مجلة الرسالة/العدد 492/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
→ الشباب والكهولة | مجلة الرسالة - العدد 492 مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية [[مؤلف:|]] |
مرسلات مع الريح ← |
بتاريخ: 07 - 12 - 1942 |
3 - الشوقيات
للدكتور زكي مبارك
توت عنخ آمون - لعنة الفراعنة - حقيقة أغرب من الخيال - بين حافظ وشوقي - بين الظلم والعدل - أحقاد العبقريين - ألاعيب الحظوظ - توضيح - النونية الآمونية - ثورة الجيل - خلاصة البحث
توت عنخ آمون
في الجزء الثاني من الشوقيات قصيدتان في توت عنخ آمون، ولهاتين القصيدتين قيمة عظيمة، فقد صرح شوقي نفسه أن أعظم قصائده هي النونية الآمونية:
درجتْ على الكنز القرون ... وأتت على الدَّنَ السنون
أما حافظ إبراهيم فكان يرى أن أعظم قصيدة نظمها شوقي هي البائية الكازنارفونية:
في الموت ما أعيا وفي أسبابهِ ... كل امرئ رهنٌ بطيّ كتابهِ
فما حديث هذه القصائد الجياد؟
كان اللورد كارنارفون من المولعين بالآثار المصرية، وقد سمح له غناه أن ينفق على الحفريات بسخاء، فكلف المستر كارتر أن يحفر في (وادي الملوك) بالأقصر عساه يهتدي إلى مقبرة لم يهتد إليها اللصوص في العصور الخوالي
وبعد متاعب كادت تودي بصبر اللورد كارنارفون عثر المستر كارتر على مقبرة توت عنخ آمون في سنة 1922
وقد التفت الباحثون من الأوربيين والأمريكيين إلى هذا الكشف أعظم التفات وقدمت التهاني إلى كارتر وكارنارفون من الهيئات العلمية في الغرب والشرق، ودعيت الصحافة إلى معاينة ذلك الكشف الخطير فذهب لمعاينته ثلاثة من الصحفيين: زكي مبارك مندوباً عن جريدة الأفكار، والدكتور هيكل مندوباً عن جريدة السياسة، والأستاذ المازني مندوبا عن جريدة الأخبار
ولن أنسى أن المستر كارتر حدثنا عن السبب في نقص بعض محتويات المقبرة، وك الرأي عنده أن أيدي اللصوص قد امتدت إليها في عهد (الأسرة العشرين) فكتبت في (الأفكار) أقول إني أرجح إنها سرقت في (القرن العشرين) ولم يفت مراسل (التيمس) أن يبرق إلى جريدته بهذا التلميح، فنشرته بدون تسويف، لتداعب به اللورد كارنارفون، وكانت النتيجة أن يمتنع المستر كارتر عن السماح للصحفيين بزيارة المقبرة، ولهذا الامتناع صدى في شعر شوقي سنشير إليه قبل ختام هذا الحديث.
لعنة الفراعنة
هنالك خرافة تقول بأن الفراعنة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت. ولهذا الخرافة أصل، فقد وجد على كثير من القبور المصرية والكلدانية دعوات حرار على من ينبشون قبور الملوك. وفي القبور المصرية ما يسمى (الرصد) وهو تمثال يقام في مدخل القبر لتخويف اللصوص، وهو حقا مخيف، لأن القدماء كانوا يتوهمون إنه مزود بالروح وبالسلاح، وأنه يقتل من يدخل القبر بدون استئذان. وهل يستأذن اللصوص؟
فماذا صنعت لعنة الفراعنة باللورد كارنافون؟
أبرق إليه المستر كارتر فحضر على عجل ليشهد الكشف الجديد، وبعد أيام لسعته بعوضة وهو نائم في خيمة بجوار المقبرة فمات.
حقيقة أغرب من الخيال
كان اللورد كارنافون أهدى إلى بنت ملك الإنجليز عقدا من العقود القديمة، ففرحت به فرحاً عظيماً، وأثابت مهديه أجزل الثواب، فلما سمعت أن بعوضة لسعته فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلحقها لعنة الفراعين
وفي قصة البعوضة يقول شوقي:
صادت بقارعة (الصعيد) بعوضةٌ ... في الجوّ صائدَ بازه وعقابهِ
وأصاب خرطوم الذبابة صفحةً ... خُلقت لسيف الهند أو للذبابه
طارت بخافية القضاء ورأرأتْ ... بكريمتيه ولامستْ بلعابه
ثم يعلل شوقي تلك الحادثة تعليلا علمياً فيذكر إنها من نتائج الوهم الذي يضعف الأعصاب:
لا تسمعنْ لعصبة الأرواح ما ... قالوا بباطل علمهم وكذابهِ الروح للرحمن جلّ جلالهُ ... هي من ضغائن علمه وغيابه
غلبوا على أعصابهم فتوهموا ... أوهام مغلوبٍ على أعصابه
بين حافظ وشوقي
كان التنافس بين حافظ وشوقي قد وصل إلى أبعد الحدود، وزاد في خطر ذلك التنافس أن حافظا كان رجلا عذب الروح، وكانت له مع الصحفيين صلات يؤرث بها أحقادهم على شوقي حين يشاء
وما أذكر غلبة شوقي على حافظ إلا تعجبت. فقد كان حافظ غاية في الذكاء واللوذعية، وكان علمه بتاريخ العرب وآدابهم علما يفوق الوصف، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية أعجوبة الأعاجيب، فكيف تفوق عليه شوقي وكان رجلا يدل مظهره وحديثه على إنه فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ولا نبوغ؟
أكاد أجزم بأن (شهوة الحديث) هي التي أضعفت شاعرية حافظ، فقد كان كثير الحديث، وبالحديث وصل إلى ألوف القلوب، وبالحديث ضاع، لأن الحديث يأخذ من القوى النفسية طاقات لا تصلح بعدها للغناء
لو أن أحاديث حافظ دونت لكان فيها ثروة فكرية تفوق ما ترك شوقي من الثروة الشعرية، ولكان من الممكن أن يعد من أقطاب التاريخ الأدبي في هذا الباب، ولكن هذا الزمن لا تتسع تقاليده الأدبية لمثل ما كانت تحرص عليه عناية القدماء في أمثال هذه الشؤون
أما شوقي فكان يؤثر الصمت ليحتفظ بالمدخر من قواه النفسية، وليلقى الناس بالقصيد لا بالحديث، فظفرت جهوده بالخلود.
كان حافظ يحدث من يلقاه بإطناب وإسهاب، فلا يقتضي اليوم إلا وهو متهالك من فرط الإعياء، وكان شوقي يهرب من الناس حين يشرع في النظم، فلا تراه إلا هائماً على وجهه من طريق إلى طريق، وفي حال تنذر بالجنون
كان حافظ يطيل محاورتي حين كنت موظفا بدار الكتب المصرية في سنة 1925، فبدا للمرحوم أحمد نسيم أن يدلني على أحد مقاتله النفسية، فحدثني أن أعظم ما يغيظ حافظاً أن تخبره أنك رأيت شوقي ينتقل من ترام إلى ترام وفي يده سيجارة وعلى وجهه أمارات الذهول.
وحملني النزق على تجربة هذه الوصية، فأخبرت حافظا أني رأين شوقي كثير التنقل في الشوارع، وفي حال يغلب عليه الانفعال، فصرخ حافظ: في أي غرض يعالج الشعر هذا المخبول؟ إنه يكره أن يقترن اسمي باسمه، مع أن الناس ظلوا يقولون في أكثر من عشرين سنة: شوقي وحافظ كما يقولون: بيض وسميط
بين الظلم والعدل
كانت الأقدار سمحت بأن تنعقد بيني وبين شوقي مودة دامت نحو سنتين. وفي تلك الأيام عرفت من أحوال شوقي أشياء وأشياء. ومن المؤكد إنه من أعاظم الرجال الذين عرفتهم في حياتي، فقد كانت أستاذيته في نقد المجتمع مضرب الأمثال، وكان روحه من ألطف الأرواح، وفي لحظة من لحظات الحوار حول مقاصد الشعراء سألته عن قصيدة حافظ في مجاريته، وهو منفي بالأندلس، فأجاب وقد تربد وجهه بالغيظ، أنا لا أروي غير شعري
فقلت: ومن الوفاء للأدب أن تروي شعر من يناجيك وأنت غريب
وفي اليوم التالي لقيت حافظا فسألته برفق: أتحفظ شيئا من شعر شوقي؟ فأجاب: لقد قتلني شوقي حين قال في اللورد كارنارفون:
أفضى إلى ختم الزمان ففضهُ ... وحبا إلى التاريخ في محرابهِ
وطوى القرون القهقرى حتى أني ... فرعونَ بين طعامهِ وشرابه
أحقاد العبقريين
ومع هذا فأحقاد العبقريين كأحقاد الأطفال تذوب بعد ليال. ففي سنة 1927 أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي، فأنشد حافظ قصيداً جاء فيه:
أميرَ القوافي قد أتيت مبايعاً ... وهذى وفود الشرق قد بايعت معي
فدعاه شوقي وقبّل جبينه والدمع في عينيه. . . ثم شاء القدر أن يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع، فقال شوقي يبكيه:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي ... يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقتَ وكل طول سلامة ... قدرٌ، وكل منية بقضاء
ووددت لو أني فداك من الردى ... والكاذبون المرجفون فدائي الناطقون عن الضغينة والهوى ... الموغرو الموتى على الأحياء
من كل هدّامٍ ويبني مجدهُ ... بكرائم الأنقاض والأشلاء
ما حطّموك وإنما بك حُطّموا ... من ذا يحطّم رفرفَ الجوزاء
أنظُر فأنت كأمس شأنك باذخٌ ... في الشرق واسُمك أرفع الأسماء
بالأمس قد حلّيتني بقصيدة ... غراء تُحفَظُ كاليد البيضاء
غِيظَ الحسود لها وقمت بشكرها ... وكما علمتَ مودتي ووفائي
وهي أعظم قصيدة قالها شوقي قبيل الموت. ولعلها خير ما جاد به خاطره برفق وحنان
ألاعيب الحظوظ
مات حافظ وشوقي في موسمً واحد هو صيف سنة 1932 فارتجت الأقطار العربية لموت شاعرين كانت إليهما قيثارة الغناء في أعوام تزيد على الثلاثين
وفي خريف تلك السنة بدا لإحدى شركات السجائر أن تخرج علبة باسم شوقي وعلبة باسم حافظ، فجعلت ثمن العلبة الأولى خمسة قروش وثمن العلبة الثانية أربعة قروش
وسعيد الدنيا سعيد الآخرة، كما يقول المصريون
توضيح
لهذا الاستطراد غاية، هي خلق جو يفسر ما كان بين شوقي وحافظ، ولهما مجال في مسابقة الأدب العربي لهذا العام السعيد. وما يليق بأديب أن يجهل ما كان بين حافظ وشوقي من مصاولات عادت على الشعر بأطيب الثمرات
النونية الآمونية
مراجعة هذه القصيدة بتأمل وتدقيق ترينا كيف قال شوقي إنها أعظم ما خطته يمناه، فقد حاور الحياة وحاور الوجود بأسلوب الأديب الفيلسوف، وزعم خياله أن الموتى لو شعروا بما في قبر ذلك الملك لنبشوه بدون استحياء ثم مضى فصور حياة ذلك الفرعون في حدود التصاوير المرسومة بجدران قبره المطموس
والتلطف مع شوقي لا ينسيني واجب النقد الأدبي، وهذا الواجب يدعوني إلى النص على أن شوقي أسرف في وصف مقبرة توت عنخ آمون، فقد ذكر لها خصائص غير حقيقية، خصائص لم ترها عيناي حين زرتها قبل عشرين عاماً، ولعل شوقي لم يرها بعينه قبل نظم هذا القصيد، وإنما تمثل ما رآه في بعض المقابر الفرعونية فقال ما قال بلا تحفظ ولا احتراس
ثورة الجيل
في هذه النونية تحدث شوقي عن عصر توت عنخ آمون وعده عهد (الفرد اللعين) ليجوز له في قصيدة ثانية أن يقول إن الدستور جعل عصره دون عصر (فؤاد)
والقصيدة الثانية تحفة أدبية تخيل فيها الشاعر أن توت عنخ آمون:
سافرَ أربعينَ قرناً وعدَّها ... حتى أتى الدار فألفَي عندها
إنجلترا وجيشها ولُرْدها ... مسلولة الهنديِّ تحمي هندها
قامت على السودان تحمي سدَّها ... وركزت دون (القناة) بَندها
فقال والحسرةُ ما أشدَّها ... ليت جدار القبر ما تدهدها
وليت عيني لم تفارق رَقْدها ... قم نَبِّنِي يا بَنْتَئورُ ما دها
مصرُ فتاتي لم تُوقِّر جدها ... دقت وراء مضجعي جزْبندها
وخلطتْ ظباءها وأُسدها ... وسكب الساقي الطلا وبَدَّها
قد سحبتْ على جلالي بُردها ... ليت جلال الموت كان صدها
وهذا شعر يفسده الشرح، وهو أيضاً شعر لا يقوله غير شوقي إمام الصياغة الشعرية، وأصدق من تغنى بأمجاد النيل وفي هذه القصيدة نص شوقي على أن:
مصر الفتاة بلغت أشدَّها ... وأثبت الدم الزكيُّ رُشدها
فأرسلت دهاتها ولُدَّها ... في الغرب سدوا عنده مسدَّها
وبعثتْ للبرلمان جندها ... وحشدتْ للمهرجان حشدها
ثم أشار إلى معارضة المستر كارتر في زيارة المقبرة فقال يخاطب الفرعون:
لحدك ودَّتْه النجوم لحدها ... أريتنا الدنيا به وجدها
سلطانَها وعزها ورغدها ... وكيف يُعطَى المتقون خُلدها
أبوابك اللائى قصدنا قصدها ... كارترُ في وجه الوفود ردَّها
لولا جهودٌ لا نريد جحدها ... وحُرمةٌ من قربك استمدَّها قلتُ لك اضربْ يده وقُدَّها ... وابعث له من البعوض نُكدها
والقارئ يفهم إنه يشير إلى البعوض الذي صرع اللورد كارنارفون، وهو بعوض ظالم، فقد حدثنا شوقي في البائية أن اللورد كارنارفون أهدى إلى توت عنخ آمون هدية أعظم من الهرمين، لأنه عرف به أمماً لم يعرفها عصر الفراعين. ألم تكتب فيه عشرات البحوث في بلاد الأمريكان؟
خلاصة البحث
قد فرغت من الكلام عن عيون الجزء الثاني من الشوقيات في الحدود التي يسمح بها الوقت، وإني لواثق بأن هذه الإشارات تكفي لهداية المتسابقين إلى اجتياز الامتحان بأمان
ولكن الواجب يحتم عليّ أن أشير على الطلبة بأن يسألوا أساتذتهم عما فاتني النص عليه، فقد يكون في أساتذتهم من هو أعرف بسرائر الشوقيات
وقد سكت عن سينية شوقي في معارضة سينية البحتري، لأني تحدثت عنها بإطناب في كتاب (الموازنة بين الشعراء) وأنا أكره الحديث المعاد
أما بعد خلاصة هذا البحث؟
هو إشارات ورموز لا ينتفع بها غير من يقرأ الشوقيات بإمعان. والنقد الأدبي توجيه لا تلخيص. والله وليّ التوفيق
زكي مبارك