مجلة الرسالة/العدد 485/قصيدة مصر الجديدة
→ المصريون المحدثون | مجلة الرسالة - العدد 485 قصيدة مصر الجديدة [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 19 - 10 - 1942 |
(مهداة إلى نادي الخرجين في السودان، وإلى جميع أصدقاء
(الرسالة) هناك)
للدكتور زكي مبارك
(حدثت الأستاذ الزيات أني سأنشر قصيدة أتحدى بها جميع
الشعراء، وأقول أن هذا الزهو لم يخطر في البال وأنا أنظم
هذا القصيد، فقد أوحته روحانية لا تسيطر على النفس إلا في
أندر الأحايين، فجاء كما يراه أقباساً من الأشواق العواصف
بالقلب والوجدان
وفتنة الشاعر بشعره مرض عرفته جميع الأجيال، فليس من الغريب أن أقول إني مفتون بهذا القصيد، وأن أزعم أني قبسته من جمر الوجود
أنا أكره أن تبيت قلوب وعيون بلا قرار ولا منام، فكيف جاز أن أزلزل قلوباً وأؤرق عيوناً بهذا القصيد؟
كان ذلك لأني أريد أن يعرف أبناء هذا الجيل حقوق الشعر البليغ، وأن يفهم قوم أن الكاتب الذي يعرفون هو الشاعر الذي يجهلون، إن كان فيهم من لم يقرأ قصيدة الإسكندرية أو قصيدة بغداد)
تناسيتُكم عمداً كأني سلوتكم ... وبعض التناسي العمد من صور الود
إذا اشتدَّ إظلام العقوق تبلجتْ ... مآثِرُ تذكي نار معروفكم عندي
أمِثلَي يَنسى؟ آهِ مما اجترحتمُ ... على الهائم الحيران في حَوْمة الوِردِ
أأن خِفتُ عذَّالي فأخفيت لوعتي ... تظنوني صبَّا أفاق من الوجدِ؟
غرامي بكم لم يُبقِ قلباً بلا جوىً ... وحبي لكم لم يُبق عَيناً بلا سُهدِ
خلعتَ عليكم من هُيامي وصَبوتي ... غلائلَ لم تُخلع على ساكني الخُ مضى ما مضى، هل يرجعُ الدهرُ ما مضى؟ ... وهل تتقون الحبَّ أو سالف العهدِ؟
معاهد في (مصرَ الجديدة) أصبحتْ ... رسوماً من الأشجان أحرسها وحدي
أنسري معاً فيها كما كان عهدنا ... وعهدُ الهوى أشهى مذاقاً من الشهد؟
أنقرأُها حرفاً فحرفاً كأنها ... رسائلُ من ليلى المريضة أو هند؟
تعالَوا نُعدْ ليلاتِها الغُرَّ حسبةً ... لحبٍ قبضتمْ روحه وهو في المهد
تعالوْا تعالوْا قبل أن يُمسيَ الهوى ... تواريخَ لا تُغني المحبَّ ولا تُجدي
تعالوْا. . . فلن ألَقى سَناً مثلَ نوركم ... ولن تستطيبوا جَنةٍ الحبِّ من بعدي!
تعالوْا. . . ففي (مصرَ الجديدةِ) ما بها ... منَّ النرجس النعسان والفُلِّ والوردِ. . .
مَثابةُ أحلامي ومهوى مآربي ... ومنسكُ روحي في الملامةِ والحمد
إذا جُلت فيها جولةَ الفتكِ أسلمت ... مفاتحها فيما تُسرُّ وما تُبدي
وإن غبت عنها بعض ليلٍ تلفتْت ... تُسائل عن سرِّ القطيعة والصد
شوارعها عند الأصيل مشارعٌ ... لكلِّ محبّ من حبيبٍ على وعدِ
وأنفاسها بالليل كالمسكِ نفحةً ... وظلماؤها كالخال في صفحة الخد
فلا تذكروا نجداً أو الخيف بعدها ... تسامتْ مغانيها عن الخيف أو نجد
ولا تطلبوا نِدّاً لها في جمالها ... فما لجمال الشمس في الكون من ندِّ
أباريسُ أو برلينُ تحوي فُتُونها ... إذا ازدهرت بالحسن كالكوكب السَّعدِ؟
أفي لَنْدَنٍ شِبهٌ لها في صِيالها ... إذا صفّتِ الأرواح جنداً إلى جند؟
تَّجمعَ فيها الحُسن من كلِّ أمةٍ ... كبغدادَ بين العُرب والفُرس والكُرد
ورفَّتْ بها الأنفاس شتَّى غرائباً ... من الورد والريحان والضال والرَّند
هديرُ الأماني في الفؤاد هديرُها ... إذا جَدَّ جِدُّ (السَّبق) بالركض والشَّد
وروَّادها في الصبح والعصر زادُهم ... إذا ما استضافوها فنونٌ من الوجد
تَشابهَ فيها الليل والصبح فاعجبوا ... لصحراء أضحت وهي من جنة الخلد
يجسَّد نور البدر فيها مُفضَّضاً ... فتحسبه درّاً يُساقَطُ من عِقد
بكل مكانٍ أو بكل ثَنيَّةٍ ... بأرجائها سحرٌ يُثار بلا عمد
وما بدرها بدر السموات وحده ... ففيها بُدورٌ قد تجلُّ من العدَّ خذوا وصفها عني فلي في ضميرها ... مكان الضريم الحر يكتنُّ في الزنَّد
ولا عيبَ فيها غير أنَّ نسميها ... يزيد سعيرَ القلب وقداً إلى وقد
يُحِدُّ شعوري بالوجود فاغتدى ... أحدَّ سماعاً من قُوى آلة الرَّصد
أسجل فيها ما أشاء من المنى ... ومن خطرات الروح للشاعر الغِرْد
وأنقل عنها في ضُحاها وفجرها ... أفانين أشتاتاً من الهزل والجِدِّ
إذا اجتمع السُّمار فيها رأيتهم ... ملائك توصي بالوثيق من العَقد
وإن طَرِبوا ليلاً وللقلب حقهُ ... حسبتم جنّاً أقيلوا من القِدِّ
هُيامي بها لم يُبق للعقل من شدىً ... بلألائه في غمرة الوجد استهدى
مدينةُ من هذي؟ مدينةُ ساحر ... يرى طيبها النفَّاح أذكى من النَّد
مدينة من هذي؟ مدينة ناسك ... يُسر من الإيمان أضعاف ما يبدي
أرى الله في مصرَ الجديدة كلما ... رأيت بها الأزهار تنظم في عقد
أرى الله فيها ما أردتُ ومن يعشْ ... كعيشي بها يقرُب من الصمد الفرد
حُلوليةٌ تزدار قلبي وخاطري ... فيحيا بها عقلي ويقوى بها عَقدي
أكان الحلوليون يرأوْن ما أرى ... من الحسن في قرب من الله أو بعد؟
أمرَّ زمان فيه (مصرٌ جديدةٌ) ... بها فارس يأوي إلى فرس نهدِ
أحبُّك يا مصر الجديدة فاسمعي ... نشيدي ولا تصغي إلى شاعر بعدي
تعالوْا تروْا قلبي على ما عهدتمُ ... وفاءً إلى غدر وصفحاً إلى حقدِ
أنا العيلم العجّاج بالرفق والأذى ... أضل أحبائي إذا شئت أو أهدي
بقايا من الرُّوح المريد تعودني ... فأرتدُّ صبّاً جائر الرأي والقصد
أُحبكُم؟ ماذا أقول؟ لقد صَحَا ... فؤادي وأبصرتُ الطريق إلى الرُّشد
عواطف جالت في ضلال كأنها ... بوارق في جُنح من الليل مسودّ
عشقتكم؟ قد كان ذلك وانطوت ... صحائف خطتها يد العبث المردى
فلا تذكروا عهدي بسخطٍ ولا رضاً ... تناسيت أو أنسيت ما كان من عهدي
أضاليل أزجيها لنفسي عُلاَلةً ... عسانيَ أطفئ ما تَضرَّم من وجدي
وكيف التناسي كيف؟ ما أكذَبَ المنى ... إذا حدثتني بالخلاص من القيد أحبُّكم حبّاً أحرَّ من الوغى ... تؤجج في سهل إلى الموت ممتد
أحبُّكم طوعاً وكرهاً وإنني ... لأخشى الذي تخشون من ذلك الإد
برغم الذي ألقاه من جور حكمكم ... ألوذ بكم عند الخصام واستعدي
ملاعب من لهو أثيم تمرَّدتْ ... فأمست كأقسى ما يكون من الجد
أروني باباً للنجاة أروده ... فقد ضقت ذرعاً بالضلالة في الرَّود
وكيف نجاتي كيف؟ هيهات فالذي ... سقيتم به روحي سيسرع في هدِّي
دعاني الهوى ماذا أراد بي الهوى ... لقد حدّ من عزمي وقد فل من حدي
إذا رُمت أسباب المتاب تعرضت ... نسائم رياكم فأقلعت عن هَودي
أأنتم نسيتم كيف كنا ولم نَدَع ... مآربَ من قبل تراد ولا بعد؟
غرامي بكم كان الغرامَ ومحنتي ... بكم صيرتني في الأسى أُمّة وحدي
سلوا الليل في مصرَ الجديدة هل رأى ... على عهده بالحب أصدق من عهدي
وهل أبصر البدر المنير بأرضها ... أصحَّ أديماً من ضلالي ومن رشدي
وهل عرفت ظلماؤها في سهوبها ... أحبَّ إليها من هيامي ومن سهدي
لقد كنت ألقاها وللشمس ميلةٌ ... إلى الغرب تستهدى النعاس وتستجدي
فأملأها وحياً وشعراً وصبوةً ... إلى أن تفيق الشمس من نومةِ الخود
أتلك ليالٍ لا تعود ولم أزل ... بحمد الهوى في صوْلة الأسد الورد
جهلتك إذا كنتم تظنون مهجتي ... سَتَجنْحُ يوماً للسلام وللبَرْد
هواي هو الجمر الذي تعرفونه ... وللجمر سلطان على الحجر الصَّلْد
سأرزأكم بالهجر والصد فارقبوا ... بلايا تُغاديكم من الهجر والصدّ
أكان غرامي غرّكم فظننْتُم ... بأن ليس للإسراف في الحب من حد
هو القول ما قلتم فإن صبابتي ... ستبلغ ما لا يبلغ الجمر من وقد
سنون تقضت في اضطرام وحبنا ... يصاول بالعذْل المحمل بالنَّأد
فهل أفلحَ العذّال يوماً وفيهمُ ... وفيون يؤذيهم خباليَ في سهدي
مساويكم تبدو لقلبي محاسناً ... فواتنَ تُجزَي بالثناء وبالحمد
فمن أيِّ وادٍ للفُتون تفجرت ... ينابيع هذا الحسن مرهوبة الوردِ أمرُّ بها ظمآن والجوُّ قائظٌ ... فأسمع همساً من وعيد ومن وعد
تلوِّح بالإشفاق عينٌ مريبةٌ ... لها ما لهذا الدهر من خاتل الكيد
وهل يعرف الحيران ضل طريقه ... بنحس رمى التلويح بالرفق أم سعد
أرى بيتكم مني قريباً وتارة ... أراه وأدني منه أبنية السند
على قدر ما نلقي من الوصل والجفا ... يقدر ما نلقى من القرب والبعد
أذلك بيت أم كناس يهابه ... ويرهب غزلاناً به أفتك الأسد
فأيان أيان السلامة منكمُ ... وليس لطغيان الملاحة من صد
أعوذ بربِّ الجنِّ منكم وإنني ... لأعلم أن لا عوذ من سَورة الوجد
شفى وكفى أني مُحِبٌّ محسَّدٌ ... يساق إليه الإفك في صورة النقد
قضى حبكم أن أجرع اللوم طائعاً ... وأن أحسب التهيام فنّاً من المجد
إذا صرت في غي الهوى ورشاده ... إماماً فقد تمت أياديكم عندي
أجيبوا: أكان الحب حلماً تبددتْ ... أشعته عند الآفاق من الرَّقدِ؟
أكان صفاكم لمحةً جاد بارقٌ ... بلألائها في الليل يُفجَع بالرعد؟
سأنساكمُ يوماً وللقلب رجعةٌ ... على جهله للراجحات من الجد
سأنسى هُيامي ثم سأنسى غوايتي ... وكلُّ ضرام في الغرام إلى خمد
أجيبوا فلي رأيٌ يقرُّ إلى مدىً ... قرار الجراز العضب في سُدف الغمد
أأنتم رضيتم أن تصير حياتُنا ... أفانينَ من نسك يكفنُ في زهد؟
لكم ما أردتم، فاذهبوا ثمةَ اذهبوا ... إلى الوهد من وادي الخمود أو النجد
ولي ما أراد الحبُّ والحبُّ حاكم ... نرى جوره فينا أبرَّ من القصد
بلادةُ أقوام تُعَدُّ رزانةً ... بكل زمانٍ عن هدَى الحب مرتدِّ
جمال التماثيل الحسان جمالكم ... وليس لغادات التماثيل من رفد
فحتامَ حتامَ الوفاءُ لصبوةٍ ... رددتم إليها سؤلها أقبح الردِّ
أحبايَ ضاقت بي بلادي وآدني ... زماني فأولاني من الكرب ما يُردي
إذا قلت أيام الشقاء إلى مدىً ... تعاقبنَ بالأنواء والبرق والرعد
وإن ظمئت روحي إلى الصفو صدّني ... عن الصفو أقوامٌ جبلنَ على الحقد ثلاثون عاماً أو تزيد قضيتها ... جواداً ببذل الروح للوطن الفرد
فما نلت حظاً من جداه سوى الذي ... يمنُّ به أهل الوشاية والكيد
أمن أجل هذا عشت ما عشت صابراً ... على وثبات العزم في الزمن الجعد؟
بلادي بلادي، أنت ما أنت؟ إنني ... أجرَّع فيك الصاب ينعت بالشهد
أأنت بلادي أنت؟ صدَّقت، فاصدُقي ... وعودك يوماً للفتى الصادق الوعد
تسابقني فيك الأماني خوادعاً ... كواذب لا تورى بحل ولا عقد
أساهر في ليلي كتابي ولا أرى ... لنفسي حظ الساهرين على النرد
فماذا دها الدنيا وماذا أصابها ... أسفّت فأمست وهي في خسة القرد
إلى من أسوق الشكوَ والدهرُ ما أرى ... تماثلَ فيه شامخ القُور بالوهد
إلى الوطن الجاني شكوت كما شكا ... لديغٌ إلى الصم المؤرَّقة الرُّبد
أمثليَ يؤذي بالعقوق ولم يكن ... له غير حفظ العهد في الحب من وكد؟
بلادي، وما هانت عليَّ مواطن ... أبي كان منها في الذؤابة أو جدي
أيشقى الثرى بالماء حتى يعودَه ... أطباء علامون بالجزر والمدّ
وأظمأ وحدي فيك والنيل ثائرٌ ... يروز الجسور الشمَّ بالمزق والقدّ
بلادي، أمن جرم جنيت تحولت ... حياتي إلى وجه من العيش مرمدّ
لئن كان لي ذنب فذاك تولُّهي ... بشرح الذي زُوِّدت في الدهر من مجد
ستمضي الليالي ثم تمضي ولا يرى ... جمالك أقوى من غرامي ولا وجدي
بلادي، أكان الحب نوراً تطاولت ... عليه غيوم من عقوق ومن جحد
توحدت مقهوراً فما لي أخوةٌ ... ولا صحبة يقوى برفقتهم زندي
توحدت لا خِلٌّ أبثُّ شكايتي ... إليه ولا حبٌّ يؤرقه سهدي
إذا آدني الدهر اللئيم بجفوة ... تحوَّل أهلوه إلى عصبة لُدِّ
توحدت؟ لا، فالأسد يؤنسها الأسى ... بوحشتها في ظلمة الكثُب الجُردِ
ليصنع زماني ما أراد فلن يرى ... سوى ساعد يلقاه بالبأس مستدّ
بناني الذي يبني الجبال شواهقاً ... وليس لحصنٍ شاده الله من هَدّ
فما بال أقوامٍ تهاوت حلومهم ... يعادون بَنّاء الجبال بلا عند يعدُّون أجناداً لحربي بواسلاً ... وقد جهلوا أني سألقاهمُ وحدي
إذا اعتز بالله القدير مجاهدٌ ... أذل ألوف الظالمين من الجند
أحباي في (مصر الجديدة) ما الذي ... دعاكم إلى تكدير ذيّاكم الورد
به جاد دهرٌ لا يجود فكنتمُ ... أضنَّ من الدهر المبخل بالرِّفد
سقاكم فروَّاكم غرامي ولم أجد ... على عثرات الدهر والوجد من يعدي
تُّمر ليالٍ أو أسابيع لا أرى ... على شغفي إلا مواعيدَ لا ُتجدي
عذرت أحبايَ الذين تصدُّهم ... فيافٍ سحيقاتٌ عن البر بالوعد
عذرت الألى بالكرخ شطت ديارهم ... فليس لهمٍ عن عصمة الصبر من بُدّ
فما صبركم أنتم وبيني وبينكم ... خطىً هيناتٌ قد يقدَّرن بالعد
إذا صلصل الهتّاف أصبحت عندكم ... وإن وسوس الهتاف أمسيتم عندي
بخمسة أرقام تدار أراكم ... وترأونني، أهونْ بذلك من جهد
تعالوْا، ولا تُصغوا لأقوال ناصح ... يسوق الكلام الحرَّ عن خاطرٍ عبد
نصيحةُ بعض الناس غشٌّ مقنَّع ... وإشفاق بعض الناس ضرب من الحقد
عرفت زماني في بنيه ومن يُقمْ ... بمسبعةٍ يسبق فلاسفة الهند
أنسمع لغو الحاقدين ولا نعي ... هدير حميّا الحسن ينصح بالوجد؟
هو الحسن فليأمر بما شاء ولتكن ... مشيئته، إنَّا له أطوع من الجند
سمعنا، ومن يهتف به الحسن يستمع ... ألا إنَّ همس الحسن لحنٌ من الخلد
تعالوْا فأوقات الصفاء ذواهبٌ ... وليس لوقتٍ قد أضعناه من ردّ
تعالوْا سراعاً، لا تقولوا: إلى غدٍ ... غدٌ عند صدق الشوق دهر من البعد
وإلا ففي (مصر الجديدة) أنجمٌ ... زواهر ترجو أن يكون لها ودِّي
أبغداد في عهد الرشيد تأرَّجتْ ... بأطيب من أنفاسها وهي في عهدي
زكي مبارك