مجلة الرسالة/العدد 483/المنتحرة
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 483 المنتحرة [[مؤلف:|]] |
أيبيقوس ← |
بتاريخ: 05 - 10 - 1942 |
الدكتور محمد حسني ولاية
كانت في الخمسين من العمر عندما انتحرت بإحراق نفسها في آخر نوبة من نوبات الملانخوليا ولما كانت هذه النوبة خفيفة، فقد تمكنت بالإرادة الباقية لديها من وضع حد لحياتها. على أنها حاولت في إحدى النوبات المتوسطة في الشدة من أن تحنق نفسها بلف شعرها حول عنقها
بدأت حياتها في ظل عيش رغيد، وتولدت لديها نزعات ذكرية بعد أن أنجبت أمها عدة أطفال ذكور. ولما كانت العناية التي كانت موجهة إليها قد انتقلت إلى اخوتها، فقد نشأت عندها الرغبة في تحديهم وتحدي الذكورة بوجه عام. ومن مظاهر هذا التحدي أنها عندما بلغت العاشرة من عمرها كانت تقلد الذكور بإطارة طائرات مصنوعة من الورق الملون والبوص، وكثيراً ما كانت تصيد طائرات الأطفال بطائراتها التي كانت تعني بصناعتها أكبر عناية
وفي نحو العشرين من سنها تزوجت، ثم أنجبت من زوجها عدة أطفال، ولكن زواجها لم يكن موفقاً، لا لسبب سوى أنها كانت تنشد السيطرة وتشعر بغضاضة لقيامها بدور امرأة.
وقد انتهى أمرها إلى أن أحبت امرأة أخرى، فكانت تدللها وتعاملها معاملة الرجل للمرأة، وقد أعدت لها كوباً من الفضة نقشت عليه اسم خليلتها، ولا تسمح لأحد أن يشرب منه سواها، كما أنها طرزت اسم هذه الخليلة على الوسائد والفرش، ثم مهدت السبل لكي تزوج زوجها من هذه المرأة، فعاش الثلاثة في منزل واحد وفي شبه وئام. وقد حققت بهذا الزواج أهدافها بالتخلص من زوجها، على الرغم من أنها بقيت في عصمته، وفي الوقت نفسه قربت منها خليلتها
وعندما بلغت سن اليأس تشبثت بها نزعات سادية فكانت تضرب خادمتها ضرباً مبرحاً. وكثيراً ما كانت تجز شعرها وتكوي جسدها بسيخ محمي في النار، كما استبدت بها ميول ذكرية حملتها على السفر بمفردها إلى الأقطار الشقيقة وإلى تبذير أموالها تبذيراً شديداً. وما لبثت أن انتابتها نوبات ملانخولية متفاوتة في الشدة
بدأت عوارض مرضها بحدوث خفقان في القلب ورهبة من الموت وخوف من عقاب الله، ثم أخذت تتجاذبها الهواجس السود فكانت تعتقد أنها قضت نحبها، ثم توسلت إلى الله أن يغفر لها خطاياها. وكانت إذا سمعت الحاكي (الفونوغراف) تصورت أن روح أحد أقاربها تقمصت في القرص المدار فلا يفتأ يصعد أنينه ويبث شكواه كلما وخزته إبرة الحاكي الحادة. وإذا رأت أحداً يهش الذباب خيل إليها أنه يشير إلى سفاح ليقطع رقبة أحد أقاربها
وكان في منزل المريضة زهريات برنزية صغيرة في كل منها وردة صناعية حمراء، فكانت تعتقد أن تلك الزهريات ما هي إلا يأجوج ومأجوج حاملين مضلات حمراء ليتقوا بها جمرات تتساقط عليهم من جهنم.
وتصورت ذات يوم أن سريرها سفينة نوح وأن أفراد أسرتها مشرفون على الغرق، فجعلت تناديهم ليتعلقوا بالسفينة طلباً للنجاة ولكن دون جدوى.
وكانت تمتنع عن تناول الكاكاو لاعتقادها أنه ليس إلا دماً مسفوكاً. وطالما امتنعت عن الاغتسال ظناً منها أن الماء ما هو إلا بول الفيلة.
ومن أطراف الهواجس التي كانت تنتاب المريضة عندما كنت أغذيها صناعياً بإدخال اللي المعدي إلى معدتها أنها كانت تعتقد أن المقصود بهذه العملية تشويه خلقتها ونقل أعضائها الجنسية إلى مكان فمها ونقل فمها إلى مكان تلك الأعضاء لتكون أعجوبة العالم.
ومن الهواجس التي تدل على رغبتها في أن تكون رجلاً أنها كانت تتصور أحياناً أنها رجل أو أن نصفها لرجل والنصف الآخر لامرأة، وحين تسعفها لمحة من لمحات الإدراك وتنظر إلى رجليها فتراهما متماثلين تقرر أنها إما أن تكون رجلاً وإما امرأة
وعلى الرغم من أنها كانت تتصور في أثناء مرضها أنها مذنبة وأن الله سينزل بها أشد العقاب، وإنها مخلوق دنيء لا يستحق دخول الجنة فإنها كانت أحياناً تعوض عن هذا نوعاً ما بتصورها نفسها ابنة ملك الفرس ولكنها وضعت في أحد المتاحف الأثرية لتكون فرجة للناس.
محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية