مجلة الرسالة/العدد 49/الكتب
→ المارد الأناني | مجلة الرسالة - العدد 49 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 11 - 06 - 1934 |
مواقف حاسمة من تاريخ الإسلام
تأليف الأستاذ محمد عبد الله عنان
(الطبعة الثانية) نقحت وحققت وضمت إليها بحوث جديدة
لئن كان لهذا القلم الضعيف أن يطمح الى ما هو أبعد من غايته، فان مما يبهج نفسي أن أتحدث عن هذا الكتاب القيم، وقصاراي أن أتم هذا الحديث على خير ما أرجو من دقة، وعلى أحسن ما أحب من إنصاف.
الكتاب كما يتضح من عنوانه، يصور لك أدوار ذلك الصراع العظيم الذي قام بين الإسلام والنصرانية منذ أن وثب العرب من صحرائهم، وأثخنوا في أراضي الدولتين الفارسية والرومانية، والذي تجلى في عدة مواقف مشهورة كحصار العرب للقسطنطينية ولقائهم أعداءهم في الغرب في موقعة بلاط الشهداء، ثم ما كان من بسط العرب سيادتهم على البحر الأبيض المتوسط واحتلالهم اقر يطش، وصقلية، وروما، وجنوب إيطاليا، إلى أن تطور هذا النزاع إلى دور الحروب الصليبية وما تخللها من لقاءات هائلة بين قوى الإسلام والنصرانية، وأخيراً ما كان من أمر العرب في الأندلس، وتقوض دعائم ملكهم العريض هناك.
وتلك المواقف الحاسمة التي يتخذ منها المؤلف الفاضل عنواناً لكتباه هي في الواقع موضوع واحد، فهو وان اختلفت مظاهره وتعددت ميادينه، وتسلسلت عصوره، لا يخرج في جوهره عن الصراع بين الإسلام والنصرانية، ولقد أعجبني من المؤلف تنبيهه الأذهان إلى ذلك في مواطن كثيرة.
ولقد صور الأستاذ المؤلف كل هاتيك المواقف تصويراً دقيقاً رائعاً، مبيناً أثرها في مصاير كل من الطرفين في وضوح يؤيد ما اشتهر به من بسطة في فنه، وسعة في اطلاعه، وإلمام عجيب بالمواضيع التي يطربها؛ ولقد أضاف إلى تلك المواقف طائفة من الفصول سماها (بحوثاً مفردة) والواقع أنها ليست مفردة، وأن اتصالها بالموضوع وثيق، بل إنها لتعد ضرورية له، ومن أمثلة تلك البحوث الهامة (الدبلوماسية في الإسلام) و (الفروسية) و (الرقي في العصور الوسطى) وغيرها مما يلقى ضوءاً على الموضوع الأصلي؛ ولا يفوتنا أن نذكر مع مزيد الإعجاب أن المؤلف مهد لكتابه بفصلين في غاية الأهمية هما (وثبة العرب) و (سياسة العرب الدينية)؛ فأرانا في الفصل الأول، في تعمق ودقة وقوة بيان، تلك الروح التي سيطرت على العرب في جزيرتهم، وأرانا في الفصل الثاني، روح الإسلام في معاملة الأمم التي كانت تدخل في حوزته مورداً في ذلك كثيراً من الأمثلة والاقتباسات، شارحاً الأحوال الاجتماعية والسياسية التي كانت تسود ذلك العصر.
فأنت ترى من هذا الوصف الموجز أن الكتاب يجمع بين الفائدة واللذة، أبو بعبارة أخرى فهو للثقافة والاستمتاع.
أما طريقة الأستاذ في كتابة التاريخ فجديرة بالإعجاب حقا، فهو لن يسرد عليك الحوادث سرداً مملا، بل ترى له طريقة انقادت له وسهلت في يديه وأصبحت وقفاً عليه، طريقة طالما تطلعنا إلى وجودها في كتابه التاريخ باللغة العربية، فهو يحلل ويدقق، ويمحص الحوادث في نظام علمي دقيق، دون أن يملك أو يطوح بك في مجاهل مطموسة الصوى، جائرة السبل، وإنك لتحس شخصيته في كل عبارة من عباراته، لأنه يفرغ على القرطاس صور ذهنه، وحماس قلبه، كما أنك تلمس آثار جهوده في كل فقرة من فقراته، فتراه يعرض عليك الروايات المختلفة، والآراء المتنوعة، ثم يقف منها موقت الناقد الذي يمكنه من الحكم والفصل، ذاكرة قوية، وقراءة واسعة، وصبر شديد؛ ولن تراه يتهرب من نقطة أو يتحيز إلى رأي؛ كل ذك في فطنة ونفاذ بصيرة، فإذا أضفت إلى هذا أن الأستاذ عناناً مشغوف بموضوعات التاريخ الإسلامي، وأنه لن يكتب إلا ما جاشت به نفسه ونبض به قلبه، أمكنك أن تفهم الروح التي يكتب بها الأستاذ التاريخ، والواقع أننا لا نعدو الحقيقة إذاقلنا إن طريقة الأستاذ عنان في كتابة التاريخ قد ثبتت عندنا ناحية من نواحي الحركة الفكرية، كما أن الأستاذ نفسه قد صار ركناً وعلماً نفاخر به أهل الغرب، فطريقته العلمية الدقيقة في كتابة التاريخ تضع آثاره في صف مثيلتها في لغة الغرب، مما يعد مفخرة للعربية وأهلها.
وهناك ناحية أخرى في كتابة الأستاذ عنان جديرة بالتنويه، تلك هي أسلوبه، فللأستاذ أسلوب خاص، تحار إن أردت شرحه؛ فعباراته قوية وسط بين المقبوضة والمبسوطة، لا ترى فيها حشواً ولا تجد كلمة تستعمل في غير موضعها، أو تجد لفظاً يقصر عن أداء معنى، أو يتسع حتى يطغى على ذلك المعنى فيضيعه، كذلك لن تجد عبارة فاترة في موقف حماسي، أو جملة حماسية من غير داع، هذا إلى جمال ورونق في غير تكلف أو إسفاف.
أما عن مظهر الكتاب وطبعه وترتيبه، فحسبك منه أنه مطبوع في مطبعة دار الكتب، على ورق جيد من القطع الكبير، ولقد ختمه المؤلف الفاضل بثبت للمراجع العربية والإفرنجية، ثم بفهرس للأعلام التاريخية والجغرافية ومقابلها الإفرنجي، ثم بفهرس عام للكتاب.
ونحن لا يسعنا إلا أن نتقدم بعظيم الشكر للأستاذ المؤلف على مجهوداته التي ترفع رأس العربية، وتشرف أهل الضاد جميعاً.
محمود الخفيف