مجلة الرسالة/العدد 494/العيد
→ دار الهوى | مجلة الرسالة - العدد 494 العيد [[مؤلف:|]] |
نشأة النطق بالكلام ← |
بتاريخ: 21 - 12 - 1942 |
للأستاذ محمد عرفة
- 1 -
لست مسرفاً إذا قلت إن كثيراً من الناس يعيدون ولا يدركون معنى العيد، ولا الغرض المقصود منه. لا يدركون من العيد إلا أنه يوم عطلة، يفرغ الناس فيه من أعمالهم، ويتفرغون إلى طعامهم وشرابهم ولعبهم ولهوهم
فعلينا أن نعمل لنفهم معنى العيد لنودعه على الوجه الأكمل. إن الناظر إلى أعيادنا الإسلامية التي شرعها الإسلام يرى أنها تكون عقب عبادة طويلة شاقة مضنية، فيها جهاد للنفس والشهوات. فعيد الفطر يأتي في أعقاب الصيام، والصيام عبادة شاقة، فيه منع النفس من شهواتها، وفيه الصبر عن الطعام والشراب، فإذا انتهى شهر الصوم حل عيد الفطر، فيفرح فيه المسلمون ويوسعون على أنفسهم وعيالهم وعلى فقرائهم. وعيد الأضحى يقبل بعد أن كادت تتم أعمال الحج، وفي الحج سفر طويل، ونفقة كثيرة، ومنع النفس من بعض الطيبات، فإذا جاء عيد الأضحى ذبح المسلمون ذبائحهم ووسعوا على أنفسهم وعيالهم وفقرائهم
ولعلكم بعد هذا قد أدركتم معنى العيد، وفهمتم سر فرح المسلمين فيه. لعلكم أدركتم انهم يفرحون في عيد الفطر بشيء سام، هو النصر: النصر على الشهوات، لأنهم مكثوا شهراً يمنعون أنفسهم في نهاره عن الطعام والشراب وبقية الشهوات الشهية إلى النفس والمحببة إليها فانتصروا؛ والنصر على الشيطان، فقد أراد إغواءهم وإضلالهم، واستعان على ذلك بالشهوات الممنوعة، والنوازع القوية، فانتصروا، لم تتغلب عليهم الشهوة، ولم يتغلب عليهم الشيطان، في هذا الكفاح. وما قلناه في عيد الفطر يقال في عيد لأضحى، فهو عيد النصر: النصر على النفس، والنصر على الشيطان؛ وسواء فيه الحاج وغير الحاج، فالحاج جاهد وصابر واحتمل الآلام واجتاز الأهوال وخرج من المعركة مظفراً منصوراً. وكذلك من لم يحج، العيد عيده، وهو به جد فرح مستبشر، وبشره بشر المسلم بالنعمة تتم على أخيه المسلم، ونصره وظفره لأن الله نصر إخوانه الحجاج، فوفقهم جميعاً لأداء الحج وإتمام عبادة من أسمى العبادات، ومسرته لأن الله اقدر المسلمين على إتمام موسم الحج، فلم يمنعهم قاهر ولا متسلط عن أقامته، فهو مزهو فخور وفرح مستبشر بعزة الإسلام وتمكين الله له في الأرض
وفي العيد - فوق هذا النصر وذلكم التوفيق - تقوية للروابط الوثيقة بين المسلمين، لأنهم يشتركون جميعاً في استقباله والترحيب والسرور به؛ والاشتراك في العاطفة داع إلى المحبة، واشتراك الجماعة في أمر يعمهم ويشملهم مشعر لهم بأنهم وحدة، عواطفهم واحدة، وآمالهم واحدة، وآلامهم واحدة. ولست تجد ادعى إلى المحبة من الاشتراك، ولا ادعى إلى التنافر من الاختلاف. ثم هم يشتركون قبل ذلك كله في أيام أعيادهم في شؤون الحياة وأمور القوت اشتراكاً يظهرهم في أروع مظهر من مظاهر التضامن الاجتماعي الوثيق، ففي عيد الفطر يخرج المسلم صدقة الفطر قبل صلاة العيد، وفي عيد الأضحى يذبح أضحيته ضحى يوم العيد، ويأخذ الفقراء حقوقهم من الصدقة والأضحية، فيفرغون إلى العيد واستقباله والفرح به والشعور بجماله، لا يشغلهم عن ذلك طلب القوت ومشكلات المعيشة؛ ويعم البشر والسعادة الناس جميعاً، فالأغنياء يفيضون من سعادتهم وبشرهم على إخوانهم من الفقراء
وفي العيد معان كثيرة أروعها أنه عيد النصر وعيد الظفر على النفس والشيطان؛ والمسلمون يفرحون بالعيد، لأن الله امتحن عزائمهم فوجدها قوية، وصبرهم فألفاه ثابتاً، وأيمانهم فألفاه راسخاً، وخرجوا من الامتحان مؤمنين، أقوياء، راسخين، بل خرجوا منه اشد واعظم شعوراً بمعاني القوة والإيمان.
وهذا المعنى في العيد يجعل الفرح فيه عبادة، لأن الفرح بإتمام العبادة عبادة، والفرح بقهر الشهوات عبادة، والفرح بالتغلب على الشيطان وجنده عبادة.
هذا المعنى في العيد يسمو بالعيد عن العبث، ويجعله معنى سامياً يوحي إلى النفس معنى العزة بالنفس، ومعنى القوة والغلبة، ومعنى العظمة والانتصار، يوحي إلى النفس معنى قوة الإرادة، ويوحي إلى الناس معنى تثبيت إنسانيتهم، وانهم خرجوا عن الأفق الذي تملكهم فيه شهواتهم إلى الأفق الذي يملكون فيه شهواتهم. والنفوس إذا أوحي إليها بما فيها من معان سامية ازدادت فيها رسوخاً، وحفرها هذا إلى تحصيل غيرها من الخلق الفاضل الكريم
أرايتم كيف كان العيد معنى إنسانياً سامياً بعد أن كان أمراً حيوانياً ضئيلاً جافاً لا حياة فيه ولا روح؟ أرايتم كيف صار شيئاً نافعاً مفيداً يوحي إلى النفوس معانيها من القوة والنصر على الأعداء، والارتفاع عن أفق الحيوانية المحدود، بعد أن كان شيئاً مغسولاً من النفع والسمو والخير والإفادة؟
إنما العيد عيد المجاهدين الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فانتصروا على النفس والشيطان؛ أما هؤلاء الذين غلبتهم أنفسهم وشهواتهم، واخلدوا إلى الأرض، فليس لهم منه إلا الهم والحسرة، لأن الناس خرجوا منه أقوياء منتصرين، من حيث منوا هم فيه بالضعف والهزيمة وبالارتكاس والخذلان.
محمد عرفة