مجلة الرسالة/العدد 49/العُلوم
→ في الأدب الفرنسي | مجلة الرسالة - العدد 49 العُلوم [[مؤلف:|]] |
بين الدين والعلم ← |
بتاريخ: 11 - 06 - 1934 |
الفكرة الذاتية والفكرة الموحاة
للدكتور عبد الفتاح سلامه
قد يلعب الإنسان النرد مع صديقه للتسلية ولتمضية الوقت، ولكنه قد يغافل صديقه هذا فيغالطه في أثناء اللعب لأجل أن يكسبه. وقد يجلس الإنسان في المقهى فيرى غادة حسناء فيوسوس له الشيطان أن يتبعها، فيحول الضمير دون ذلك وينسى كل شيء عنها، ولكنه بعد قليل قد يجد نفسه سائراً في نفس الطريق وقد يلحق بها.
وقد يدخل الإنسان في بيت ما فيجد سلعة جميلة صغيرة فيود لو تكون له ثم ينسى أيضاً كل شيء عنها. ولكنه بعد خروجه من البيت يضع يده في جيبه ولدهشته ودهشة العالم معه قد يجد هذه السلعة فيه.
فالفكرة الذاتية اللاشعورية عن وجوب الكسب هي التي جعلته يغافل صديقه برغم وجود فكرة شعورية عنده عن وجوب اللعب لمجرد التسلية وبدون اهتمام للنتيجة. والفكرة اللاشعورية الخاصة باتبعاع الفتاة هي التي قادته للسير في هذا الطريق رغم احتجاج الضمير واستنكاره. والفكرة اللاشعورية الخاصة بامتلاك تلك السلعة هي التي دفعته إلى أخذها. وهكذا يبدوا أنه إذاكان اللاشعور ليس عليه إلا أن يرغب فان الشعور عليه أن ينفذ هذه الرغبة. وهذه هي القاعدة في الإنسان. ولكن كيف يتسنى لهذا الشيطان أن يملي رغبته على الشعور وكيف يتسنى للشعور أن ينفذ هذه الرغبة مع وجود الضمير القوي والعقل المميز الموزون؟
انه يلجأ في هذا السبيل إلى الحزن والتنغيص على الشعور فيضطره إلى تنفيذ ما يريد. والحزن سببه عدم التمكن من تنفيذ الرغبة أو تخيل عدم إمكان تنفيذها، والحزن يختلف من مجرد شعور بعدم السرور إلى انقباض مستمر، وفي نهايته العظمى يكون الحزن المرضي المسمى بالسوداء ففي مثلنا الأول يجلس الإنسان للعب وعنده رغبتان كما قدمنا ويبتدئ في تنفيذ الرغبة الشعورية أي اللعب لمجرد التسلية وعدم الاهتمام للنتيجة حتى إذا ما خانه الحظ وعرف أنه سيخسر الدور فان الرغبة اللاشعورية - حب الكسب - تجد نفسها على وشك عدم التنفيذ فيبتدئ مرح اللاعب يقل شيئاً فشيئاً، ثم يبتدئ أن يكون لعبه آليا أي بدون تفكير منتظم فيشعر الإنسان بالضيق فيضطر بعد ذلك أن يجد له مخرجاً يقضي به الرغبة اللاشعورية التي سببت له هذا الضيق. وقد يكون هذا المخرج عن طريق النكتة والفكاهة وهذا من شأنه أن يقلب وضع الأمور فيخيل للمغلوب أنه غالب، وقد لا يكتفي المغلوب بهذا التخيل فيغالط إذن في اللعب عن قصد وغير قصد. هو إذ يغالط قد يعمل ذلك أيضاً على سبيل النكتة والفكاهة. والشعور في عمله لإزالة ما قعد يشعر به الإنسان من ضيق يرضي الرغبة اللاشعورية فيشعر الإنسان بالسرور والفرح. ويرضى كذلك الضمير لأنه إنما يغالط لأجل الضحك والسرور ولا حرج عليه في ذلك. فبالحزن إذن يسيطر اللاشعور على الشعور ويضطره إلى تنفيذ ما يريد. وهذه هي طريقة اللاشعور السحرية في إملائه لرغباته. أو هذا هو عمل الشيطان في وسوسته لما يبديه. ولعمري لو كان الشيطان جسماً مستقلاً عن جسم الإنسان ولم يكن ممثلاً في العقل الباطن فان هذا العقل هو صلة الاتصال بينه وبين الإنسان.
وفي مثلنا الثاني نجد أن صاحبه بعد أن أمره ضميره بالجلوس عاقلاً مؤدباً ما لبث أن شعر بالقلق في جلسته وسرعان ما فكر في مغادرة المكان، ولكنه لا يعلم سبب قلقه هذا، لأن الضمير قد طرد الفكرة اللاشعورية من الشعور، أو بمعنى آخر فان الضمير كان سبباً لنسيانه كل شيء عن هذه الفتاة. ولا يكون هناك بعد هذا النسيان ما يبرر منع المسير في هذا الطريق لو تذكر الإنسان لزوم قضاء حاجة معينة فيه. وهكذا تلجأ النفس إلى فكرة شراء شيء معين أو مقابلة شخص معين في هذا الطريق بالذات. فيقوم الإنسان من مكانه سائراً في الطريق الذي أراده اللاشعور ويزول القلق الذي سببه إذن هذا الأخير عندما منع عن تحقيق رغبته التي أبداها.
ومع أن اللاشعور يسبب للنفس المتاعب من جراء عدم تلبيتها لطلباتها فيضطرها إلى إجابتها. فانه كالطفل الذي قد يقنع من تحقيق رغبته بالأوهام دون الحقيقة الواقعة. وهكذا نرى في مثلنا الأول أن اللاشعور قد اكتفى بالنكتة والفكاهة دون تحقيق الكسب نفسه. وفي مثلنا الثاني ولو ان صاحبه سار في نفس الطريق الذي أراده اللاشعور إلا أن الغرض من السير قد التوى عليه.
ذلك هو اللاشعور، وقد رأيت أنه الطفل الذي يعيش في الأوهام أو هو الشيطان الذي يحاول أن يخرج الإنسان من الحقائق إلى عالم الخيال. وقد نجح فعلاً في هذا الأمر أي نجاح سواء مع المرضى أو مع الأصحاء. وهل نرى في العالم شيئاً غير أخيال في كل مكان؟ فالمريض العصبي مريض لأنه تخيل المرض. ويقوم الإنسان من نومه معللاً الآمال على ما وجد في رؤياه من تحقيق أمل يرقبه أو النجاة من مكروه يرهبه. ويستمد الشعراء منه الخيال فتكون الاستعارة والتشبيه والتورية. ويستمد الروائيون منه والفنانون كل دقائق الفن ومعجزاته، فالمثال لم يعمل إلا أنه رغب فتخيل فجسم خياله. وحقق رغبته تحقيقاً رمزياً. وهذا مما يدل في ذاته على أن ذلك الطفل الذي يتذرع بالحزن للحصول على تنفيذ رغباته مع انه قد يقنع بالتحقق الجزئي أو الرمزي لهذه الرغبات، قادر كل القدرة على السيطرة على النفس لأنه تريد أن تتحاشى غضبهفتنفذ له ما يشاء. فهل يمكن بعد ما تقدم أن نستخدم هذه القوة لعلاج بعض الأمراض؟
في الإمكان الإجابة على هذا السؤال بالايجاب، وذلك بواسطة طريق الإيحاء المختلفة، وسنرى فيما يلي كيف يمكن التغلب على هذا الشيطان واستخدامه في أغراض علاجية كثيرة. وإننا نود أن نشير أولاً إلى إن قوة الإيحاء تتوقف على عوامل شتى. وأهم هذه العوامل ما كان بفعل المودة والمحبة والتقدير لأنه بسببها يعتقد اللاشعور بما يوحي إليه تمام الاعتقاد. ويرسله إلى الشعور ليتولى تنفيذه.
ولما كان الإيحاء لا يمكن أن يثمر إلا في وجود الاعتقاد، وكان الاعتقاد أيضاً متوقفاً على العوامل المختلفة السالفة الذكر فانه من الواجب أن تكون شخصية الموحى بعيدة كل البعد عما يسبب الريبة أو الشك، وأن يكون هو نزيهاً يزن كل كلمة يقولها، وأن يكون صالح المريض أول ما يرمي اليه، ونحن إذاأردنا سهولة التعبير وتوخينا إظهار ما نقصده على وجه عام فانه يمكن القول بأن الإيحاء هو وضع أفكار أمام العقل على أمل قبولها والاعتقاد في صحتها. وهي لذلك تأخذ مجرى عكسياً لمجرى الأفكار الذاتية لأنها تبدأ في الشعور أو التمييز ثم تذهب بعد ذلك إلى اللاشعور إذا لم تجد ما يمنع دون الوصول إليه.
وقد يكون الإيحاء من أشق الأمور إذا وجدت أفكار ذاتية تخالفه أو تشك فيه، ويكون من أسهل الأمور إذا وجد من الأفكار الذاتية ما يعززه أو ما لا ينقضه. والإيحاء موجود في الحياة العملية، وقد يكون الموحى أي إنسان مهما يكن مركزه أو عمره. فقد يجتمع اثنان ويبدي أحدهما إعجابه بشيء معين وقد يكون على حق، ولكن سرعان ما يغير وجهة نظره بعد ملاحظة صغيرة من رفيقه فيبدو له قبح ما كان يعجب به، وقد ينقم إنسان على نفسه لتصرف يعتبره خاطئاً، ولكن سرعان ما يعد ذلك النوع من الإيحاء إيهاماً، لأن الأفكار الموحى بها كثيراً ما تكون مخطئة. وترك كلمة إيحاء للأفكار الصحيحة التي لا تحتمل الشك. وعلى كل حال فان الأفكار الموحى بها سواء أكانت صحيحة أم خاطئة فأنها تتبع نفس الطريق. أي إنها تسير من الشعور إلى اللاشعور حيث يحتويها ذلك الأخير فتصبح كالأفكار الذاتية ويعتقد بها الإنسان تمام الاعتقاد
والفكرة سواء أكانت ذاتية أم موحاة، تتحول في اللاشعور من مجرد تخيل إلى حقيقة متخيلة، وترسل على هذا الاعتبار الى الشعور فيتولى تحويلها من حقيقة متخيلة إلى حقيقة فعلية، أو بمعنى آخر من فكرة إلى فعل (من إلى وهكذا يكون التخيل من عمل اللاشعور، وتنفيذ التخيل من عمل الشعور. والشعور مع هذا ليس آلة ميكانيكية لتنفيذ تخيلات ورغبات اللاشعور، بل أنه قد يرد بعض هذه التخيلات إلى اللاشعور لعدم ملاءمة تنفيذها وهنا تحدث المشادة بينهما.
فإذا أمكن إقناع مريض عصبي بأن يده المشلولة قد شفيت تماماً فان فكرة الشفاء هذه تتحول في اللاشعور إلى حقيقة متخيلة أو بتعبير أدق إلى حقيقة نفسية. وترسل على هذا الاعتبار إلى الشعور حيث يتولى إثبات هذه الحقيقة بإخراجها من حيز التخيل إلى حيز الفعل فيأمر العضات أن تنقبض، وهكذا تتحرك اليد ويتحقق الشفاء الموحى به. والمريض العصبي لا يمرض إلا إذا تخيل المرض ولا يشفى إلا إذا تخيل الشفاء
وهناك قانون آخر كشف عنه كوويه وهو أنه إذا حدثت مشادة بين الإرادة والتخيل أو بين التمييز من جهة واللاشعور والشعور من جهة أخرى، فان الغلبة تكون دائماً للتخيل على الإرادة. فشارب الخمر أو الدخان عنده إرادة قوية تحاول منعه من تعاطيهما، ولكن تخيله احتياجه إلى الشرب أو التدخين يقهر الإرادة عنده ويستمر في التعاطي. وهكذا نرى كوويه يتحدث عن المشادة وهي تقرب من المشادة التي يتكلم عنها فرويد بين اللاشعور والشعور، ولو أن مشادة كوويه شعورية ومشادة فرويد لا شعورية أو تكاد. ولهذا أشار هذا الأخير بتحليلها ومعرفة أسبابها وعرض نتيجة ذلك على التمييز ليبت فيها بصورة معقولة، أما كوويه فانه لما كانت المشادة التي يتحدث عنها شعورية فهو لا يحتاج إلى تحليل، بل يقول انه ما دامت الإرادة ضعيفة بالنسبة إلى التخيل فيجب وضع تخيل جديد أمام العقل يكون من شأنه أن يقلل من قيمة التخيل الأول الذي يتعارض مع الإرادة. وهكذا تبطل المشادة ويشفى المريض، وهو يضع التخيل الثاني بواسطة إيحاء لا يكون فيه ذكر للإرادة، فيطلب إلى مريضه أن يقول (لقد تحسنت صحتي وأنا في طريق الشفاء) لا أن يقول (أريد أن تتحسن صحتي وأريد أن أشفى)
وإذا قال أتباع نظرية فرويد بأن المرض يختفي بالإيحاء ليحل محله مرض أخف أو أشد منه. أجاب أتباع كوويه بأن من الممكن عمل إيحاء تام يشمل جميع الأمراض، والواقع أن هذا إذا نجح في كثير من الأمراض فانه يعجز عن شفاء الكثير منها أيضاً، لأن المشادة الشعورية ليست إلا أثراً أو دليلاً على وجود مشادة لا شعورية. والإيحاء إذا عمل قبل الكشف عن هذه المشادة الأخيرة قد يخفف من وطأة المرض العصبي مؤقتاً ولكنه يزيد من فعل الضمير في كبح الرغبات والأفكار الذاتية وضغطها، وذلك يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها. فمعرفة المشادة اللاشعورية في هذه الأحوال وتحليلها هو من أهم الأمور أولاً، ثم يأتي الإيحاء بعد ذلك بأفكار جديدة سامية وتخيلات ممكنة معقولة. ولهذا نرى فرويد في كتبه يقول إنه لا يميل إلى إيحاء أي فكرة إلى المريض بل يجب تركه ليكون لنفسه من الأفكار والتقدير ما يراه مناسباً لها، فهو بعد الكشف عن المشادة يكون قد شفى من مرضه. وإذاكان المريض لا يزال في حاجة إلى الإرشاد فقد يوحي إليه في بعض الأفكار والمثل العليا.
ولما كان كوويه يعتقد أن وجود الإرادة من شأنه أن يزيد في عناد التخيل وتشبثه بتنفيذ رغباته فإننا نجده يعمل لإزالة التمييز وهو محل الإرادة من مريضه قبل إيحاء أي فكرة إليه، وذلك بواسطة أربع تجارب تثبت للمريض مقدار تأثير التخيل على الإنسان في غياب التمييز. وهو بعد أن يقتنع بقوة التخيل هذه يطلب إليه أن يستخدمها في شفاء نفسه، وذلك بأن يتخيل الشفاء، ولكنه بالطبع لأي طلب إليه أن يقول إنه يتخيل الشفاء، بل انه شفى من مرضه وأن مرضه لن يعود.
وهناك طريقة أخرى للإيحاء وهي أن يكرر المريض جملة معينة في أوقات مختلفة من النهار ولمدة طويلة، وهذه هي الطريقة التي يتبعها في أمريكا وهي كثيرا ما تفيد في بعض الأحوال، لأن التمييز إذا عارض الفكرة الموحى بها في أول الأمر لا يلبث أن يتعرض لها بنقض أو شك فيما بعد فتصل في النهاية إلى اللاشعور وهو مركز التخيل كما قدمنا حيث تخرج منه حقيقة واجبة التنفيذ.
أما الإيحاء بالتنويم فلا شك أن الفكرة الموحى بها تصل إلى اللاشعور دون أن يقف في طريقها أي حائل. ذلك لأن النائم يعتقد في المنّوِم القدرة الفائقة والإرادة القوية، وهو لذلك يأخذ منه الأفكار دون أي مناقشة أو شك فينفذها الشعور بعد قيامه من النوم في الوقت المناسب. وهذه الطريقة ينطبق عليها ما سبق أن تكلمنا عنه بصدد الإيحاء بطريقة كوويه. أي أن الأعراض تختفي لأجل أن يظهر غيرها، وأن الضمير يشتد في الضغط على رغبات الإنسان اللاشعورية بدل أن يسمح لها بالمثول أمام الشعور والتمييز لمناقشتها. هذا إلى أن شخصية النائم تصبح ضعيفة تتأثر بأي فكرة يوحيها أي إنسان، لأن اللاشعور عنده قد كبر على حساب عقله المميز.
أما قيمة الإيحاء العلاجية فإنها تظهر من استعراض بعض حالات تمكن كوويه من شفائها شفاء تاماً. ومن الغريب أن بعض هذه الأمراض لا يمت إلى الأمراض العصبية بصلة ما. مثال ذلك أنه تمكن من شفاء صبي عنده التهاب في عضلات القلب وهبوط قلبي يئس أطباء مشهورون من شفائه. وقد تمكن أيضاً من شفاء النزلة الرحمية والنزيف بالإيحاء، ولنذكر القصة الآتية التي تكلم عنها البروفسور بودوان. فقد حدث أن مريضاً يشكو من نوبات ضيق التنفس بات ليلة في فندق وانتابته النوبة ليلا فقام فزعاً يريد فتح النافذة يلتمس منها هواء نقياً ولكنه بسب الظلام وللحالة النفسية التي كان بها إذ ذاك لم يتمكن من العثور إلا على لوح زجاجي تخيله جزءاً من النافذة فضربه بيده وكسره، وعند ذلك ذهبت عنه النوبة ونام مستريحاً. وعندما تيقظ في الصباح وجد أن خادم الفندق كتب له ورقة بأن عليه أن يدفع ثمن زجاجة ساعة الحائط التي كسرها. إذن فالذي أنقذه من نوبته ليس دخول الهواء النقي بل هو مجرد تخيل دخول هذا الهواء، لأنه كسر زجاج الساعة بدلا من أن يكسر زجاج النافذة. وقد ذكر الأستاذ بودوان أيضاً أن زوجة رأت وهي حام إصبعاً قبيحة الشكل فاستاءت منها وأصبحت صورتها لا تفارق مخيلتها فوضعت هذه الزوجة طفلا بإصبع مماثلة لتلك الإصبع القبيحة تماماً، وفوق ذلك فإننا نرى كوويه يقول إن المرأة يمكنها أن تلد ما تشاء من ذكر أو أنثى وما تشاء من محاسن وصفات إذا تخيلت رغبتها طول مدة الحمل
وليس هذا الأمر بغريب علينا نحن الشرقيين فإننا كثيراً ما نسمع عما يسمونه (الوحم) هذا فيما يتعلق بتأثير الإيحاء على الجنين، أما تأثيره على الشفاء من المرض فليس هذا بغريب علينا أيضاً لأننا كثيراً ما نقرأ في الكتب القديمة عن شفاء بعض الأمراض بالطلاسم والرقي والبخور، وهذه هي الأشياء التي نسميها الآن شعوذة وتدجيلا، مع أنها مدرسة قائمة بذاتها بتعاليمها وتلامذتها وأساتذتها الخ. . والواقع أنها كانت في العصر القديم لها من الأهمية بالنسبة إليه ما للإيحاء في العصر الحاضر من أهمية بالنسبة إلينا. والفرق بين طريقة اليوم وطريقة الأمس هو أن الشخص الذي يقوم بالإيحاء الآن رجل متعلم يعمل بوازع من ضميره الإنساني النبيل ويوحي إلى مرضى مثقفين أيضاً يعرفون قيمة ذلك الإيحاء ويعرفون أن قوة الشفاء موجودة في أنفسهم إذا أمكنهم أن يتخيلوا الشفاء أو إذا أمكنهم أن يتحكموا في مخيلتهم. وهكذا نرى أننا بعد أن وصلنا إلى هذه الدرجة من المدنية والعلم قد رجعنا إلى الطرق التي كان يعالج بها في الأزمنة القديمة والتي لا نزال نرى بقاياها. والتاريخ يعيد نفسه، فالمريض يشفى في العصر الحاضر إذا أوحى إليه بالشفاء بأذن الله على شرط أن يحمل حجاباً أو يحرق بخوراً. وهو بعد أن ينفذ هذه الشروط يتخيل الشفاء فيتم له. وقد تكون هذه الطريقة القديمة أجدى وأنفع للإنسان لأنها تجعله يضع ثقته في خالقه تعالى فيستمد من هذه الثقة كل معاني القوة والاطمئنان والراحة والمواساة. بدل أن يضعها في نفسه وهو كثيرا ما يشعر بضعفها.
وقد يساعد الإيحاء أو الإيهام على استفحال الداء، وذلك إذا كانت الفكرة الموحاة مخطئة كما يحدث في بعض حالات السل. ذلك لأن لفظة (سل) مخيفة عند الكثيرين الذين يعتقدون أنه لا سبيل إلى شفاء المريض به، وبمجرد معرفة أحدهم بأن هناك شكاً في تشخيص مرضه من هذه الناحية لا يلبث أن يعتقد بأنه مريض بهذا المرض فيتحقق له اعتقاده ويستفحل الداء ويسير به إلى الهلاك بخطى سريعة واسعة. ومع ذلك فمن منا سلمت رئتاه من هذا المرض؟ وكم رئة إذا شرحت وجدت خالية من التدرن أو من آثاره؟ فالسل مرض قابل للشفاء ما لم يعتقد المريض بخلاف ذلك.
عبد الفتاح سلامه