مجلة الرسالة/العدد 489/الجامعة العالمية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 489 الجامعة العالمية [[مؤلف:|]] |
محي الدين النووي ← |
بتاريخ: 16 - 11 - 1942 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
تستعد الأمم المقاتلة للحرب في المدرسة كما تستعد لها في مصانع الذخيرة والسلاح، فليس من النافع منع التسليح أو قصره على مقدار مرسوم إذا لم يكن مقترناً بمنع الأسلحة الفكرية والعدد الخلقية التي تتحفز أبداً للحرب ولا تستريح طويلا إلى عهد السلام
هكذا يقول الفيلسوف الرياضي الكبير (برتراند رسل) في مجلة (الفورتنتلي) من مقال عن الجامعة العالمية أو عن التعليم العالمي الذي يمحو العصبية ويهيئ العقول للسلم والمعاونة بين الأقوام والأجناس والأوطان
وبرتراند رسل كما يعرفه قراؤه رجل من أقدم دعاة السلم بين كبار الحكماء والعلماء، وكانت دعوته إلى السلم في إبان الحرب الماضية سبباً لحبسه وتغريمه وانقطاعه عن التعليم
فهو الآن يتأهب لدعوة جديدة من طريق جديد، وتلك هي طريق التربية العلمية التي ينبغي أن تعم جميع الطلاب في جميع الأوطان، وأن يكون لها غرضان مقترنان ولا تكتفي بغرض واحد ينحصر في العلم والمعرفة (الأكاديمية) كما يسميها. فإنما الغرض الأكبر أن يكون التعليم على نهج يؤدي إلى تعميم السلم وحسم بواعث القتال، خلافاً للنهج الذي سار عليه حتى الآن في معظم البلدان
قال: (من الواجب أن تكون للجامعة المنشودة وثيقة تشتمل على حقوق مرعية تقضي فيما يتعلق بالأساتذة والطلاب على السواء أن تفتح أبوابها لجميع الأجناس وجميع الأديان وجميع الآراء السياسية؛ ما عدا تلك التي ترفض المعاونة العالمية، إذ هي لن تفلح في دعوتها العالمية إن أخفقت في تحقيق هذه الشريطة، ولكل رجل أو امرأة على استعداد علمي أن يدخلها فلا يحول بينه وبين دخولها لونه الأصفر أو لونه الأسمر أو لونه الأسود، ولا إنه من بني إسرائيل أو من البوذيين أو المسلمين أو الهندوكيين، بل لا يجوز فوق هذا أن يحول بينه وبين دخولها إنه لا يؤمن ببعض العقائد والمقررات كائناً ما كان)
وعنده أن ما جرى عليه العرف حتى اليوم يناقض هذه المساواة العالمية حتى في تدوين تواريخ العلوم. فالقاعدة التي تعرف عند الإنجليز باسم قاعدة بويل تسمى قاعدة مارييت بين الفرنسيين، ويذكر الكتاب الإنجليز أحياناً أن بريستلي هو كاشف الأوكسجين، وفي ذلك غبن للعالم لافوازييه. ويميل الرياضيون الألمان إلى اعتبار جاوس مؤسساً للهندسة (غير الإقليدسية)، وقد أسسها في الواقع لاباتشفسكي الروسي. وطالما اختلفت الكتب الإنجليزية والأمريكية في الكلام على اختراع زورق البخار، إلى اختلافات أخرى من هذا القبيل أشهرها الاختلاف بين نيوتن وليبنتز على اختراع حساب التفاضل والتكامل مما عاق جورج الأول عن اصطحاب ليبنتز عند قدومه إلى البلاد الإنجليزية وما جر إليه ذلك من تعطيل الرياضيات في هذه البلاد قرناً من الزمان أو يزيد
ويقول الفيلسوف: (إن الأمم الكبرى جميعاً على تفاوت في الدرجة تزيف التاريخ وتتعرض له بالتمويه والتعديل. فحركة العصيان الهندية يتعلمها الأطفال الإنجليز من وجهة نظر واحدة، والواجب في الجامعة العالمية أن تعطي وجهة النظر الهندية من الرجاحة ما تعطاه وجهة النظر الإنجليزية. وكذلك يجب عند شرح تاريخ الحرب الإسبانية الأمريكية أن تلاحظ الحيدة المستقلة بين أسبانيا والولايات المتحدة. وهذه وما شابهها نقائص لا تسلم منها أمة واحدة في العالم بأسره ولكنها أسوأ ما تكون في ألمانيا وإيطاليا واليابان)
إلى أن يقول: (إن هيجل في فلسفته التاريخية يرى أن (الروح) الذي يسيطر على عظائم الحوادث يتجسم تارة في هذه الأمة وتارة في تلك، وأن كبار الرجال الذين يختارهم ذلك الروح المسيطر على الحوادث لبلوغ غايته هم أناس مرفوعون فوق قوانين الأخلاق والآداب على مثال الإسكندر وقيصر. وقد اختار الروح أمة الجرمان لتحقيق ما يريد في عصرنا هذا)
وبعد أن شرح الفيلسوف الرياضي الكبير نظام الإدارة ونظام التعليم وتحضير الكتب للدراسة في الجامعة العالمية قال: (إن الدعوات الوطنية إنما نجحت في الأغلب الأعم لإحساسهم أنها تجري مع المصالح الوطنية في مجرى واحد. فإذا أريد للنظرة العالمية الجديدة أن تفلح وتؤتي ثمرها فمن الضروري أن تتمثل للناس موافقة للمصالح الوطنية على ذلك المنوال)
وهنا تتلاقى آراء كثيرة قد تتشعب وتتدابر في غير هذا الملتقى الواضح المأمون من جميع نواحيه فليس المقصود بالتعليم العالمي أن يجور على المصالح الوطنية، وإنما المقصود به أن يبطل النزعات التي تجور على مصلحة العالم بأسره أو مصالح الأمم الأخرى في تعاونها على السلم والحضارة.
فالوطنية والعالمية لا تتناقضان، لأن خدمة العالم بأسره لن تضير وطناً من الأوطان، ولاسيما الأوطان التي لا تملك القوة ولا تتذرع بها أن ملكتها إلى الطغيان على الآخرين.
وقد رأينا بعض المفكرين الداعين إلى التآلف بين الشعوب على أساس العالمية أو أساس الحكومات المشتركة ينزعون إلى التشكيك في عناصر الوطنية لأنها شيء يصعب التعريف به وفهم معناه، فإذا قيل مثلاً إنها قائمة على الوحدة الجغرافية فالفاصل بين الأرض الفرنسية والأرض الجرمانية فاصل اتفاقي من معظم نواحيه، وإذا قيل إنها الوحدة الجنسية فليس في الأرض أمة تخلو من مزيج الأجناس، وإذا قيل إنها الوحدة اللغوية فليس باللازم أن تقترن المشاركة في الوطن الواحد والمشاركة في اللغة الواحدة، وإذا قيل إنها وحدة الدين فقد تجتمع في الأرض الواحدة عدة أديان وعدة مذاهب من دين واحد، وإذا قيل إنها وحدة الحكومة فقد يخضع الناس لحكومة واحدة مكرهين مستعبدين، وإذا قيل إنها التراث التاريخي فهذا ولاشك من أقوى عناصر القومية ولكنه لا يخلقها ولا يمنع التفاهم بين أصحاب التراث المختلف على حكم واحد أو صلة حكومية متكافلة.
إلى آخر ما يقول أولئك المفكرون الداعون إلى التآلف العالمي وهم مخطئون فيما نراه
وقد ناقشنا هذا الرأي في موقف كموقفنا الحاضر منذ سنين فقلنا: (إن كلاماً كهذا يمكن أن يساق لإضعاف المزايا الإنسانية وتقريب الفوارق بين الإنسان والحيوان، ثم هو لا يفضي إلى نتيجة ولا يدل على معنى مستقيم. . . قد تقول مثلاً ما هي معالم الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان؟ أهي اللغة؟ كلا! فإن أناساً كثيرين يولدون بكما لا ينطقون ولا يعقلون. أهي أعضاء الأجسام؟ كلا! فإنه ما من عضو في إنسان إلا يقابله عضو مثله أو يقوم مقامه في حيوان: أهي انتصاب القامة؟ كلا! فإن بعض الأحياء تمشي على قدمين وبعض الناس يزحفون على الأربع. أهي عناصر الدم؟ كلا! فإن التحليل قد يكشف فرقاً بين دم الرجل ودم المرأة وبين دم الشيخ ودم الصبي وكلهم من بني الإنسان؛ وزد على هذا أن الدم ليس بمزية الإنسانية العليا، فإن أناساً في ذروة العظمة قد يرجح عليهم في نقاوة الدم وصحة تركيبه أناس في حضيض الذل والجهالة. أهي قابلية التناسل؟ كلا! فإن الخيل والحمير تتلاقح وهي من نوعين، والبغال لا تتناسل وهي من نوع واحد، وقد يعيش الرجل والمرأة معاً عيشة الأزواج ولا ينسلان)
فصعوبة التعريف والتفريق لا تنفي وجود الأشياء التي نريد أن نعرفها ونفرق بينها، والوطنية شيء موجود لاشك في وجوده وإن تعددت عناصره حتى تعذر الجمع بينها في وطن واحد
ومن الخطأ أن نناقض بين العالمية لأنهما في الواقع غير متناقضين، وإذا بنيت الدعوة إلى التعاون بين شعوب العالم على أن هذا التعاون يغض من الغيرة الوطنية فمصير تلك الدعوة معروف من الآن، وهو الإخفاق السريع
وإنما الصواب ما قال الفيلسوف الرياضي الكبير حيث رأى أن ضمان النجاح للدعوة العالمية مكفول بالتوفيق بينها وبين مصالح كل أمة تلبي تلك الدعوة وتشترك في المعونة
وهذا الذي نرجو أن يكون وأن يتوافى إليه شعور الأقوياء والضعفاء معاً بعد الحرب الحاضرة
ويبدو لنا أن تعدد الأقوياء سيلجئهم قسراً إلى التعاون بينهم على رعاية حقوق الضعفاء فينفتح من ثم باب التعاون بين هؤلاء وهؤلاء
فليس في الوسع أن يطغي قوي واحد على أنداده الأقوياء، وليس في الوسع أن يتفقوا على قسط متساو من المصلحة المشتركة يمنع التنافس ويحسم النزاع. فلا نغلو بالأمل إذا قلنا إن الطريق الأيسر لهم والأجدى عليهم هو الاتفاق على التعاون بينهم وبين الضعفاء، والتفاهم على معاملة وسطى فيها رعاية للحق ورعاية للمصلحة الجامعة ورعاية لمصلحة الأمم أمة أمة على حدة. فقلما يرجى فلاح لمطلب من مطالب بني الإنسان يبنى على الحق وتنسى فيه المصلحة، أو يبنى على المصلحة وينسى فيه الحق، وآية الرجاء في مصير الدعوة العالمية أن الحاسة الخلقية وأن الوجهة النفعية فيها تتقاربان وتتساندان
عباس محمود العقاد