الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 49/(النيل)

مجلة الرسالة/العدد 49/(النيل)

بتاريخ: 11 - 06 - 1934


تعيد مجدنا البحري

لكاتب كبير

بعد أيام قلائل - في يوم الجمعة 15 يونيه - تسير الباخرة المصرية (النيل) من ثغر الإسكندرية إلىنابل (نابولي) ثم إلى مرسيليا. وهذه الرحلة الأولى لباخرة مصرية كبيرة في عباب البحر الأبيض المتوسط، يجب أن تثير في نفوسنا كثيراً من الذكريات المجيدة. ذلك أن (النيل) تصل بهذا الفتح البحري الميمون ما انقطع من عصور السيادة البحرية المصرية في لجة هذا البحر الخالد؛ فمنذ قرون بعيدة كانت مصر تتبوأ في التجارة البحرية، كما تتبوأ في القوى البحرية مركزاً ممتازا، وكانت السفن المصرية تتردد بين الإسكندرية ودمياط وبين ثغور الشرق حتى قاصية البحر الأسود، والثغور الإيطالية، ثم ثغور المغرب والأندلس في الطرف الأخير من البحر الأبيض المتوسط، وكانت تساهم بأعظم قسط في النقل البحري ما بين أوربا والشرق، وتمر بثغورها معظم تجارة الشرق الأقصى. وكانت بين الإسكندرية وقسطنطينية، وبينها وبين البندقية وجنوة خطوط بحرية منظمة، والسفن المصرية تقطع لجة هذه المياة ذهاباً وإياباً، وعلم مصر الإسلامية دائم الخفوق في هذا العباب

ولقد تبوأت مصر الإسلامية مركزاً ممتازاً في السيادة البحرية منذ القرن الأول للهجرة؛ وكانت السفن المصرية والبحارة المصريون عماد الفتوحات الإسلامية البحرية الأولى في شرق البحر الأبيض: في رودس وقبرس واقريطش؛ وكان العرب قبل فتح مصر يخشون البحر وأهواله، فلما فتحوا مصر، وأدركوا أهمية مركزها البحري، اتخذوا من الإسكندرية قاعدة لحشد الأساطيل، والفتوحات البحرية؛ وكان لبحارة الإسكندرية شهرة خاصة؛ وكانت تدرب بينهم خيرة الضباط والجنود البحريين. ولما سار العرب لحصار قسطنطينية للمرة الرابعة سنة 99هـ (717م)، وحل بهم الضيق تحت أسوار المدينة المحصورة، حشدت سفن المدد في الإسكندرية، وسيرها البحارة المصريون إلى مياه المرمرة. وكان للسفن المصرية والبحارة المصريين دائماً أكبر نصيب في الفتوحات البحرية التي كانت تسير إلى ثغور الدولة البيزنطية وجزائر بحر إيجه. وظهرت براعة المصريين البحرية في عشرات المعارك أثناء الحروب والحملات الصليبية التي كانت تهبط دائماً على الشواطئ المصرية، في الإسكندرية ودمياط، ثم في يافا وعسقلان وعكا، وقد كانت يومئذ ثغوراً مصرية. وتاريخ مصر الإسلامية حافل بهذه الصفحات المجيدة من تاريخنا البحري.

أما عن الملاحة التجارية فقد كانت مصر إلى جانب البندقية تتبوأ مركز الزعامة والسيادة في البحر الأبيض المتوسط، وكانت البندقية تسيطر على الطرق الشمالية والشرقية إلى ثغور المرمرة والبحر إلاسود، بينما كانت مصر تسيطر على الطرق الجنوبية، والجنوبية الشرقية؛ وكانت العلائق بين الثغور المصرية، والثغور الإيطالية ولاسيما البندقية وبارى ونابل وجنوه في منتهى الانتظام، وكانت المعاهدات التجارية والبحرية تعقد بين مصر والدول الإيطالية في كل العصور والدول. ولم تفقد مصر أهميتها البحرية والتجارية إلا بعد اكتشاف طريق الهند في أواخر القرن الخامس عشر، ثم الفتح العثماني الذي انتهى بالقضاء على جميع قواها ومواردها وحضارتها الزاهرة.

وفي عصر محمد علي استعادت مصر شيئاً من نشاطها البحري، فأنشئ الأسطول المصري، واستأنف البحارة المصريون جهادهم المجيد في المياه اليونانية. ولكن أوربا النصرانية لم تشأ أن تعود مصر الإسلامية فتساهم بقسط في السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض، فائتمرت بالأسطول المصري فحطموه في (نافارين)؛ وكان محمد علي أكثر عناية بإنشاء السفن الحربية، فلم تتقدم الملاحة التجارية يومئذ تقدماً يذكر. وكان القضاء على الأسطول المصري في نافارين خاتمة عصر قصير من الإحياء البحري.

وهاهي ذي مصر تستأنف اليوم بعد مائة عام أخرى، نشاطها البحري؛ وتعود البواخر المصرية، فتشق لجة البحر الأبيض جيئة وذهاباً. والفضل في ذلك يرجع إلى نشاط ذلك الصرح القومي العزيز - بنك مص -؛ وهاهي (النيل) تعود فتحمل علم مصر الإسلامية خفاقاً في ذلك العباب الذي بقيت السفن المصرية قروناً تمتطي صهوته، وتجوس خلاله في عزة وفخار.

إن مصر تستأنف نشاطها البحري في ميدان السلم، لا في ميدان الحرب؛ وليس غريباً أن يكون لها بواخر تشق العباب، ولكن الغريب أن لا يكون لها بواخر، وثغورها محط البواخر الأجنبية من أقاصي العالم. . . .