الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 486/مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

مجلة الرسالة/العدد 486/مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية

مجلة الرسالة - العدد 486
مشاركة الأدب الإنجليزي في الدراسات العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 10 - 1942


نقلاً عن (برنارد لويس)

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

3 - القرن التاسع عشر

(تابع)

خصص (لين) نفسه في السنين التي أعقبت عودته مباشرة لتحضير ترجمة إنجليزية لكتاب (ألف ليلة وليلة). وكانت الترجمات الأولى منه سبق أن ظهرت واكتسبت شهرة كبيرة ولكنها كانت غير دقيقة وغير علمية، فأخذ (لين) على نفسه أن يقوم بترجمة تحتفظ في غير الوقت بمعنى وجود النص الأصلي.

وقد أرفق ترجمته تلك بملاحظات وشروح عن العادات الإسلامية في العصور الوسطى وطبعت بعد ذلك منفصلة بعنوان:

(الحياة العربية في العصور الوسطى).

وكان في خلال ذلك الوقت يفكر في تصنيف قاموس عربي إنجليزي واسع، فقد كانت القواميس الأوربية السابقة للغربية - كقاموس جوليوس وفريتاغ وغيرهما - ذات نفع من بعض الوجوه؛ غير أنها وضعت على أساس غير دقيق، وهي ناقصة من عدة وجوه. فكانت فكرة (لين) أن يقوم بعمل منظم في القواميس العربية القديمة كتاج العروس وغيره، وعلى أساس ذلك العمل يقوم بإعداد معجمه، وفي يوليو سنة 1420 سافر للمرة الثالثة إلى مصر حاملاً هذه الفكرة، وشرع يعمل من سنة 1842 إلى سنة 1844 في القاهرة من 12 ساعة إلى 14 ساعة يومياً بصورة اعتيادية، ونادراً ما كان يغادر داره، وفي الأخير، عندما جمع المادة اللازمة من القواميس العربية - ويجب أن لا ننسى أنها لم تكن قد طبعت بعد، وأن الحصول عليها لم يكن ميسوراً - عاد إلى إنجلترا وقضى السنين الخمس والعشرين الأخيرة من حياته في إكمال هذا المعجم. ولقد كانت المهمة شاقة؛ فإن دراسة اللغة العربية - وهي في ذاتها مجهود كبير - لم تكن إلا بداية له، فيبقى من ورائها الغربلة والتحضير والتصنيف، أي - بالاختصار - يبقى العمل الشاق المضني لصنع معجم منظم منسق على الطريقة الأوروبية من بين المادة المشوشة التي كانت تحت يديه. ولم يكن العمل - حتى تاريخ وفاته في سنة 1876 - قد أنجز، غير أن الأجزاء العديدة التي كان قد نشرها تشكل جزءاً ثميناً من الدراسة الشرقية، وهو يعتبر بصورة عامة جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه من المؤونة التي يتزود بها طالبو العربية الجدد. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم بقي معجم (لين) الأول من نوعه كما أنه كان الأساس لمعظم القواميس العربية المتأخرة باللغات الأوربية.

وقد ظل (لين) طيلة حياته (أستاذ الدراسات العربية العظيم) كما نعته بذلك أحد العلماء المشتغلين بالعربية من الألمان، وقدرته الجمعيات الثقافية في عدة عواصم أوربية.

أما (إدوارد هنري بالمر) - وهو أحد العلماء الإنجليز المعروفين في القرن التاسع عشر - فربما كان أكثر اشتهاراً في الشرق باسم (الشيخ عبد الله). وقد ولد في كامبردج في سنة 1840 وتوفي في مصر سنة 1882 وهي السنة التي قامت فيها ثورة عرابي باشا. وأظهر منذ طفولته قدرة كبيرة على تعلم اللغات فأجاد الفرنسية والإيطالية بطلاقة. ولما بلغ العشرين من عمره تعرف إلى شخص يدعى (سيد عبد الله) وهو أحد المسلمين الهنود، وكان حينذاك محاضراً باللغة الهندستانية في جامعة كامبردج، واكتسب منه الاهتمام بالدراسات الشرقية؛ فقام بنشاطه المعهود بدراسة اللغات العربية والفارسية والأردية في آن واحد، ولم يمض عليه زمن طويل حتى شرع ينقل الشعر الإنجليزي إلى (لغته العربية المفضلة) وينظم بالفعل شعراً عربياً أصيلاً. وبعد ذلك مبشرة قرر أن خير طريق لتعلم اللغة العربية هو أن يتعلمها من العرب أنفسهم، فنراه يتصل بصلة قريبة بأعضاء عديدين من الجالية العربية في إنجلترا - وكان أحدهم وهو سوري من حلب يدعى (رزق الله حسون الحلبي) الذي أصبح صديقه المقرب، والذي كان له تأثير في مؤلفات بالمر وخلقه، فدرسه دروساً كثيرة، وكان بالمر يحترمه كثيراً - وبعد ذلك بقليل دخل (بالمر) جامعة كامبردج وواصل دراساته الشرقية بصورة أكثر تنظيماً، وكان يطمح منذ زمن بعيد أن يزور بلاد العرب ويتعرف شخصياً تلك الأمة التي كان يعجب كثيراً بلغتها وآدابها. وفي سنة 1869 أتيحت لفه تلك الفرصة؛ ففي تلك السنة والسنة التي تلتها، قام (بالمر) برحلتين إلى الشرق الأدنى، بالنيابة عن (جمعية كشف فلسطين)؛ وبذلك أتيحت له الفرصة الأولى لكي يدرس عن كثب الثقافة العربية واللهجات العربية، تلك الفرصة التي انتهزها كلها. وبعد أن عاد إلى إنجلترا بقليل عين أستاذاً للغة العربية في كامبردج، وقسم عمله عدة سنين بين العمل الأكاديمي والعمل الصحافي، وأصدر بضعة كتب مهمة. وفي سنة 1882، زار مصر مرة أخرى، وقام برحلة جريئة على ظهور الخيل في شبه جزيرة سيناء، وهي تلك المنطقة التي يعرفها جيداً من رحلاته السابقة. وقد أصبح ركوب (الشيخ عبد الله) في الصحراء يذكر الآن كما تذكر الأساطير، وكانت خاتمته فاجعة، فقد كان ذلك الوقت زمن اضطرابات في الشرق الأدنى؛ ولذلك كانت الأسفار فيه أكثر من مخاطرة اعتيادية، فقتله قطاع الطرق من البدو في عودته من رحلته في الصحراء، وانبتت تلك الحياة الحافلة عن عمر مبكر يناهز42 عاماً

ربما كان (بالمر) فريداً بين المستشرقين الأوربيين باعتبار أنه لم يقتصر على اكتساب المعلومات الأكاديمية للغة العربية فحسب، بل تعمق في روح الأمة العربية ولغتها. وكان من القليلين من المستشرقين الأوربيين الذين كانوا يستطيعون الكتابة باللغات الأجنبية بطلاقة ودقة، وبعض كتاباته باللغة الأردية تقرأ في الهند كثيراً. ويعتبر وصفه بالأردية لزيارة الشاه الإيراني لإنكلترا من الخوالد. وكان يكتب وينظم بالعربية والفارسية كلتيهما. ومن الطريف ذكره في هذا المجال، أنه عندما كان يكتب إلى زملائه المستشرقين خطاباته الخاصة، يجد أنه لا يستطيع الأداء عما في نفسه بصورة محكمة باللغة الإنكليزية، فيندفع كاتباً بالعربية. وقد ذكر عنه أحد أصدقائه وزملائه ج. ف نيكول أستاذ اللغة العربية في أكسفورد ما يلي: (لقد كان (بالمر) غير مستقر في رسائله التي كان يكتبها بالإنكليزية، فكان ينفجر تحت تأثير احساسات طارئة، أو بقصد النقد ذاكراً بعض النثر أو النظم الفارسي أو العربي).

ويمكن اعتبار القطعة التالية نموذجاً لشعر بالمر العربي:

ليت شعري، هل كفى ما قد جرى ... مذ جرى ما قد كفى من مقلتي؟

قد برى أعظمُ حزن أعظمي ... وفنى جسميَ حاشا أصغري

وبالرغم من قصر عمر بالمر، فإنه خلف قائمة كبيرة من الكتب المطبوعة، نجتزئ بذكر المهم منها فيما يلي: لقد قام قبيل وفاته بطبع النص الكامل لديوان البهاء زهير المصري مصحوباً بترجمة منظومة وشروح مقدمة. وفي السنة التي تلتها نشر أجرومية للغة العربية بالإنكليزية، وهي على خلاف الأجروميات السابقة قد وضعت على الطريقة التقليدية التي كان النحويون العرب يتبعونها، وحاول أن يقدم النحو العربي إلي الطلاب الإنكليز بالشكل الذي كان العرب أنفسهم يدرسونه. وقد ظهر هذا الكتاب في طبعته الثانية موسعاً في السنة التي تلت وفاته. وأهم من ذلك نوعاً ما كتابه عن حياة هارون الرشيد الذي قدم فيه (بالمر) صورة زاهية من العاصمة العباسية في عصر أشهر الخلفاء، كما أنه نشر عدة ترجمات شعرية من العربية والفارسية، وقاموساً فارسياً، وفهرساً انتقاديَّا للمخطوطات الشرقية في كامبردج، ووصفاً لرحلاته في شيه جزيرة الطور. وقد حزن لوفاته أصدقاؤه الكثيرون. والمعجبون به في جميع أنحاء العالم، وظهرت مراثٍ له فيما لا يقل عن الخمس عشرة لغة منها اللغة العربية

وهناك عالم آخر من الدرجة الأولى في الأهمية وهو (وليم رايث)، (1840 - 1889) وهو ابن ضابط إنكليزي في الهند، وقد ولد في ذلك القطر، وكانت أمه ضليعة في عدة لغات شرقية، فشجعته على أن يعتنق الدراسات الشرقية من باكر عمره، فدرس العربية في الجامعات الإنكليزية وفي القارة، وأشتغل مدة في ليدن على المستشرق الهولندي العظيم (راينهارت دوزي)، وكان أستاذ العربية في لندن ودبلن وكامبردج على التعاقب. وقد كتب إلى صديق له - وكان في الثانية والعشرين من عمره - انه اختط لنفسه خطة يهب فيها حياته لدراسة اللغة العربية. وكانت تلك الخطة طموحة، ولكن ما أعجب ما وصل (رايث) من المدى في تحقيقها في السنين التي تعاقبت بعد ذلك!

كان من أهم أعماله للأدب العربي عملان: أحدهما طبعته لرحلة ابن جبير، والآخر طبعة لكتاب المبرد المشهور (الكامل) واشترك مع دوزي في طبع تاريخ الأندلس للمقري. ونشر كذلك عدة نصوص عربية أخرى. ولا يزال كتابه عن النحو العربي (في مجلدين) من خيرة الكتب في هذا الموضوع، ويستعمله جميع الطلاب المتقدمين في البلاد التي تنطق الإنكليزية

وقد خلف (رايث) على كرسي اللغة العربية في كامبردج (روبر تسون سمث) (1846 - 1894)، وهو إسكتلندي من (أبردين)، درس العربية في جامعة تلك المدينة وفي القارة، وسرعان ما اكتسب الشهرة، فقدم له جماعة من المعجبين به في سنة 1881 مجموعة من الكتب والمخطوطات العربية هدية تقدير، وقام بعدة رحلات إلى الشرق الأدنى بين سنتي 1879 و1881، وساح كثيراً في فلسطين ومصر وسورية، حتى الجزيرة العربية، حيث تغلغل إلى جدة والطائف. وتشمل كتبه المطبوعة دراسات عن: (القربى والزواج عند العرب القدماء)، ونواحي أخرى من تاريخ العرب قبل الإسلام. وكان محرر (الموسوعة البريطانية)؛ ولذلك فإنه يعتبر الشخص الوحيد الذي قرأ هذه الموسوعة كلها قراءة إمعان

ولقد كان ذا اطلاع عجيب، وكثيراً ما كان يستشير استغراب أصدقائه بعمق معلوماته وتشعبها في جميع أنواع الموضوعات. ولقد قيل عنه إنه أملى محاضرة كاملة عن تاريخ إنكلترا في العصور الوسطى، وهو في شبه غيبوبة، وعلى فراش الموت!!

ونذكر في الأخير (سر وليم موير) (1819 - 1907) وهو أحد المشتغلين بالعربية من الإسكتلنديين، وكان ذا سيرة حافلة كإداري في الهند وكعالم في جامعة أدنبرة. وقد نشر عدة كتب بالإنجليزية عن محمد ﷺ، وعن التاريخ الإسلامي. ولا يزال عدد من هذه الكتب يستعمل أصولاً في الجامعات الإنجليزية والهندية، وأحقها بالذكر السيرة الكاملة لحياة النبي محمد ﷺ: ذلك الكتاب الذي خلا من الغرض خلوَّا تاماً. ولا يزال كتابه عن تاريخ الخلافة الذي وضعه على أساس المصادر العربية - وكان الكثير منها في ذلك الحين مخطوطاً - خير الكتب في هذا الموضوع بالإنكليزية.

(بغداد)

عبد الوهاب الأمين