شاعر القصر وشاعر الشعب - دسائس أدبية - ميدان حافظ - هزيمة حافظ - عريضة اتهام - هزائم فظيعة - قصيدة قصر الزعفران
تمهيد:
المقرر لمسابقة هذا العام هو الجزء الثاني. ومن الخير أن يرجع المتسابقون إلى مجموعة السنة الماضية من مجلة الرسالة، ففيها تفاصيل عن شاعرية حافظ لا تملك تلخيصها في هذا الحديث، وفيها أيضاً تفاصيل عن شاعرية شوقي، تفاصيل تكمل الدراسات التي قدمناها في الأسابيع السوالف، وتوضح اتجاهات شوقي في طوائف من الأغراض
السياسيات
أهم أبواب الجزء الثاني من ديوان حافظ هو باب السياسيات، وسيسأل فيه المتسابقون بكل تأكيد، لأن الجانب السياسي من شعر حافظ هو أبرز الجوانب في حياته الشعرية، فمن الواجب أن يجعله المتسابقون أول ما يدرسون بعناية وتدقيق
شاعر القصر وشاعر الشعب
لم تكن الحياة المصرية قبل الحرب الماضية شبيهة بالحياة التي جدت بعد تلك الحرب، ومعنى هذا أن أيام الخديو عباس تختلف عن أيام الملك فؤاد؛ ففي عهد عباس كان للقصر شعراء وللشعب شعراء، ولا كذلك الحال في عهد فؤاد، فقد أراد القصر أن يحول الشعر إلى وجهة قومية، ولم يقبل الملك فؤاد أن يكون له شعراء بالمعنى المعروف لعهد الخديو عباس، وإن كان تغاضي عن دعوى الشاعر عبد الحليم المصري رعاية لما كان ليه من أدب وإخلاص
دسائس أدبية
أنا مقبل على تسجيل حقائق لم تسجل قبل اليوم، ولن يعرفها التاريخ الأدبي إلا عن ط هذه الأحاديث، وما يدعوني إلى تسجيلها إلا الخوف من أن تضيغ
شعر حافظ السياسي يبتدئ في سنة 1904، وشعر شوقي السياسي يبتدئ في سنة 1894، وقد انتهيا معاً في سنة 1932 عليهما أطيب الرحمات!
فكيف صار شوقي وحده شاعر القصر؟ وكيف اكتفى حافظ بأن يكون شاعر الشعب؟
يرجع السبب إلى أن شوقي كان مفطوراً على حاسة سميتها منذ سنين (حاسة المعاش) وهي حاسة ورثها عن أبويه، وكان لهما بالقصر اتصال، وشوقي نفسه قال كلاماً يؤيد هذا المعنى في مقدمة الطبعة الأولى من الشوقيات، وهي مقدمة تجاهلها شوقي فيها بعد، وتمنى أن تضيع من ذاكرة التاريخ، ولكن هيهات!
كانت في عيني شوقي علة شعرية هي النظر دائماً إلى السماء، علة تمنعه من أن يرى ما بين يديه، ثم اتفق أن زارت جدته الخديو إسماعيل وهو معها، وكان طفلاً رائع الجمال، فسألها الخديو عن أحوال ذلك الطفل الجميل، فقالت بتحسر وتوجع: أن في عينيه آفة تمنعه من رؤية الأرض؛ فنثر الخديو بدرة من النقود الذهبية على البساط، فاعتدلت عينا الطفل وأقبل على الذهب يجمعه بشراهة نادرة المثال!
قال إسماعيل: هذا دواء هاتين العينين العليلتين!
فأجابت الجدة: ولكنه دواء لا يوجد إلا في صيدلية إسماعيل!
وعرف أهل الطفل دواء عينيه فكانوا ينثرون ما يملكون من النقود لينظر إلى الأرض، عساه يستريح من إدمان النظر إلى السماء
وشب الطفل وصار له حمار يمتطيه في العصريات، يوم كان القاهريون يغنون:
(أحب مشي العصاري لاجل ما أشوفك)
وكانت (دار شوقي) في تلك الأيام تقري من (دار الرسالة) في هذه الأيام، ولم يكن له بد من عبور ميدان عابدين وهو على صهوة حماره في نزهة الأصيل
وغلبت شوقي علة عينيه فنظر إلى فوق، فلمح الخديو توفيق في إحدى الشرفات، فنزل عن حماره وعبر الميدان على قدميه. وراع الخديو أن يرى شاباً يراعي هذا المعنى، فقرر أن يدعوه إليه بلا تسويف، ليبشره بوظيفة في ديوان المعية
لا يعرف أحد كيف كان شوقي في لك الوقت، ولكني أعرف كيف رأيته بعد نحو ثلاثين سنة من ذلك التاريخ، حين عاد من منفاه، وحين تفضل عبد اللطيف بك الصوفاني فجمع بيننا في حفلة عشاء بالدار التي أجهل ما صنعت بها الأيام!
هالني أن أرى شوقي الذي كان أمير الشعراء قبل أن تواجه عيناي نور الوجود قد احتفظ من أطلال صباه بنونتين تزينان خديه عند الابتسام، وأي ابتسام؟
وأقول بصراحة إني لم أر وجهاً أجمل من وجه شوقي، ولا روحاً الطف من روح شوقي
ولكن هذا الجمال الجسدي والروحي كانت له غدرات، منها حسب التفرد بالسيطرة والاستعلاء. . . وهنا بيت القصيد!
كان شوقي يحب أن يكون وحده شاعر القصر في عهد عباس. وقد تسبب للقصر في متاعب، فقد دخل لورد كرومر على الخديو عباس وهو غضبان، وحجته أنه علم أن أحمد شوقي وعلي فهمي كامل يدبران أموراً لا يجوز عليها السكوت، والخديو عنهما مسؤول مسؤول. وما أحب أن أزيد!
هل كان شوقي الذي يحارب إنجلترا في السر يهادن خصومه من الشعراء؟
وهل كان يسمح بأن يكون لخصومه ومنافسيه في قلب الخديو مكان؟
ارجعوا إلى ما كتب فضيلة الشيخ عبد القادر المغربي في مجلة الرسالة منذ سنين لتروا كيف استطاع شوقي أن يمنع كرم الخديو عباس عن الشيخ عبد المحسن الكاظمي، ثم ابحثوا بعد ذلك عن السر في عطف الشيخ محمد عبده على الشيخ الكاظمي، فأنا أفترض أن الفتور بين الخديو والمفتي كان له أثر في تقوية ذلك العطف الرفيق.
صيدان حافظ
لم يستطع حافظ مجاراة شوقي في الحياة الرسمية، فانحاز إلى ميدان الوطنية، وصار بعد قليل شاعر الشعب، الشاعر الأول المحبوب، وكان الاتجاه الشعبي صريحاً في مقاومة الاحتلال، وصريحاً في تقوية الأواصر الإسلامية، فكان لحافظ قصيدة في كل مناسبة وطنية، وقصيدة في كل مناسبة دينية. ولم يفته أن يتغنى في أشعاره بأكثر أمم الشرق، ولا سيما اليابان، وما كانت اليابان أقرب إلينا في الوجوه والأفكار من إيطاليا أو فرنسا، ولا كانت لنا باليابان صلات أدبية أو اقتصادية، وإنما كانت اليابان في الاصطلاح الجغرافي أمة شرقية، وكان المهم هو إفهام الشعب أن الشرق يستطيع مجاراة الغرب في جميع الميادين أن تسلح بأسلحة هذا الزمان، ولهذا السبب سارع الزعيم الوطني مصطفى كامل فألف كتاباً عن نهضة اليابان ليضرب لقومه الأمثال
هزيمة حافظ
كان حافظ أطال القول في شكري البؤس، فعينه الوزير حشمت باشا في وظيفة بدار الكتب المصرية، فسكت عن اغاريده الوطنية، وعند ذلك كثرت فيه الأقاويل، وجالت في غمزه الألسنة والأقلام كل مجال
ثم جاءت فرصة مشؤومة عليه، هي ظهور ثلاث قصائد في يوم واحد بجريدة الأهرام عند اعتلاء السلطان حسين كامل أريكة العرش: قصيدة أحمد شوقي وقصيدة حافظ إبراهيم وقصيدة أحمد نسيم
كانت الحرب في تلك الأيام تجتاز مسالك شوائك، فخاف حافظ وخاف نسيم عواقب المشي على الشوك. أما شوقي فهتف بقصيدة رمزية شغلت الجماهير بالتفاسير والتآويل، فعده المصريون شاعرهم الأول، وزادوا إيماناً بعبقريته حين رأوا أن تلك القصيدة قضت عليه بالخروج من البلاد
وكان في مصر جريدة أسبوعية اسمها (عكاظ)، وقد رأى صاحبها الشيخ فهيم قنديل أن يتودد إلى الجمهور بنشر ما طوى من أشعار شوقي، ولم يكن يكتفي بتسميته (أمير الشعراء) وإنما كان يسميه (شاعر الدنيا والآخرة) فحفظ سمعته الشعرية في أعوام الحرب الماضية، وعطر باسمه جميع أندية الأدبية
وفي ثورة سنة 1919 تخاذل حافظ فلم ينطق بحرف
دخلت الأزهر ذات مساء فسمعت خطيباً يعيب عليه التخاذل، فعلوت المنبر وفندت اتهامات ذلك الخطيب
وفي اليوم التالي لقيت حافظاً بمنزل محمود باشا سليمان، فقال له حفني بك محمود: هل تعرف يا حافظ بك أن الأستاذ مبارك دافع عنك في الليلة الماضية؟
فأدار حافظ بصره إلي وقال: ماذا تريدون مني؟
قلت: نريد قصائد وطنية
قال: والاعتقال؟ قلت: وما خطر الاعتقال؟
فأيجاب في هدوء: لن أجد في المعتقل هذا السيجار (وكان في يده سيجار)
فقلت: لن تكون شاعر مصر الوطني وأنت أسير هذا السيجار البغيض!
عريضة اتهام
الغرض من هذه الدراسات هو إرشاد المسابقين إلى إدراك السرائر من الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، وأنا قلت أن حافظاً تخاذل عن الثورة فلم ينطق بحرف، ونحن في مقام التاريخ وهو مقام يوجب الصدق، فلينظر المتسابقون في ص87 بالجزء الثاني من ديوان حافظ، ليروا أن قصيدته التي نظمها عن مظاهرة السيدات في سنة 1919 لم تنشر إلا في سنة 1929، ومعنى ذلك أنها كتمت نحو عشر سنين!
أتريدون الحق؟
لقد نسيت تلك القصيدة في ذلك الوقت إلى جماعة من الشعراء منهم الأستاذ محمد الهراوي، ولم ير حافظ أن يصحح النسب، لئلا يقال أو يقال!!
هزائم فظيعة!
بعد عودة شوقي من منفاه حاول أن يتصل بالقصر من جديد، فحبر القصائد الطوال في مدح الملك فؤاد، ولكنه نسى أن الملوك لا يعرفون غير القلب البكر، فهم لا يأنسون بمن استأنسوا لسواهم في أحد العهود
كان الملك فؤاد غاية في الجبروت العقلي، وكانت عيناه أحد من عيني النسر الظامئ، وكان يحب أن يكون عرش مصر أعظم العروش، ولهذا بخل بالرتب والألقاب، إلا أن تكون جزاء على خدمة قومية تستحق التمجيد
وكان للشاعر شوقي تاريخ في شؤون الرتب والألقاب، فصد عنه الملك فؤاد، ولم يجد عليه بأي انعطاف
وهنا سنحت الفرصة للشاعر حافظ، فماذا صنع؟
أراد أن يؤلف جماعة من الشعراء يسميهم (شعراء القصر) فلم يظفر بغير الإخفاق
دعاني حافظ ذات يوم إلى موافاته بقهوة النيوبار ليحدثني في مسألة خصوصية، وكان الغرض أن يدعوني للانضمام إلى تلك الجماعة الشعرية، فاعتذرت بأن شيطاني لا يوافيني إلا في ميدان الغزل والتشبيب، ومن الصعب على أن أنظم شعراً في غير هذا الميدان، وأنا تلميذ عمر بن أبي ربيعة، ولم يكن عمر يجيد مدح الملوك
قال حافظ: أنت أحمق يا مبارك!
فقلت: علمني يا معلمي كيف أداوي هذا الحمق
قال حافظ: ستمدح فؤاداً العظيم
فقلت: أمدحه أجزل المدح بالنثر لا بالشعر، فأقول فيه أعظم مما تقول، والآفة الوحيدة هي آفة شيطاني، وهو لا يوحي إلى من الشعر غير الغزل والتشبيب، ولو كان أمري بيدي لنظمت القصائد الطوال في مدح الملك فؤاد، فهو في نظري أعظم الملوك
قال حافظ: أتكون أصدق مني؟
فقلت: إني لا أجود بغير ما أملك، وطاقتي الشعرية لا تسمح بغير ذلك الفن الذي تعرف. فهل تريد أن تفضحني بين الشعراء؟
ثم؟ ثم؟
ثم غدر المتشاعرون بحافظ فورطوه في متاعب أفسدت ما بينه وبين القصر إفساداً ليس بعده صلاح، وسأتحدث عن هذه النقطة السوداء بعد حين!
قصيدة قصر الزعفران
هي قصيدة غابت عن الأستاذ أحمد بك أمين وهو يجمع ديوان حافظ إبراهيم، وهي بشهادة حافظ نفسه أروع ما صدر عن موهبته الشعرية
فما حديث تلك القصيدة؟
في سنة 1925 تحولت الجامعة المصرية إلى جامعة أميرية، واختير لها قصر الزعفران، وفكرت وزارة المعارف في إقامة حفلة رسمية لافتتاح الجامعة في عهدها الجديد، وكانت التقاليد أن يرجع إلى القصر قبل إعداد أية حفلة يشرفها المليك، فدعي حافظ إلى مقابلة نشأت باشا، وكلف إعداد قصيدة يلقيها في حضرة الملك فؤاد يوم الاحتفال
لن أنسى أبداً فرح شاعر النيل بذلك التكليف، ولن أنسى أنه غناني أجمل غناء في أيام لطاف لم تعد عليه بغير العذاب، كما سنرى بعد لمحات كنت في ذلك العهد موظفاً بدار الكتب المصرية، وكان حافظ يشرف على القسم الذي أعمل فيه إشرافاً روحياً، فكان يدعوني كل يوم إلى سماع ما جد من القصيدة الجديدة، وكان يصرح بأنها الختام لحياته الشعرية، وأنه لن ينظم بعدها أي بيت
كان الخاطر جميلاً، ومن البر بحافظ أن نسجل ذلك الخاطر الجميل
الجامعة المصرية الحديثة في قصر الزعفران، وقصر الزعفران يجاوره (عين شمس) وفي (عين الشمس) كانت الجامعة المصرية القديمة التي تخرج فيها فلاسفة اليونان
وعلى هذا الوتر غنى حافظ وأجاد الغناء
ولكن الأقدار أرادت غير ما أراد حافظ، فثارت مشكلة حول قصر الزعفران، مشكلة قوى غبارها سعد باشا زغلول وهو رئيس مجلس النواب
قصر الزعفران من قصور إسماعيل، وهو يوم ذاك من أملاك الخاصة الملكية، فما الذي تقدم الحكومة من أملاك الدولة في المبادلة بذلك القصر الخاص؟
كانت الحكومة ترى أن تقدم حديقة الأرمان لتجعل منها الخاصة الملكية (مربط خيل)، فرأى فريق من رجال - الأمة أن هذا البدل غير مستساغ، وأن الأفضل أن تكون مباني الجامعة في حدائق الأرمان
وبهذا ضاعت قصيدة حافظ، وتهشم خاطره الجميل!
فأين قصيدة قصر الزعفران؟ أين أين؟؟
قسمها حافظ إلى مقطوعات باختلاف ما دارت عليه من الموضوعات، ونشرت له جريدة البلاغ في الصفحة الأولى من صفحات سنة 1926 مقطوعة بعنوان (بني وطني)!
يرحمك الله يا حافظ، فقد حالفك الشقاء إلى آخر الزمان!
ثم ماذا؟
ثم كانت القصيدة التي ألقيت في الاحتفال بافتتاح الجامعة المصرية بعد أن قرت بحدائق الأورمان قصيدة شوقي لا قصيدة حافظ، ولهذه الشؤون تواريخ يضيق عنها هذا الحديث
أما بعد فقد يرى قوم أن هذا كلام لا يفيد، وهل اتفقنا على المراد من الكلام المفيد؟
احفظوا هذا الكلام المفيد؟
احفظوا هذا الكلام، فينفع يوم تفكرون في تأريخ الأدب لهذا الجيل سيأتي يوم لا تعرفون فيه كيف استطاع شوقي أن يمدح الزعيم سعد زغلول فيقول:
فإن شئتَ فاوِضْ وإن شئت دَعْ ... فأنت الحقوق وميزانُها
مع أن شوقي نفسه حدثني مرتين أن بينه وبين سعد أحقاداً وترات، ومع أن أهاجي في سعد زغلول، أهاجي لم تنشر، وفي الذاكرة منها أشياء
هادن شوقي سعداً لأسباب (انتخابية) يعرفها نسيبه حامد بك العلايلي
وتصافى حافظ مع سعد ليصرع غريمه شوقي
وخلاصة القول أن هذين الشاعرين كانا على جانب من فيض الحيوية، وبهذا الفيض سيطرا على الجيل الجديد
هل تعرفون قصيدة شوقي في عرابي؟
وهل تعرفون ما طوى حافظ وشوقي من القصائد السياسية؟
ستلوح فرصة قريبة لتسجيل تلك الطوائف قبل أن تضيع، فللتاريخ الأدبي حقوق، والجهل بالتاريخ الأدبي أخطر من الجهل بالتاريخ السياسي، لأن الأدب هو التعبير الصحيح عن ضمائر الشعوب
زكي مبارك