مجلة الرسالة/العدد 488/في فن الحرب
→ عقيدة البعث | مجلة الرسالة - العدد 488 في فن الحرب [[مؤلف:|]] |
مشاركة الأدب الإنجليزي ← |
بتاريخ: 09 - 11 - 1942 |
من الخنادق إلى حرب الحركة
للأستاذ (ذ. ص)
قال برناردشو:
(إن صنعة الحرب تنحصر في الهجوم بقسوة المستضعف على من هو أقل منك عدداَ وعدة، وفي التهرب من لقاء الند. والسر في النجاح الحربي هو أن تتحايل على الخصم: تنصب له الفخاخ وتمد له الأحابيل؛ فإذا تعثر أو كبا، انقضضت عليه بلا شفقة انقضاض الغادر. ولكن إياك إياك من مجابهته وهو منتصب على قدم الاستعداد!) كلمات لاذعة ساخرة. . . ولكنها من صلب الحقيقة. القائد الناجح هو ذلك الذي يخادع ثم يقاتل، ويراوغ ويخاتل ثم ينقص بتلك الأساليب الملتوية، والحيل الماكرة، والطرق المتعرجة المنثنية، حيث الدهاء والفطنة متآلفان، والخبث والذكاء متعاونان
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، وانتقل ذلك الفن العريق من أفقه الشاسع الفسيح، أو قل من جحيمه العميق، إلى حيز ضيق محدود: فالتجنيد الإجباري قد أعطى الدول المقدرة على تغطية كل شبر من أراضيها المتاخمة لحدود الأعداء، فأصبحت الجيوش متجابهة، ولزم عليها صراع الخصم صراع الند للند، والقريع للقريع، كما حدث في الميدان الغربي أثناء الحرب الماضية.
تضاءل مجال مناورات الاستراتيك، ولم يجد القواد فرصة للالتفاف حول الأجناب، وليس هناك أجناب، وحاروا في كيفية الإغارة على المؤخرات، دون الاضطرار إلى اختراق الواجهات، بل وكيف يكون الاختراق وقد أعطت الأسلحة الآلية التفوق المطلق لمواقع الدفاع؟
إن الحرب بأساليبها وخططها ورجالها وعدتها ترتكز على ركنين أساسيين: قوة النيران، وسرعة الحركة. وما الهجوم إلا الحركة صوب العدو، وما الدفاع إلا محاولة وقف تلك الحركة بالنيران المحكمة التصويب. وهذه الأخيرة هي التي كانت أسبق إلى التحرر من قيود الطاقة البشرية، حين تحولت إلى قوى الطبيعة تستمد منها القدرة على الفتك، فلم تعد السواعد هي التي تلوح بالرماح أو تطعن بالسيوف، بل أصبحت المفرقعات هي قوته الدافعة، بل وزادت على ذلك وأدت إلى اختراع السلاح الآلي السريع الطلقات الذي طفر بمقدرة الدفاع إلى الأمام طفرات هائلة. فمنذ قرن مضى وقف ولنجتون أمام وترلو يصد هجمات نابليون العنيفة، وقد رص رجاله رصا، وتعلق مصير أوربا بمقدرته على وقف جيوش الإمبراطور، حتى يلحق به بلوخر، لحظات معدودات أطلقت خلالها الكتائب البريطانية النيران بمعدل ألفي رصاصة في الدقيقة الواحدة لكل كتيبة (أورطه)، ولو كان الزمان انتقل فجأة بولنجتون إلى عهد السلاح الآلي، لأمكنه استبدال كل كتيبة من كتائبه برجالها وبنادقها وقائدها وضباطها بثلاثة جنود خلف ثلاثة رشاشات، ليحصد نابليون حصداَ ويشتته تشتيتاَ
هذا في حين أن الهجوم ظليعتمد على الطاقتين: البشرية والحيوانية. وكانت تعبئة الجيوش تتم حقيقة بقوة البخار على خطوط الحديد، ولكنه أثناء تلك اللحظات الحاسمة التي ترفرف على الميدان خلال القتال، ظلت الحركة هي هي كما كانت أيام هنيبال: أدواتها أقدم بني الإنسان على الدوام، تعاونها ظهور الجياد في بعض الأحيان
زادت إذن قوة الدفاع أضعاف الأضعاف، فكانت النتيجة الحتمية شل كل هجوم، وتثبيت الخطوط، وتحويل الحروب من ميدان البراعة والفن، إلى التطاحن المنهك الممل، والحصر الاقتصادي الطويل
لم تعد المعركة موضع حسم النزاع ولا الجنود هي العامل الفعال، بل انتقل الزمام إلى مقدرة المدنيين على الاحتمال ومهارة ربات المنازل في الاقتصاد من مستلزمات الحياة - كان سيأتي الوقت الذي يحل فيه التدبير المنزلي محل التدريب العسكري، وتكتفي الدول بخطوط (ماجينوية) أو (سجفريدية) مجهزة بالمقاعد الوثيرة ولوحات التليفزيون، يضطجع بداخلها الجندي في دعة وتراخ، فإذا لمع مصباح من المصابيح وجه الرجل عينيه إلى شاشة مخصوصة، ثم ضغط على زر معلوم، فتنطلق من أعلى الحصن عدة طلقات، يكون فيها إسكات المهاجمين وعودة المدافعين إلى النوم الهنيء والسبات العميق؟
ذاك ما تخيلته بعض العقول العسكرية وخاصة الفرنسية منها فأقامت خط ماجينو، ولكن هناك آخرون كان في التفكير مذهب جد مختلف، فقد احتفظوا في ذاكرتهم ببعض تفاصيل الحرب الماضية، من تلك التي كان لها تأثيرات شديدة، ولو أنها لم تكن نسبياَ إلا نتائج محدودة لمجهود محدود، حده أول مرة قلة الأدوات وصغر المكان، وفي الأخرى تخلف الزمان عن التفتح لاستثمار عبقرية ظهرت قبل الأوان
أول هذين الحدثين استعمال الطاقة الميكانيكية في ميدان المعركة، عند ما هجم البريطانيون في نوفمبر 1917 ببضع عشرة دبابة، فانكسر الخط الألماني؛ دهشة الإنجليز أنقسم أنفسهم وعدم وجود الاحتياطي الكافي عاقاهم عن استغلال ذلك النجاح المباغت
وثانيهما تفتحت عنه عبقرية لودندرف من طرائق للهجوم جديدة - وهو من أبناء المدرسة الألمانية المتشبعة بروح الهجوم - والهجوم الناجح يتطلب المناورة والالتفاف وكما ذكرنا آنفا: لم يكن هناك أجناب، فما العمل إذن؟ أيستسلم لودندرف ويرضى بالحال؟ كلا فهذا من المحال. إنه يريد الهجوم، يريد إحراز نتيجة إيجابية بأي ثمن كان، إذن. . . فلتخلق لجيوش الأعداء أجناب!. . . يبتكر لودندرف وينفذ نظريته الجديدة: نظرية التسلل؛ وهي إرسال بعض الجنود يتسللون مواطن الضعف في خطوط الأعداء حتى إذا وجدوها تسللوا خلالها وأحدثوا بها ثغرة أو ثغرات، فيها يجري الحشد الجديد، ومنها يكون الالتفاف والتطويق والهجوم وحسم النزاع
صادف لودندرف بعض النجاح، ولكن حركات الجنود في الميدان بطيئة، فيتنبه لها الدفاع قبل الاستفحال؛ ويسارع إليها بالنيران يصلها وبالفتك الذريع يرميها، فتنبطح للتستر وتعود إلى الثبات، أو ربما تذعر وتولى، فتكون الهزيمة والفرار ويجلس القائد الألماني بعد الحرب بسنين، وفي قلبه حسرة وبقلمه رعشة، ويقرر حزيناَ كئيبا: (إن مناوراتي الأستراتيكية خذلتها نقائض التكتيك)
ولكن نظرياته لا تنسى ولا تزول، بل تنزوي حية في بعض العقول، حتى يخلق لها الجو الملائم فتعود إلى الظهور؛ وتنشر هنا وهناك بعض المؤلفات تهيئ لها الجو، إن عفواَ وأن قصداَ، أهمها (نحو الجيوش المحترفة) للجنرال ديجول عام 1934، ثم (حرب الدبابات) للجنرال إيمنزبرج النمسوي. وأخيراَ كتاب جودريان الفذ: (حذار!. . . إنها الدراعات) عام 1938
تنبهت القيادة الألمانية لمميزات الدبابات، ورأت أنها هي، وهي وحدها، الكفيلة بمضاعفة سرعة الجيوش في ميادين القتال، بل وإلى جعلها قادرة على إدماج الضرب مع الحركة، فمن قبل كان الجندي المهاجم يقف عن الحركة ليطلق النيران، ثم يكف عن إطلاقها إذ عاد إلى الحركة، وهذا مضيعة للوقت وأي مضيعة، وإعاقة للتقدم وأي إعاقة! وهكذا قدر للهجوم أن يعود إلى عرشه المفقود، فينقلب ثبات المدافعين إلى جمود الحائرين، ثم إلى خنوع المستسلمين.
(ذ. ص)