مجلة الرسالة/العدد 484/الأثر المصري
→ من أدباء الصعيد في القرن السادس | مجلة الرسالة - العدد 484 الأثر المصري [[مؤلف:|]] |
أحلام (المنصورة) ← |
بتاريخ: 12 - 10 - 1942 |
في نهضتنا الأدبية الحاضرة
للأديب بشري السيد أمين
قبل فتح السودان الأخير الذي تم للحكومتين المصرية والإنجليزية في سنة 1898 بقليل، كان الأدب والعلم بمعناهما المعروف في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصورين في فئة قليلة من الناس. فلما أراد الله، ولا راد لإرادته، وقضى، ولا ناقض لما قضى، أن يتم فتح السودان الأخير على المصرين والإنجليز، كان غنماً لنا بدل أن يكون غرماً علينا، وعاد علينا بأحسن الفوائد وأبركها بدل أن ينزل على رؤوسنا الويل والثبور وعظائم الأمور. وهذا من أعجب ما يبعث في النفوس العجب؛ إذ كان المنظور أن تأتي النتائج بعكس ذلك؛ وهذا طبعاً لا ينفي القول الكريم بأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. فانتشر العلم، وذاع الأدب، وشاع في السواد الأعظم من شباب مدننا لكثرة ما أنشأ السادة الحاكمون من المدارس في مدن السودان الكبيرة وعواصمه، وما اهتموا به من شأن العلم والتعليم، وما أنشأوا من صحف وطبعوا من كتب. هذا إلى جلبهم مطابع لهذا الغرض وفت به كل الوفاء، وجعلت مدن السودان وأقاليمه القاصية، مرتبطة بالدانية منها، كالسلسلة الواحدة، لا يفصمها إلا بعد المسافة. وحتى هذه ذللت تذليلاً حال استقرار الحكم للمصريين والإنجليز بالبلاد، بإنشاء الخطوط الحديدية العديدة في كثير من أنحاء السودان وقد تولى التعليم في مدارس السودان أكفاء من خيرة الأساتذة المصريين، المشهود لهم بالعلم الغزير والأدب الكثير، فأداروه على خير الوجوه وأحسنها، وتصرفوا في شؤونه تصرفاً هو الغاية لمن يريد الإحسان، فكان عهد المصريين الأول من خير العهود التي مرت بالسودان في جميع أدواره الثقافية
وإني لأذهب إلى القول الآن غير متحفظ أن نهضتنا الأدبية الحاضرة ما هي إلا وليدة تلك الروح العلمية الأدبية السامية التي سرت إلينا من إخواننا المصريين الذين تولوا تعليم ناشئتنا في المدارس التي أنشأوها، والتي وجهتنا بعد ذلك فأحسنت التوجيه
ولا يفوتني أن أذكر - وأنا أكتب عن الأثر المصري في الأدب السوداني - ما للمحاضرات والمساجلات والمسامرات التي كان يتولى شؤونها أساطين البلاغة وجهابذة القول من المصريين في مجتمعاتنا وأنديتنا الأدبية بمهارة لا يشركهم فيها غيرهم، ولباقة لا يدانيهم فيها سواهم، من أثر لا يمحى، ولا زال واضح الصبغة، مشرق اللون في بعض أدبائنا على الخصوص، وفي أدبنا على العموم وفهمنا
للأدب ومعناه، وللعلم وجدواه، لا يعود الفضل فيها إلا إلى الأساتذة المصريين الذين تولوا تربيتنا وتثقيفنا بصفة مباشرة، أو غير مباشرة.
فنحن مدينون لهم بالفضل، ومقرون لهم بالجميل، فلولاهم، ومن يدري، لظللنا إلى الآن نسبح في ظلامين دامسين من جهلنا ولوننا: ظلام جهلنا الذي لا زال يبدده هذا الصبح الواضح لذي عينين، صبح العلم والمعرفة؛ ونسأل الله أن يأتي على بقاياه في زمن قريب. أما ظلام ألواننا، فهو آية من آيات الله الشاهدة فينا بقدرته وإعجازه، لأن الصبح بدل أن يجلوه يزيده إظلاماً!
إذ أضفت، إلى ما تقدم شغف شبابنا المثقف بما تخرجه الصحف، وتطلع به الكتب كل يوم من روائع الأدب المصري على أنواعه في الأغراض، وألوانه في الأساليب، أدركت في يسر سر انطباع أدبائنا على هذه الأنواع في الأغراض والألوان في الأساليب، لأن مثل هذا السحر في البيان العربي الممتاز مما لا يقوى على رده ومقاومته الأدباء الراسخون في الأدب وصنعة البيان، فكيف بمن هم حديثو عهد بالأدب ومزاولة الكتابة؟ ولأدركت في يسر كذلك أن هذه الثمرة من تلك الشجرة، ولتنبأت لنهضتنا الأدبية المباركة هذه بعاقبة تصير الهلال قمراً، والفجر صبحاً، والليل نهاراً. أو لم تسر النهضة الأدبية المصرية في بدايتها على مثل هذه الدرجات من التقدم حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من مكان ملحوظ ومجد باهر في عالم الأدب؟ فكذلك سيكون شأننا نحن في المستقبل القريب إن شاء الله.
ويتجلى لك بوضوح تام شغف شبابنا المتأدب بالأدب المصري المعاصر في تأثر بعضهم بأساليب بعض أئمة البيان هناك تأثراً تنم عليه أساليبهم وتفضحه ألسنتهم مفتخرة! فمنهم من يقلد الدكتور هيكل، ومنهم من يحاكي الدكتور طه، والأستاذ الزيات، والأستاذ المازني، ويشغف بأدب هؤلاء وغيرهم، حتى لا يجد غضاضة أن يفخر على غيره بأنه يملك القدرة التي تمكنه من تقليد أسلوب أحد المذكورين أو غيره في ما يكتب للصحف والمجلات. ولو سكت - عفا الله عنه - لدل من نفسه الفرع على أصله من غير تنبيه أو لفت نظر! على أن هذا ليس فيه لفاخر فضل، بقدر ما فيه من عيب واضح، وضلال فاضح.
ولا أنسى بجانب هذا أن أذكر أن لنا أدباء بالمعنى الصحيح، وأن لهؤلاء الأدباء أقداماً راسخة في الأدب على ألوانه وأوضاعه، وأنهم قد أوتوا من حسن البيان وسحره، وقوة التعبير وفصاحة الأسلوب وخلوصه من الشوائب قدراً يخلوهم الوقوف مع كبار أدباء العربية في العالم العربي، وإن آثارهم التي تطالعنا بها صحفنا المحلية كل يوم، أو الكتب التي أخرجوها للناس - وهي قليلة - من بضع سنين إلى اليوم، تشهد بهذه الحقيقة الواقعة، وتشهد فوق ذلك بأنهم لا يقلدون غيرهم، ولا يتأثرون سواهم في أسلوب أو تعبير أو فكرة، إلا إذا جاء ذلك عن غير قصد، لأنهم يريدون لأدبهم حياة، ولأمتهم بقاء ومكاناً ملحوظاً تحت الشمس، ولا يتأتى لهم ذلك، إلا إذا كانوا كذلك، والفضل في ذلك راجع إلى حسن توجيه الأدب المصري ورسمه لنا الطريق التي يجب على أدبائنا سلوكها كي تكون نهضتنا الأدبية نهضة بالمعنى الصحيح لقيامها على أمتن الدعائم، وأقوى الأسس التي يشاد عليها بناء نهضة أدبية لأمة متيقظة طامحة إلى المجد متطلعة إلى العلاء.
وبعد، فإن الأثر الأدبي المصري في الأدب السوداني المعاصر أثر واضح لا ينكر أو يخفي على ذي بصيرة وبصر للأسباب المذكورة آنفاً، وهي أسباب قوية حرية أن توجهنا توجيهاً رشيداً نحو العلم والأدب إن أحسنا الاسترشاد بها والتهدي بهديها، ولكن لابد للطفل من أن يقلد أباه بادئ ذي بدء حتى يكبر فيرسم لنفسه طريقاً في الحياة ليسير عليه، ولعلنا نجتاز الآن - في ثبات وهدى من أبصارنا وبصائرنا - هذه المرحلة
(السودان: الجزيرة أبا)
بشري السيد أمين