مجلة الرسالة/العدد 483/من أدباء الصعيد في القرن السادس
→ أيبيقوس | مجلة الرسالة - العدد 483 من أدباء الصعيد في القرن السادس [[مؤلف:|]] |
العبقرية ← |
بتاريخ: 05 - 10 - 1942 |
الرشيد الأسواني
للأستاذ محمود عزت عرفة
في عام 549 هـ قتل الخليفة الفاطمي الظافر بأعداء الله في دار وزارته بالسيوفية؛ وعهد بالأمر من بعده لأبنه الفائز (عيسى)؛ وقد أقيم وقتذاك بقصر الخلافة حفل كبير لتأبين الخليفة المقتول، أمه شعراء الدولة من كل أقليم، فأنشدوا مراثيهم حسب مراتبهم؛ ثم نهض في أُخرياتهم رجل تتخطاه العيون، أسود الإهاب، عليه أطمار رثة، وطيلسان من صوف؛ فأنشد قصيدة أولها:
ما للرياض تميل سُكراً ... هل سقيت بالمُزن خمراً؟
. . . ولما وصل منها إلى قوله:
أفكَرْبَلاءُ بالعرا ... ق وكرْبلاءُ بمصرَ أخرى؟!
كان التأثر قد بلغ من الحاضرين مبلغه، فجاشت قلوبهم بزفرات من الأسى، وترددت أصوات من البكاء والإعوال هنا وهناك. . . وظل الحزن معتلجاً في النفوس حتى فرغ الشاعر من إلقاء ما تهيأ له، فغادر منبره وقد شجي وأشجى وكان أن رمقته العيون بنظرات الإعجاب والإكبار، وانثالت عليه العطايا من الأمراء والحاشية والخدم وحظايا القصر؛ وحُمل إليه من قبل الوزير - طلائع بن رزيك - جملة من المال؛ ثم قيل له في شبه اعتذار: لولا أنه العزاء والمأتم لجاءتك الخلع!
ذلكم هو شاعر الصعيد أبو الحسين أحمد بن علي بن إبراهيم ابن الزبير الغساني (الأسواني) الملقب بالرشيد، وصفه ياقوت في معجمه فقال: (كان على جلالته وفضله، ومنزلته من العلم والنسب، قبيح المنظر، أسود الجلدة، جهم الوجه، سمج الخلقة، ذا شفة غليظة وأنف مبسوط كخلقة الزنوج، قصيراً)
وترجم له كثير من المصنفين غير ياقوت: كالعماد الأصبهاني (صاحب الخريدة)، وأبى الطاهر أحمد السُلفي، وابن خلكان وكمال الدين الأدفوي.
على أن واحداً من هؤلاء لم يذكر لنا سنة مولده على وجه التحديد، وإن كانوا قد أجمعوا على أنه توفي عام 563 هـ نشأته وأخلاقه
كان أبو الحسن من أهل الفضل والنباهة والرياسة، ينتمي إلى بيت كبير واسع الثراء من بيوتات الصعيد، وكان يداخل نفسه شيء من الكبر والأنفة والطموح، وقد لازمته هذه النزعة طيلة حياته، بل جنت عليه أكثر من مرة، وأذاقته مرارة الكُره والشماتة من نظرائه، والتحيف والعسف من ولاة بلده وحكامه
وما من شك في أن مصرعه الرهيب على يد شاور وزير العاضد - كما سيأتي - مما يمت إلى هذه الصفات التي غلبت عليه بسبب قريب أو بعيد
لقد وصفه الشيخ الحافظ زكي الدين المنذري فقال: كانت في نفسه عظمة! وقال عنه ابن شاكر الحموي في مشيخته: كان الرشيد عالي الهمة، سامي القدر، عزيز النفس، يترفع على الملوك ويرقى بنفسه عنهم
وذكره ابن أبي المنصور في كتاب البداية فقال: كان قد اجتمعت فيه صفات وخلائق تعين على هجائه، منها أنه كان أسود، ويدعى الذكاء، وأن خاطره من نار
ولقد ضمه ليلة - مع جمع من الفضلاء - مجلس للملك الصالح بن رزيك، فألقى عليهم مسألة في اللغة عجزوا جميعاً عنها، حتى أتى هو بفصل الخطاب فيها. فلما أبدى الملك الصالح إعجابه قال الرشيد مفتخراً: ما سئلت قط عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهماً. . . فقال محمود بن قادوس الشاعر وكان حاضراً:
إن قلتَ: من نارٍ خُلِقْ ... تُ وفُقْت كلَّ الناس فهما
قلنا: صدَقْتَ فما الذي ... أطفَاكَ حتى صرتَ فحما؟
ومما قاله فيه ابن قادوس أيضاً، وكان به مغرى:
يا شِبْه لقمان بلا حكمةٍ ... وخاسراً في العلم لا راسخاً
سلخت أشعار الورى كلها ... فصرت تدعى (الأسود السالخا)!
ويبدو أن الرشيد لم يكن يخلو - مع هذا - من حب المفاكهة، والميل إلى التندر والمداعبة. ولقد كان مما قصه عن نفسه لبعض أصحابه أنه مر ذات يوم بموضع في القاهرة، فإذا امرأة شابة صبيحة الوجه تنظر إليه نظر مُطمع في نفسه، وتشير بطرفها، قال: (فتبعها وهي تدخل في سكة وتخرج من أخرى، حتى دخلت داراً وأشارت إليَّ فدخلت؛ ورفعت النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه، ثم صفقت بيديها منادية: يا ست الدار! فنزلت إليها طفلة كأنها فلقة قمر. فقالت لها: إن رجعت تبولين في الفراش تركت سيدنا القاضي يأكلك! ثم التفتت وقالت: لا أعدمني الله إحسانه، بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه! قال: فخرجت وأنا خزيان خجلاً لا أهتدي إلى الطريق)
ثقافته الأدبية والعلمية
كان الرشيد كاتباً شاعراً، فقيهاً نحوياً لغوياً، منشئاً عروضياً مؤرخاً، منطقياً مهندساً، عارفاً بالطب والموسيقى والنجوم متفننا
وقد ذكر صاحب الجريدة أن رسالة (أودعها من كل علم مشكلة، ومن كل فن أفضله) قال الأدفوي: (وقد وقفت أنا على رسالته، وهي تدل على جودة معرفته بالفقه والنحو واللغة والتصريف والأنساب والكلام والمنطق والهيئة والموسيقى والطب وأحكام النجوم وغير ذلك. . .)
وقال محمد بن عيسى اليمني: كان الرشيد أستاذي في الهندسة. ويعتبر كتابه (جنان الجنان ورياض الأذهان) أهم مصنفاته وأشهرها. وهو يشتمل على مختارات جيدة لشعراء مصر ومن طرأ عليهم. وله غير هذا الكتاب مؤلفات أخرى أورد ياقوت في معجمه منها:
كتاب (منية الألمعي وبغية المدعي). كتاب (الهدايا والطرف). كتاب (شفاء الغُلة في سمث القِبلة).
مجموعة رسائل وديوان شعر. . . ومن شعر الرشيد قوله معاتباً بعض أصحابه:
لئن خاب ظني في رجائك بعدما ... ظننتُ باني قد ظفرتُ بمنصف
فإنك قد قلدتني كل منَّةٍ ... ملكتَ بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذَّرتني كلَّ صاحب ... وعلمتني أن ليس في الأرض من يفي!
ومن قوله في الافتخار بنفسه:
جلَّت لديَّ الرزايا بل جلَتْ هِمَمى ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر؟
غيري بغِّيره عن حُسن شيمتِهِ ... صرفُ الزمان وما يأتي من الغَير
لو كانت النار للياقوت محرقةً ... لكان يشتبه الياقوت بالحجر
لا تُغريَنَّ بأطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على دُرر ولا تظن خفاَء النجم من صغر ... فالذنب في ذاك محمول على البصر
وروى عنه أبو الطاهر السلفي (في بعض تعاليقه) ما أنشده إياه لنفسه وهما بالإسكندرية:
سمحنا لدنيانا بما بخلتْ به ... علينا، ولم نحفل بِجُلِّ أمورها
فيا ليتنا لما حُرمنا سرَورها ... وُقِينا أذى آفاتها وشرورها
رحلة إلى اليمن
سافر الرشيد الأسواني إلى اليمن رسولاً، داعياً للخليفة الفاطمي. ويبدو أنه قوبل هناك بحفاوة سرَّته، وطاب له المقام حيناً، حيث تقلد منصب القضاء والأحكام ولقب بـ (قاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن). . . ويقول ياقوت أن نفسه طمحت وقتذاك إلى رتبة الخلافة. . . (فسعى فيها، وأجابه قوم، وسلم عليه بها، وضربت له السكة. وكان نقش الكتابة على الوجه الواحد: قل هو الله أحد الله الصمد، وعلى الوجه الآخر: الإمام الأمجد أبو الحسين أحمد).
(للمقال بقية)
محمود عزت عرفة