الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 484/إيبيقوس

مجلة الرسالة/العدد 484/إيبيقوس

بتاريخ: 12 - 10 - 1942


للأب أنستاس ماري الكرملى

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

5 - كنا نود أن يرأف الأستاذ مندور بأجداده العرب

قلت - يا سيدي الأستاذ - ما هذا نصه، وقد ورد في ص812 من (الرسالة): وإذا ذكرنا أن كومودوس هو أبن مارك أوريل، وأن إتيقوس قد أشرف أيضاً على تربيته كما أشرف على تربيه أبيه، وإذا كان من الممكن أن يكون قومودس إمبراطور روما قد كتب إلى إنتيقوس باللغة اليونانية يطلب إليه كتباً وأشعاراً، وأن العرب قد علموا بذلك - مترجماً عن اليونانية ترجمة لا نعلم مبلغ دقتها؛ فأي غرابة في أن يكونوا قد جعلوا إتيقوس شاعراً يونانياً، ومن قومودوس ملكاً لليونان، مادام مصدرهم كان يونانياً، ومادام التوحيدي يورده على سبيل الرواية؟ وهل العرب كانوا يعرفون شيئاً دقيقاً عن الشعراء اليونان ومعلمي البلاغة عندهم، حتى نستعبد أن يخلطوا بين الشاعر ومعلم البلاغة، أو أن يستنتجوا من يونانية النص أنه تبودل بين يونانيين؟

انتهى كلام الأستاذ مندور المدرس بكلية الآداب في مصر

فيا سيدي، أهذا هو إكرامك للعرب أجدادك وأنت تنشئ تلاميذ عرباً ليقدروا أجدادهم أحسن تقدير؟ فكيف تتمكن بعد ذلك من تعليمهم احترام أسلافهم بعد أن قلت عليهم أنهم ما كانوا يميزون بين الشاعر ومعلم البلاغة، حتى أنهم كانوا يخلطون الواحد بالآخر؟!

ذلك ما لا نقبله منك، ونلتمس من حضرتك بعد هذا أن تكرم بني مضر الإكرام اللائق بهم، لأن الدقة في التعريب بلغ منهم أبعد مبلغ، حتى أن المستشرقين المعاصرين يدهشون مما جاء به هؤلاء الدهاة الذين لا يشق لهم غبار! فنحن يا سيدي نحتج عليك وعلى قولك هذا، ونرجو منك ألا تعود إليه ولا إلى مثله، وتعوض عنه بما يغفر لك سيئتك هذه!!

6 - نتيجة الأستاذ الجليل

ختم الأستاذ نبذته - ويا ليته لم يكتبها! - بقوله: (ولعل في هذه القراءة ما يطمئن إليه - ولو مؤقتاً - الأب الفاضل، إلى أن يقترح غيرنا قراءة أصح) انتهى

قلنا: لم نطمئن إلى هذا المقال دقيقة واحدة. والدليل عل ذلك، وعلى أننا لم نقبل منه رأياً واحداً من جميع تلك الآراء كثرة ما ورد فيها من التشويش والارتباك وعدم بقائه في قرار مكين

وكيف نطمئن إلى ما ذهب إليه وهو نفسه لا يطمئن إليه؛ إذ قال في آخر آرائه: (ولعل في هذه القراءة. . . ولو مؤقتاً. . . إلى أن يقترح غيرنا قراءة أخرى.

فهذه كلها أقوال هدامة، ناسفة لكل ما أورده من الآراء والقراءات، حتى اضطررنا إلى أن نمعن في البحث كل الإمعان لنجد ضالتنا، فوجدناها والحمد لله في الأول والآخر.

7 - من كان ملك يونان الذي طلب ايبيقوس؟

هذه مسألة في نهاية الغموض؛ فإن هذا الملك لم يكن ثيودسيوس، كما قال الناشران في 153: 2، ولا قومودس، كما ذهب إليه حضرة أستاذنا الذكي المدرس بكلية الآداب في مصر الزاهرة، ولاتودورس، على ما ورد في حاشية ص153. وسبب كل هذا الإنكار أن هؤلاء جميعهم كانوا روماً لا يونانيين خلافاً لما يذهب إليه أستاذنا المدرس. ولعله يفعل هذا تحقيقاً لقولهم: خالف تذكر؛ ولأنهم لم يكونوا جميعاً من المائة السادسة قبل الميلاد. وكفى بذلك دليلاً على أنه لم يكن أحد منهم الملك الذي طلب إيبيقوس.

إذن من عسى أن يكون هذا المنشود؟. إننا نظن أن الاسم تيودوسيوس وغيره من قومودوس ولاتودورس من وضع النساخ، لا من وضع الناطق به لأول مرة، أي أبو سليمان المنطقي السجستاني. وكثيراً ما كان النساخ يضعون في مواطن الأسماء المجهولة، أو الأعجمية، أو الصعبة القراءة أو النطق بها، ألفاظاً مشهورة مألوفة سهلة التلفظ بها، إن في الأعلام، وإن في المصطلحات العلمية، بل في الأحاديث النبوية نفسها

فمن الأول قولهم في الهبودروموس البذروم (راجع كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبه ص109 من طبعة أوربة سنة 1306). وقد قال ناشره في الحاشية: وسماه ابن رسته: البذرون والبيدرون واليبذرون. ونشر الأستاذ الجليل الشيخ عبد القادر المغربي في المقتطف 101 ص274 وما يليها مقالة قال فيها: إن العَلَم (ناصف تحريف ولدته اللهجة التركية عن نصوح) - وحضرته يعتقد هذا الأمر حاق الاعتقاد. أما نحن فلا نسلم به، بل نظن أن من كان اسم واحد ممن اتصل بالترك ناصفاً، كان اسمه أيضاً (نصوحاً)، فكان يعرف (بناصف نصوح) معاً، كما قالوا: محمد علي، ومحمد حسن، ومحمد حسين، إلى نظائرها، ثم تُرِك العلم الأول وأُخِذ العلم الثاني، وهو كثير عندهم فقالوا: (نصوح) أو (نصوحي). أما أن يكون (ناصف) تصحيف (نصوح) أو بالعكس فبعيد عندنا

ومن الثاني قولهم: الشكار والبتكار في التنكار. والرجات والزاحات في الزاجات. والراوندي والرموندي والرواندي في الزراوندي لنوع من البورق. والمحّوض والمحوَّض والمجوَّص والمخصص في المخوص، لنوع من التوتيا (راجع مفاتيح العلوم طبعة فان فلوتن ص210 و211)

ومن الثالث، ما ذكره أبو عبد الله حمزة بن حسن الأصفهاني المتوفى سنة 367 هـ في كتابه (التنبيه على حدوث التصحيف): (إن كثيراً من رواة الحديث يروون أن النبي ﷺ، قال: تختموا بالعقيق؛ وإنما قال: تختموا (بمعنى تعمموا) بالقيق. وهو اسم واد بظاهر المدينة. وروى آخر أن رسول الله ﷺ، كان يسحب العسل يوم الجمعة، وإنما هو يستحب الغسل في يوم الجمعة. ورووا: غم الرجل، ضيق أبيه، وإنما هو عم الرجل صنو أبيه، أي شبهه. وقال عليه السلام: خراب بصرتكم بالريح، وإنما قال بالزنج) انتهى

وبعد هذا البسط الوجيز الذي لا بد منه في هذا المقام، لوقوع التصحيف والتحريف في الكتب المخطوطة، نظن أن اسم الملك الذي طلب الشاعر اليوناني إيبيقوس هو أحد هؤلاء الأربعة:

فأما أن يكون (بولقراطس وهو طاغية ساموس (من سنة 535 إلى سنة 542 ق م. وكان محباً للعلوم والآداب، واجتذب إليه أنا كريون، كما ذكرته المعلمة البريطانية) وفريقيديس وشاعرنا إيبيقوس. وكان قد أنشأ خزانة كتب ثمينة

وأما أن يكون (بيستراتيدس وكان طاغية آثينة، ومن قرابة صولون. وكان قد ساعد على ازدهار الصنائع والفنون والحراثة والزراعة، وحسن آثينة، وأمر بإعادة النظر في قصائد أوميرس وعمم نشرها بالنسخ والنقل وهي التي أصبحت أمّا لجميع ما نشر منها بالطبع بعد ذلك. وكان من أبناء المائة السادسة وإما أن يكون ابنه (هبياس الذي خلف والده على كرسي الملك في سنة 528 ق م، مع أخيه هبرخس فاجتذب إلى بلاطه الشاعرين (أنا كريون) و (سيمونيدس وأنشأ خزانة كتب عامة، وإنما أعمال أبيهما في ما يتعلق بأشعار أوميروس، وتصحيحها وإبرازها بحلة موشاة أحسن وشي

وإما أن يكون (برياندروس وهو طاغية كورنتس من سنة 621 إلى سنة 584 ق م. وكان قد خلف ولده قبسيلوس ووضع بعض أقوال حكمية اشتهرت فعد بين حكماء اليونان السبعة. وكان محامياً للعلوم والآداب والفلسفة، فاجتذب إلى كورنتس كليون وأنا خرسيس هؤلاء هم أشهر ملوك يونان المعروفين بحبهم للعلوم والآداب، وجذب العلماء والشعراء إلى بلاطهم، فكانوا يشركونهم في مجالس أنسهم وطربهم وشربهم ومآدبهم. وربما كان هناك غير هؤلاء الأربعة الذين ذكرناهم لكننا نجهلهم لجهلنا تاريخ اليونان وشعرائهم وأدبائهم

ولعل الأستاذ (محمد مندور) يهدينا إليهم أو إلى بعض منهم لأنه يظهر - على ما يبين من كلامه - أنه وقف على كتب اليونان التي لم يصب فيها قصة الكراكي، مع كل توغله في مطالعة أسفار تواريخهم وآدابهم، فجاءنا بكراكي مندورية، وغابت عنه الكراكي الأيبيقوسية

8 - الخاتمة والخلاصة

ظهر لنا، ولكل محب للتاريخ الحقيقي المبني على أخبار الأوائل، لا على الأوهام، لا على الأقاويل الأباطيل الفارغة، أن الشعر اليوناني الشهير الذي طلب من سرب الكراكي أن ينتقم له، كان (إيبيقوس)

أما اسم الملك الذي كتب إليه يستقدمه فلا يعرف على التحقيق، ولعله كان أحد هؤلاء الأربعة: (بولقراطس) أو (بيسستراتيدس) أو (هبياس) وأخوه هيرخس أو (برياندروس) وكانوا معاصرين جميعهم (لايبيقوس)، والله أعلم.

الأب أنستاس ماري السكردلى

من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية