الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 489/خزانة الرءوس

مجلة الرسالة/العدد 489/خزانة الرءوس

بتاريخ: 16 - 11 - 1942


في دار الخلافة العباسية ببغداد

للأستاذ ميخائيل عواد

تمهيد

اشتهرت دور الخلفاء بكثرة المرافق، كالغرف والصحون، والرواشن، والحدائق، والبرك، والأحيار لأصناف الحيوان، والبساتين لأنواع الطيور، ومواطن الأنس والتنزه، وغيرها

وكانت الخزائن في طليعة ما تضمه دار الخليفة. وقد كانت متعددة متباينة. فللكتب خزانة، وللسلاح خزانة، ومثل ذلك قل عن الكسوة والفرش والسروج والأدم والبنود والمال والطعام والشراب والتجمل والجوهر والطيب وغيرها. (وكان الخليفة يمضي إلى موضع من هذه الخزائن؛ وفي كل خزانة دكة عليها طراحة، ولها فرّاش يخدمها وينظفها طول السنة وله جارٍ في كل شهر فيطوفها كلها في السنة)

وأمر هذه الخزائن وما تحويه من مختلف الأشياء مشهور معروف في كتب التاريخ والأدب، ولكن هنالك خزانة ندر ذكرها بين الخزائن، أمرها عجيب غريب، لم نسمع بها إلا في دار الخلافة العباسية ببغداد. تلكم هي (خزانة الرءوس)!

فلا سلاح فيها، ولا طعام، ولا شراب، ولا لباس، ولا كتب، بل كل ما فيها رءوس بشر، بدرت منهم إعمال أدت إلى قطف رءوسهم حين أينعت وإيداعها في هذا المستقر

والظاهر أن هاتيك الخزانة كانت واسعة، وضعت فيها الرءوس في أسفاط من البردي والخيزران ونضدت في رفوف

فبعد أن يؤتى بالرءوس، توضع بين يدي الخليفة فيشاهدها هو ورجال دولته، ثم تنصب أياماً على بعض المواطن البارزة من البلد؛ فيراها الناس وتكون عبرة لمن اعتبر، وتحط بعد ذلك، وتسلم إلى الموكل بأمرها فيعمل على إصلاحها وتنظيفها وتفريغ أمخاخها، ورفع باقي أجزائها المعرضة للتلف والفساد، ثم طليها بالأدوية القابضة الماسكة لضمان بقائها كالصبر والكافور والصندل، وإلصاق رقعة صغيرة على كل رأس كتب عليها اسم صاحبه، وتاريخ قطافه، وما جدر ذكره. وقد أضيف إلى بعضهم العبارة التالية: (هذا جزاء م يخون الإمام ويسعى في فساد دولته) أو (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)

وقد انفردت هذه الخزانة على ما بلغنا بوجود يد واحدة؛ هي اليد اليمنى لأبي علي بن مقلة الوزير، العلم المشار إليه في حسن الخط. وهو الذي قال فيها بعد قطعها: (قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص!). فليت شعري، ألا تكون هذه اليد قد كتبت أيضاً بعض رقاع هذه الرءوس! وهي الآن حبيسة هذه الخزانة، شريدة غريبة بين الرءوس؟

وقد رتب لهذه الخزانة غير موكل يقومون بأمرها ومداراتها، واستقبال الرءوس الجديدة

وما ورد في التاريخ بصدد الرءوس شيء كثير، نورد في مقالنا أهمه وأبرزه

1 - حفظ الرءوس في خزانة الرءوس

(1) رأس يلبق، رأس علي بن يلبق، رأس مؤنس، رأس يمن الخادم، رأس ابن زيرك:

كانت سنة 321 للهجرة مشحونة بالأحداث الجسام التي وقعت في دولة بني العباس. وكان بعض النفر من القواد الأعاجم والموالي قد استبدوا بالأمر، فاضطرب حال المملكة وأمست على شفا هول شديد، وشغب هؤلاء غير مرة وحركوا الجند، وقر رأيهم أخيراً على خلع القاهر بالله واستخلاف أبي أحمد بن المكتفي، فعقدوا له الأمر سراً. فلما سمع القاهر ذلك أخذ حذره، وبث لهم العيون حتى صاروا بقبضته، فاعتقلهم وغلهم بأغلال الحديد، ثم ذبحهم ذبح الشياه، وأودع رؤوسهم خزانة الرؤوس على الرسم المتبع. وإليك خبر هذه الرؤوس عن أوثق المصادر:

قال مسكويه (المتوفى سنة 421 للهجرة): (. . . ودخل القاهر إلى الموضع الذي كان فيه مؤنس، ويلبق، وابنه معتقلين، فذبح علي بن يلبق بحضرته ووجه برأسه إلى أبيه؛ فلما رآه جزع وبكى بكاءً عظيماً. ثم ذبح يلبق ووجه برأسه ورأس ابنه إلى مؤنس، فلما رآهما لعن قاتلهما، فأمر به فجر إلى البالوعة وذبح كما تذبح الشاة والقاهر يراه. وأخرجت الرؤوس الثلاثة في ثلاث طسات إلى الميدان حتى شاهدها الناس؛ وطيف برأس علي بن يلبق في جانبي بغداد، ثم رد إلى دار السلطان وجعل مع سائر الرؤوس في خزانة الرؤوس على الرسم)

وزاد الذهبي صاحب تاريخ الإسلام على ذلك بقوله (ثم ذبح يمن وابن زيرك، ثم أطلقت أرزاق الجند فسكنوا واستقامت الأمور للقاهر. وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه: (المنتقم من أعداء دين الله)، ونقش ذلك على السكة،. . . قال أبو بكر الصولي في كتاب الأوراق: حدثني الراضي، قال: لما قتل القاهر مؤنساً ويلبق وابن يلبق أنفذ رؤوسهم إلي مع الخدم يتهددني بذلك وأنا في حبسه لأني كنت في حجر مؤنس؛ ففطنت لما أراد وقلت: (ليس إلا مغالطته) فسجدت شكراً لله وأظهرت للخدم من السرور ما حملهم على أن جعلوا التهدد بشارة، وجعلت أشكره وأدعو له فرجعوا بذلك)

وروى ابن الأثير (المتوفى سنة 630هـ) قصة هؤلاء ثم أضاف إلى ذلك قوله: (. . . ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه، فلما رأى الرأسين تشاهد واسترجع ولعن قاتلهما. فقال القاهر جروا برجل الكلب الملعون؛ فجروه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت، وأمر وطيف بالرؤوس في جانبي بغداد ونودي عليها: هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته. ثم أعيدت ونظفت وجعلت في خزانة الرؤوس كما جرت العادة. . .)

وقد نقل إلينا شاهد عيان، أعني به ثابت بن سنان (المتوفى سنة 365هـ) خبراً طريفاً عن أحد هذه الرؤوس، فقال: (حدثنا سلامة الطوراني الحاجب إنه لما أخرج إليه رأس مؤنس ليصلحه؛ فرغ الدماغ منه ووزنه، فكان ستة أرطال، وسمعت أنا ذلك من الجفني وكان حاضره)

(ب) رأس نازوك، رأس أبي الهجاء بن حمدان

قام هذان القائدان بفتنة كبيرة أدت إلى خلع المقتدر بالله من الخلافة في يوم السبت النصف من المحرم من سنة 317هـ، وتقليد القاهر بالله، ثم رد المقتدر إليها ثانية في يوم الاثنين السابع عشر من المحرم، أي بعد ثلاثة أيام! فكان جزاء هذين القائدين القتل ودفع رأسيهما إلى خزانة الرؤوس. وقد تبسط في هذا الحادث التاريخي الخطير جملة من المؤرخين، منهم مسكويه، فمما قاله في هذا الشأن أن الرجالة (وصلوا إليه (إلى نازوك) وقتلوه، وقد كانوا قتلوا قبله عجيباً وصاحوا: مقتدر يا منصور. . .)، ثم قال: (وصلب الرجالة نازوك وعجيباً على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة. . .)

وواصل كلامه حتى جاء على خبر أبي الهيجاء إذ قال (. . . فرماه خمار جويه بسهم أصابه تحت ثديه، وأتبعه بسهم آخر فأصاب ترقوته، ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشك فخذيه. قال بشرى: وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة: فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي شك فخذيه فقطعه وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمى به، ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه، فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف، وأخذ السيف، وغشيه الأسود الآخر فخر رأسه، فأسرع بعض الخدم فانتزع الرأس من يد الأسود ومضى مبادراً به)

وكان المصير أن (أخرج رأس نازوك ورأس أبي الهيجاء وشهرا في الشوارع، ونودي عليهما: (هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته)، وسكن الهيج)، وردا إلى دار الخلافة وجعلا في خزانة الرؤوس

(يتبع)

ميخائيل عواد