مجلة الرسالة/العدد 482/البيئة العلمية
→ من وثبات العبقرية | مجلة الرسالة - العدد 482 البيئة العلمية [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 28 - 09 - 1942 |
للأستاذ خليل السالم
يشيع التفاؤل والأمل في نفوسنا كلما نجد الباحثين يشيرون إلى المشكلة العلمية في البلاد، ويحضون على نشر الثقافة العلمية وتنظيمها التنظيم المنتج. والحس الجديد بخطورة العلم وأثره في كيان الأمة وليد التأثر بروح العصر، ونتيجة الإدراك الواعي لنزعات النهضة العالمية الحاضرة التي يرفع العلم عمادها، ويكيف وجهاتها بصرف النظر عن النكسات التي تمنى بها المدنية، والتي لا يمكن أن يعد العلم مسئولاً عنها بأي شكل كان. وهذا الشعور بالنقص العلمي، والفوضى التي نتخبط فيها سيحفزنا دون ريب لاستعجال العلاج، ولبذل الجهد الأكبر لحل مشكلاتنا حلاً سريعاً حاسماً.
هل العقم في الاختراع والابتكار والاكتشاف متأصل في العقل العربي، أو هو وليد ظروف قاهرة إن زالت تفرد هذا العقل في التفكير والأداء؟ لماذا نحجم عن ارتياد الأبحاث العالية التي تملأ كتب الغرب ومجلاتهم، ونكتفي بالتغلغل الأدبي في بواطن الأمور؟
كيف نكون رأياً علمياً هاماً وفلسفة قومية شاملة؟ هل في بلادنا من الإمكانيات العلمية ما لو انتقل من حيز القوة إلى حيز الفعل رفعها إلى مصاف الأمم الراقية كإنجلترا وألمانيا وروسيا مثلاً؟ هل تصلح بلادنا ليترعرع فيها العلم في تربة خصبة، وجو مناسب، وعوامل طبيعية صالحة؟ ما هي أخصر الوسائل لخلق مثل هذه البيئة العلمية؟
هذه مسائل أساسية أذكرها دون ترابط فيما بينها لأقول إن الخوض في مثلها واجب مفروض على كل متخصص يستطيع الإجابة الوافية المطلوبة. وبحثي هذا محاولة سريعة لشرح الدعائم التي ترتكز عليها البيئة العلمية. وأنا إن قصدت في هذا البحث وجهة خاصة فذلك ما يفرضه الوسط العلمي الموبوء الذي نعيش فيه، والصورة المثالية للوسط العلمي السليم الذي ننشده.
وقبل أن أبدأ أجدني مضطراً لذكر ملاحظة قد تكون من تحصيل الحاصل؛ ولكن لابد منها لنمحو بعض ما علق بنفوس مريضة بداء الشعور بالحقارة، فتنكر على الأمة كل كفاية علمية، وتكفر بماضيها المجيد، ومن ثم لا تؤمن بمستقبلها أي إيمان. مثل هذه الفئة من الناس يجب أن تفهم بأن العلم لم يكن ولن يكون وقفاً على أمة بعينها بحيث تعدم الأ الأخرى كل القوى الخلاقة في الاستنباط والاستكشاف والتفوق؛ فالتراث العلمي العالمي مزيج متآلف العناصر لكل الأمم شأن عظيم أو صغير في تقديم هذه العناصر أو تكييفها بشكل ما. إن مشعل العلم ينتقل من أمة إلى أخرى، وإذن لا يكون من الأمانة التاريخية أن تدعى أمه من الأمم السبق والفضل في أحد ميادين المعرفة. نحن لا ننكر أن الأمة العربية في القرون الأخيرة لم تحمل قسطها من الواجب العلمي، ولكن هذه الحقيقة لا تمنعها من أن تنشئ لها من جديد حضارة علمية مستقلة الطابع، وافرة الإنتاج.
تقف الصناعة في طليعة العوامل الرئيسية التي تفعل في خلق البيئة العلمية، فحيثما كانت الصناعة تجد العلم ربيباً لها في طور، ورائداً لها في طور آخر. وتطور الصناعة يرافقه دائماً تطور في العلم وارتقاء في سبل الاختراع والاكتشاف، كما أن تقدم الصناعة مظهر من أقوى مظاهر تقدم العلم. وبمعنى آخر، يعتمد العلم والصناعة كل على الآخر كالدوال الجبرية، أي زيادة في قيمة التغير الأول تزيد في قيمة التغير الآخر والعكس بالعكس
قد نرى أن كثيراً من الأبحاث الرائجة اليوم لا تحمل في ذاتها طابع النفعية والاستثمار، ولكننا لا نحكم عليها حكماً نهائياً بذلك، فربما تؤدي أخيراً إلى تطبيق عملي واسع، وتخدم الإنسانية خدمة مخلصة. فمن كان يدري مثلاً أن أبحاث فراداي النظرية المحض حول علاقة الكهرباء بالمغناطيس ستقود إلى اكتشاف المحرك والمولد؟ حتى عندما ما لا تدخل هذه الأبحاث في نطاق التطبيق فيكفيها أنها تزيد المعرفة، وتفتق ضروباً جديدة من الفهم لأسرار الكون وحقائقه
ولما قدرت الصناعة أثر العلم الكبير في تقدمها وكمالها، روجت بضاعة العلم. فالمصانع تشتري العلماء، وتبني لهم المخترعات الواسعة وتجهزهم بالآلات الدقيقة، وتبذل في سبيل البحث أموالاً طائلة، سواء كان البحث مقصوداً لذاته، أو مقصوداً لمنفعة المصنع. وبذا خلقت عدداً من العلماء الأفذاذ الذين يعود التقدم الصناعي إلى مهارتهم ونباهتهم وقوة ابتكارهم. يقول الأستاذ هكسلي ما معناه: (إذا استطاعت الأمة أن تبتاع رجلاً مثل (وط) أو ديفي أو فراداي بمائة ألف جنيه كان عملها صفقة رابحة)
إلا أن الصناعة العربية لم تقف على قدميها بعد، وهي متلمسة طريقها بيديها، فلا يمكننا الاعتماد إذن على هذا الركن الأساسي في خلق البيئة العلمية الصالحة. وعلى النقيض نؤمن بأن على العلم أن يشجع الصناعة وينير أمامها السبل، ويخلق الوسط الصناعي الخصب، فإمكانيات البلاد الصناعية واسعة النطاق ومواردها موفورة الغنى وإنما تعوزها القرائح الكبيرة تستغلها بشكل علمي دقيق وعلى نظام اقتصادي مثمر
لا يقل أثر الدولة في تأمين البيئة العلمية عن أثر الصناعة إن لم يزد عليه. وقف البرنس ألبرت زوج الملكة فكتوريا يقول في خطبة الرياسة للجمعية الملكية سنة 1859 (قد يحق لنا أن نرجو أننا بانتشار العلوم التدريجي وتزايد الاعتراف به كجزء جوهري من ارتقائنا الوطني - نجد رجل الحكومة والجمهور بنوع عام يعترفون أن العلم حقيق باهتمامهم فسيترفع عن التسول ويخاطب الحكومة كما يخاطب ولد عزيز والده واثقاً أنه يجيبه إلى ما فيه نفعه؛ وأن الحكومة تجد في العلم ركناً من أركان قوتها وفلاحها، وإن مصلحتها الذاتية تضطرها لتعزيزه)
وقال الرئيس هوفر (إن علماءنا أغلى مقتنياتنا القومية التي نملكها، وكل مبلغ ضئيل إزاء عمل هؤلاء الرجال. إننا لا نستطيع أن نقيس ما عملوه لترقية العمران بكل أرباح البنوك في جميع أنحاء المعمورة)
بمثل هذه الروح يجب أن تبدأ الدولة نضالها في سبيل نشر الثقافة العلمية العالية. وواجب الحكومات عندنا ثقيل باهظ، لأن الجمعيات العلمية ومعاهد التعليم والشركات الصناعية ورجال الإحسان يساهمون بقسط وافر من التعضيد والتشجيع في بلاد الغرب، أما حكوماتنا فتقف وحدها في هذا النضال لا معين لها من الخارج
على الحكومة أن ترصد الأموال راضية مغتبطة دون أن تؤذيها خسارة ما، فكل البذر لا ينمو، لأن من الحب ما يقع على الصخور أو يلتقطه الطير، ولكن أغلبه يلقى في التربة الصالحة. وإذا ما وكل هذا الإنفاق لرجال الاختصاص فلا شك أنهم يركزون عنايتهم في النواحي المفيدة الواضحة الأثر، لأنهم سيعلمون حق العلم أن مواردنا لا تتحمل الإسراف والترف
على الحكومة أن تنشئ المختبرات في الطبيعة والكيمياء وعلم الحياة والطب، وعلوم الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية. . . الخ؛ وتجهز هذه المختبرات بالآلات العلمية الدقيقة التي أصبحت ضرورتها كضرورة العقل العلمي نفسه، ثم تسلم هذه المختبرات إلى العلماء المختصين المشهود لهم من الجامعات الغربية والقومية بالتفوق والنبوغ
وتستطيع الحكومة أن تنشئ جمعية علمية خاصة بها تضم العلماء الذين قدموا للعلم والإنسانية خدمات كبيرة تعترف بها المجامع العالمية؛ وتساعد تشكيل الجمعيات العلمية الأخرى، وتمدها في أول عهدها بالمال اللازم لحياتها وطراد تقدمها. ولعل من أقوى مظاهر التنظيم أن يكون المجمع اللغوي واقفاً على كل المصطلحات الجديدة، قامعاً من فوضى الترجمات المتباينة ومشجعاً على نقل الكتب الحية من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية، وناشراً هذه الكتب بأثمان لا تبهظ المثقف العادي
بيد الحكومة إرسال البعثات إلى الجامعات الكبرى، وبيدها قضية تبادل الأساتذة والعلماء، وبيدها الاشتراك في المؤتمرات العلمية والثقافية، وهذه أسباب قوية في تطعيم الثقافات وبعث روح جديد في الوسط العلمي
وهي ترسم الخطط لترويج الثقافة العلمية في المدارس على الوجه الأخص وفي الأمة على الوجه الأعم. ولعل هذا الجهد أجدى ما يمكن أن تقدمه الحكومة لمساعدة العلم، وفي الوقت نفسه لا يكلف خزانتها ثمناً باهظاً. فهي تستطيع أن تعدل المناهج وتقرر الأصول، وترشد إلى أنجع الطرق التربوية التي تشوق الطلاب وتصرفهم إلى حياه علمية قبل أن تلقنهم الحقائق العلمية. تستطيع كل هذا دون أن تضيف إلى الميزانية شيئاً جديداً. أما بين أفراد الأمة، فإننا لا نستطيع أن نؤمن بالوسط الصالح إلا إذا أقبل الرأي العام على العلم بشغف ونهم؛ والمجلات العلمية المتزنة، والمحاضرات المجانية في قاعات الجامعات والمدارس ومن وراء المذياع تعجب الجمهور، لأن العلم يتسع لكثير من المحاضرات التي تتملق الرأي العام وتثير في ذهنه مشاكل نهائية حيوية، لا يصبر عقله عن البحث الطويل لفهم حلولها وتفسيرها
وقصارى القول أن تعزيز السلطة للعلم واحترامها للعلماء يبعثان في الجمهور تقدير العلماء وإكبارهم دون تعليق على قيمة أبحاثهم سواء كانت سياحة في أعماق الفضاء، أو استنطاقاً لأسرار الذرة.
وتبقى شخصية العالم لتكون دعامة ثالثة قوية في خلق البيئة العلمية، فكما نجد كثيرين من العلماء خلقهم الظرف الحازب، نجد عدداً كبيراً من العلماء خلقوا الظرف الملائم، والوسط المناسب لانتشار آرائهم وذيوع أفكارهم. ولا يعوزنا الدليل بأن العربي موفور الذكاء مستعد بفطرته للاستنباط والتفوق إذا ما تساوت الأشياء، وأمنت السبل.
سواء علينا أن نعتنق الفكرة الرأسمالية التي ترى أن الدوافع المادية القوية تخلق العلماء، أو نعتنق الفكرة الاشتراكية التي ترى أن الرجال القادرين على الخلق والابتكار والتجديد ينفذون مآربهم بأي ثمن كان ويعملون بجد وحزم دون أمل في مغنم أو خشية مغرم؛ فإننا لا نستطيع إلا أن نحكم بأن تفكير العالم في خبزه وحياته يعطل تفكيره ويشل إنتاجه. فمقدار التضحيات المبذولة في سبيل العلم - مهما عظم هذا المقدار - لا يحملنا على الظن بأن رجال العلم رجال تضحية دائماً ولا يسعون من أجل المادة والمتاع الدنيوي. ولما كان حق الحياة وحق الحصول على مقوماتها متوقفين على خدمة الجماعة، فأولى بالمسؤولين أن يضمنوا للعالم حياة راضية لأنهم أول من يقدر خدمة العالم للجماعة
لا يكون هناك شيء غريب في أن يلقى العالم بعض المضايقات هنا، فتاريخ العلم مفعم بمثل هذه المضايقات. لقد دمرت الغوغاء مختبر بريستلي، وحرم جول من إجراء تجاربه لأن صوت الآلة كان يزعج أحد جيرانه، وجن العالم ماير لأن الناس سخفوا آراءه الصادقة. وكم أصيبت حرية الفكر بصدمات عديدة نتعب ونتعب إن حاولنا تقصيها وذكرها. ولكن جهد الحكومة المثمر سيقلل من هذه المضايقات، ويهيئ للعالم جواً رحباً تكون آفاق التفكير فيه واسعة مشرقة
نحن في فجر عصر يحملنا على التفكير السياسي، والتفكير الاقتصادي، والتفكير العلمي، والتفكير الأخلاقي، وبقدر ما نفكر ونستعد بقدر ما نستطيع أن نؤكد ذاتنا في المعترك الأدبي
اخلقوا لنا بيئة علمية راقية تزيلوا بذلك أمراضاً كثيرة تنخر في أجسامنا وتهدم من كياننا.
خليل السالم