مجلة الرسالة/العدد 488/عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه
→ مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية | مجلة الرسالة - العدد 488 عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه [[مؤلف:|]] |
عقيدة البعث ← |
بتاريخ: 09 - 11 - 1942 |
أرواح وأشباح
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
(تتمة)
ألم يتضح بعد أن كلام الشاعر في الفنان وعلاقته بالمرآة ليس جماع ملحمته، على ما قد يذهب إليه وهم واهم؟ أليس ذلك الكلام سبيلاَ إلى وصف الكفاح بين الروح والجسد بذكر حقائق بشرية عامة هي المادة التي صدر عنها خيال الشاعر؟ ألحق أن شعره تحفة من الأدب الإنساني الصادق بعينه. ويجعل بالقارئ وهو يطالع مثل هذه التحفة ألا يميل إلى الكسل كي لا يمنعه من البحث فيها عن المميزات التي تدخلها في نوعها من الأدب. فإن هو أدرك هذه المميزات رأى أن التحفة فتحت باباَ جديداَ واسعاَ في الأدب العربي بالاقتباس من أنواع الأدب الأجنبي، وعرف قدرها خصوصاَ من هذا الوجه
فقد توافرت فيها مميزات النوع المعروف عند الغربيين باسم ملحمة: شعر في الإنسانية يعبر عن وجدانيات وفكر معروفة في المأثور من أساطيرها الشرقية والغربية، وفي المعهود من طبعها وعاداتها وخلالها وعقائدها، وفي علمها وأدبها. وهو شعر رفيع صادر عن إيمان من الشاعر برأيه، ويشف عن إيمانه لهجته وبلاغته فيما قص؛ وقد مزج الحقيقة والخيال في قصصه، وبعث فيه الحركة والحياة بفنه؛ وطالت قصيدته حتى بلغت أربعمائة بيت ونيفاَ. فهي ملحمة ليست يونانية موقوفة على تمثيل شخصيات بعينها من جيل إغريقي معين، ولا مترجمة، ولا فرنسية، بل هي إنسانية مبتكرة في الأدب العربي وإذا كانت العزة القومية تغرى بأن نسر لمثل هذا التجديد فإنما وجه السرور أننا نأخذ من الأجنبي ما يلائمنا ويندمج في آدابنا وأساليبنا، كما أخذ أسلافنا وكما هو منهم وأفلح، وأنها جاءت ملحمة عربية من أدبنا في القرن الرابع عشر الهجري، ومعنى ذلك أننا ما كنا لننفر من أدب بني جنسنا، بل إننا نرجو له أن يتلخص كل التخلص من الجمود ليتصل كمال الاتصال بحركة الحياة الإنسانية الحاضرة فيعود إلى ما كان عليه من خصب في أيامه الذهبية
وهذه الملحمة أدب عربي لا يقاس على كل مقاييس الآداب الأجنبية حتى يقال، مثلا - من أجل بيت أو بيتين - هذا شعر رومانتيكي، ولم يكن للأدب العربي عصر رومانتيكي بمدلول هذه الكلمة الأجنبية، أو حتى يقال إن نظرة الشاعر إلى الفن والحياة في ملحمة نظرة رومانيتكية جعلت من الفنان (صدى عابراَ. . . ورحاَ مجنحة الخاطر) في حين أن نظرته إنسانية اجتماعية لا فردية، وعقلية لا وجدانية، وأن عرض هذه النظرة بشعر مزاجه الخيال والوجدانيات وبلاغة هزة الإلهام، وكان فيه ما في طبائع البشر التي وصفها من انفعالية وشهوانية
ألا أن هذه التحفة شعر يملا النفس جلاله، ويثير الفكر في موضوعه الذي تترامى آفاقه كلما حاول النظر أن يتتبعها؛ وإن صاحب التحفة لشاعر شاعر، أسلوبه ساحر، وهو قادر حتى على تشريف كلام يعد خارج شعره من السهل غير الممتنع، كالبيت الثالث من قوله:
وكنت فتى ساذجاَ لا أرى ... سوى دمية صُوِّرت من نقاء
أنيل الثرى قدمَي عابر ... يعيش بأحلامه في السماء
فأصبحت شيئاَ ككل الرجال ... وأصبحت شيئاَ ككل النساء
أليس في ثالث هذه الأبيات كل حسرة الفنان المؤلمة على روحه الخائبة، وكل لهفة على ما استحال من نظرته العفيفة إلى الجمال يوم كان فتى ساذجاَ لا يرى مكر الغريزة به لشغله عنها بخواطر وخوالجه السامية، ومثله العليا في الحياة؟ أليس ما أفعم قلبه من أسف مصوباَ كله في قوله (شيئاَ) للتحقير؟ وقد قوى التنكير ما حملت كلمته من معنى التحقير في موضعها من سياق البيت تلو البيتين البليغين الأولين، وانتقل هذا المعنى بأداة التشبيه إلى كل الرجال. ثم أليس شجوه لتدهور المرأة معه، أو تدهوره معها، مركزاَ في الشطرة الثانية من البيت؟ ألم يصبح كلامه من السهل الممتنع؟ الحق أن ما فيه من مزية شعرية، وروعة معنى، وسحر بيان، هو شيء بليغ يعلى النفس ويعلو على كل تقدير. وهو شيء ليس يستطيع إنكاره سوى الذين لا يعرفون كنه الشعر فيظنون أن الشعر هو ما تزدان به ماهيته الخافية عنهم من التشبيه الجميل، والمجاز البارع، والكناية البديعة؛ وإنما أولئك زينة الأبواب، وقد يكون لؤلؤها بهرجا، وزواقها خادعا، فتكون معارض زائفة تنقص قيمة الشعر أو لا شعر تحتها.
وهل من قول في أسلوب علي طه بعد أن كتب إليه خليل بك مطران: (جئت بالطريف من المعنى، في الصريح الشائق من المبنى. . . إن في مطالعة أرواح وأشباح لمتعة فكري ولذة فنية)؛ وبعد أن كتب صاحب الرسالة: (هي في الصياغة مشرقة البيان، منتقاة اللفظ. . . هزت نفسي هزاَ شديداَ، فكنت أطيل الوقوف عند كل رباعية، أديم النظر في كل بيت، أتذوق جمال صياغته برفق، وأستجلي سر بلاغته في أناة)
هزت نفسه، فأدام النظر في كل بيت ليتذوق ويستجلي. ذلك لأن اللذة التي يجدها الذوق يكشف التحليل سرها فيضاعفها في النفس
فأن الذوق ملكة مركبة من الشعور، أي الانفعال، لأن المحاسن والعيوب تؤثر فيها بالطبع؛ ومن الذكاء، لأنها تجلل تأثرها باحثة عن أسباب الاستحسان وأسباب الاستهجان، وتنظر فيها تجد من دواعي الإعجاب ودواعي الإنكار، وتوازن بينها. وأثر الانفعال، أي وقع الشيء، هو الحاكم الطبيعي أول وهلة، أما النظر فهو الحكم بعد ذلك. والمعتاد من هذا الحكم إذا اقترن عند صاحبه الانفعال السريع بالعقل الثاقب النير، ألا يجيء قضاؤه إلا مؤيداَ لقضاء الحاكم الأول. ولذلك كتب الأستاذ الزيات، بعد إدامة النظر: (إن أسلوب هذه الملحمة ليس بدعاَ من أسلوب علي طه، فإن الصفات الغالبة على أسلوبه كله، هي الوضوح والأناقة، والسهولة والسلامة)
أما بعد، فقد تبين من مزايا (أرواح وأشباح) أن إمعان النظر في هذا الصنيع - كما هو، يزيد الناظر إعجاباَ به في ذاته، وإعجابا على إعجاب بطبعته. وما أجمل ائتلاف الظرف والمظروف في مثل هذه التحفة!
فإن للمؤلفات النفيسة عند الغربيين في هذا العصر طبعات فاخرة، محلاة بصور يصنعها أبرع الفنانين؛ وهم في ذلك يتبعون عادة أسلافهم في كتبهم الخطية. وقديماَ كان هذا هو الشأن عند الشرقيين من فرس وعرب وغيرهم؛ وزين السلف الصالح مصحفنا الشريف - على جلال القران الكريم - بأجمل الخطوط والنقوش العربية، وموهوه بمختلف الألوان والمياه الفضية والذهبية، إجلالاَ للكتاب المجيد. ثم ضاع منا العلم وضاعت الفنون والأذواق؛ ثم ظهرت عندنا تلك المطبوعات القبيحة التي تعمى الأبصار. ومنذ شرعت مصر تنهض أخذنا نجود الطبع، وونحلي المطبوعات أحياناَ. وفي ذلك وقاية للنظر، وتهذيب للذوق، وتحبيب في الإتقان، وخدمة للطابع وللفنان. لكننا ما زلنا في المرحلة الأولى على هذا الطريق
من أجل ذلك، لا من أجل ما يعنى التلميح السخيف، لم يقنع صاحب هذه التحفة بنفاستها الأدبية، بل زين طبعتها بصور بارعة من ريشة الفنان محمد سليم شوقي، تروق في النواظر، وكأنها في البصائر عناوين فنية لمقاصد الشاعر وأغراضه في شعره.
وقد اختار لكتابه أحسن طبع بحبور مختلفة ألوانها، مؤتلفة كألوان الصور؛ بأحرف جميلة بينة في أسطر متباعدة بين حواش عريضة؛ وتجود من أصناف للكتابة وللغلاف المحلى بصورة لآخر مشاهد القصص
وليس يجمع أجمل الصفات الأدبية والمادية في وحدة محكمة البناء، متقنة التأليف، عظيمة الإشراق، فتانة الرونق، إلا روح فنان وذوق ممتاز.
محمد توحيد السلحدار