مجلة الرسالة/العدد 490/الملك الظاهر
→ مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية | مجلة الرسالة - العدد 490 الملك الظاهر [[مؤلف:|]] |
حديث عيسى بن هشام ← |
بتاريخ: 23 - 11 - 1942 |
زيارة ضريحه بدمشق
للأستاذ أبي أسامة
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً
قلت: مهلا فإني أنحدر من تاريخ طويل من المجد والبطولة؛ وليس في وسعنا نحن أبناء هذا الجيل الزاحف أن ننساه أو نغض الطرف عنه، بل إني لأشعر بالفخر يملأ نفسي، نعم لأني أشعر بالبطولة تملأ جوانب تاريخي
قالت: ومن هم أبطالك؟
قلت: كنجوم السماء لا تملك لهم عدا
قالت: حدثنا عن النفس القوية عندكم التي لا تربط حظها بما تؤمله من مساعدة الغير لها، ولا تعتمد على أهواء الناس وآرائهم وأحكامهم، وإنما تعتمد على عملها وحده الذي يخلق لها الحظ الذي تستحقه والذي هو جدير بها
قلت: اخترت الملك الظاهر بيبرس، إذ هو في نظري من أولئك الذين يعتمدون على القوة الكامنة في شخصيتهم، بل من الذين اتخذوا من أنفسهم قوة منظمة مدركة للعوامل المحيطة بهم، فوضع كل عامل في مركزه الخاص به، ثم جمعها وحشدها ووزعها، فاستعملها للوصول إلى الأهداف التي قصد تحقيقها، وكان النصر حليفه وطوع بنانه
قالت: آتنا من بعض أخباره
قلت: لست بمؤرخ، وإنما سأحاول أن أرسم التاريخ وأخرجه صورة حية:
نحن في سيارة من بيروت إلى دمشق ومعي صديقي، وكان ذلك في صيف 1942، فإذا أنا أرتل قول القائل:
لئن عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شحطها والعيش عاد شبابه
هذه دمشق قد بدت تطل بوادرها عليك من وراء عقبة دمر، فإذا بالمرجة الخضراء تغمرك بروحها كما تغمر الأرض مياه بردى المندفعة، فتشعر بأنك تدخل عالماً لم يكن غريباً عنك في يوم من أيام حيات بدأت أستعرض ذكريات التاريخ الذي هو جزء منا، وأتحدث عنها، ودمشق عاصمة وثغر ورباط للعلم وموئل للعز التالد وللمجد القادم، كلما دخلتها شعرت بأن مصر تعيش في دمشق، كما أشعر في القاهرة بأن الشام تعيش بمصر. انظر إلى مساجد العاصمتين: تجد وحدة البناء والزخرفة، ووحدة التفكير والروح. أنظر إلى مئذنة الجامع الأموي الواقعة على يمين مدخله، ألا تذكرك بمآذن الأزهر بالقاهرة؟ وانظر إلى مئذنتي الغورى وقايتباي بمصر، ألا تذكرك بمآذن الشام؟
وأذكر أنني خرجت يوماً من الجامع الكبير فوقفت على قبر صلاح الدين وواصلت سيري إلى المجمع العلمي ومنه اتجهت إلى الظاهرية، فإذا أمام ما سطرته يد الزمن السالف الغابر لأقرأ ما يأتي:
(بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذه التربة المباركة والمدرستين المعمورتين المولى السلطان الملك السعيد أبو المعالي محمد بركة بن السلطان الشهيد الملك الظاهر والمجاهد ركن الدين أبو الفتوح بيبرس الصالحي أنشأها لدفن والده الشهيد وألحق به عن قريب فاحتوى الضريح على ملكين عظيمين ظاهر وسعيد. أمر بإتمام عملها السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قسيم أمير المؤمنين خلد الله سلطانه)
هذه دار العقيقي من رجال الدولة الفاطمية المصرية، بنيت منذ تسعة قرون ولا تزال حجارتها العتيقة ظاهرة وفاصل البناء تلمسه بين القديم وما استجد في أيام السعيد. ارجع إلى مدخل الظاهرية وانظر إلى جمال الباب وتناسقه والى المقرنصات بسقفه، إنه لتحفة من ريازة القرن السابع الهجري فإذا اخترقت الباب فاتجه يميناً إلى القبة
هنا ضريح الملكين الشهيدين تحت قبة قد ازدانت جدرانها بالفسيفساء قلد راسمها جدران المسجد الأموي ورسومه، فإذا اتجهت إلى المحراب تجده تحفة أخرى من زخرفة هذا العصر يمتاز بالصدف الملبس في أعلاه وجوانبه فجاء كإطار ركب حول العمودين. اقرأ الآية التي كتبت على اليمين: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) وعلى اليسار: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) أما ما تحت الفسيفساء من الجدران فقد ركب عليه الرخام المجزع، اختلف صديقان لي في أصله أهو من الشرق أم من الغرب.
ووقفت أمام هذا الضريح وقد غمرتني نفحة فانتبهت أمام رهبة الراقد كأني أتلقى الأمر ممن كانت بيده مقاليد آلاف الرجال وأعنة آلاف الخيل، وأحنيت رأسي احتراماً وإجلالا إذ هنا الملك الظاهر من كان اسمه يدوي في أرجاء ممالك ثلاث قارات من العالم المعروف في عصره. ومرت أمامي أدوار البطولة والمجد التي أوحتها إلي هذه البقعة الطاهرة
قد مر بمخيلتي في تلك اللحظة لفتة من الدهر تملأها الثقة بالنفس وتمثل الإرادة القوية التي أنشرها لاعتقادي ووثوقي في أن الأمة التي تحترم نفسها هي التي تشيد بأبطالها، وحينئذ تستحق احترام العالم المتمدين وتقديره لها.
كان عصر الظاهر عصراً فذاً في التاريخ ماجت فيه الأمم والشعوب والجماعات، وتمخضت أيامه بالحوادث الجسام والمعارك الكبرى، وقذفت فيه الأقدار بقوات هائلة من الخير والشر معاً؛ وكان هذا الركن من العالم الذي نعيش فيه الآن، يواجه أشد الأخطار ويمتحن بأقوى المحن التي مرت في تاريخه - فهو لم يكن قد أفاق بعد من النكبة الكبرى والصدمة المروعة التي أصابته في بغداد يوم استباحها هولاكو سنة 656 وكان صدى استشهاد الخليفة العباسي لا يزال يهز النفوس ويدوي في الدنيا
كانت النكبات تتوالى من ذات اليمين وذات الشمال؛ وهذا العالم العربي يعاني الشدة أثر الشدة ويقارع ويكافح ضد الفناء أمام قوات تفوق طاقته وقد انسابت عليه من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، والناس في دهش يتساءلون أأذنت الساعة؟ لم استعجلهم ربهم بالعذاب؟ (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون)
(قرآن كريم: الأنعام)
إن ما أصاب الشرق العربي في ذلك العصر الرهيب كان من قبيل الانقلابات الأرضية التي تثيرها عوامل الطبيعة فتدك الأرض دكاً وتهبط على أثرها المحيطات وتظهر بعدها القارات، أو كأعاصير هائلة برق ورعد وظلمات، ثم يعقبها طوفان يأتي على الأخضر واليابس ويهدم أحسن ما بناه الإنسان وما أخرجه العقل البشري. كان هذا حال أجدادنا في القرن السابع الهجري حينما قذفت عليهم الأقدار بتيارات متعاقبة من جماعات البشر تهاجمهم في عقر ديارهم فتخرجهم منها، وتنتزع من أيديهم فلذة أكبادهم وتهدم وتحرق وتخرب وهم لا يستطيعون لها دفعاً إلا بقدر ما في أيديهم من قوة وصبر
في وسط هذا الوقت العصيب والليل المدلهم سطع في السماء نجم الظاهر، وظهرت على مسرح شرقنا شخصيته الجبارة فقال عنه المؤرخون في عصره (هو الأسد الضاري كان شهماً شجاعاً أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والأمر العسير)
ولقد قامت قيامة الدنيا، وكشر إله المعارك عن أنيابه، ولعب الرجال والأبطال أدوارهم ثم انتهت القوى الجامحة التي أثارتها الطبيعة فألقت قيادها إلى رجل قد اختارته العناية من مصر وهيأته بمصر، فما أن رأته العناصر الهائجة حتى خفتت لدى طلعته، ثم خبت فسلمت إليه طائعة مختارة
وأطلت شخصية الملك الظاهر على القرن السابع الهجري، فإذا هي تكشف ما حولها وتظهر واضحة براقة قوية وكأن إرادة الملايين التي تمثلت في إرادته وآمال الناس التي تحققت على يديه وأكبرت عمله قد تجمعت في بقعة واحدة وأخذت تنشد بصوت واحد في مواجهة عالم بأكمله:
(إني أرفع يدي إلى السماء وأقول: حي أنا إلى الأبد)
(يتبع)
(أبو أسامة)