مجلة الرسالة/العدد 480/مفاوضات الفتح العربي لمصر
→ تاريخ التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 480 مفاوضات الفتح العربي لمصر [[مؤلف:|]] |
سقوط بولندة ← |
بتاريخ: 14 - 09 - 1942 |
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 2 -
(ب) المفاوضة الثانية
ورد لنا عنها روايتان:
الرواية الأولى
1 - ذكرها أبو المحاسن (ص 9) نقلاً عن ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر قال: (ودخل عمرو إلى صاحب الحصن فتناظرا في شيء مما هم فيه؛ فقال عمرو: أخرج وأستشير أصحابي؛ وقد كان صاحب الحصن أوصى الذي على الباب إذا مر به عمرو يلقي صخرة فيقتله، فمر عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب فقال له: قد دخلت فانظر كيف تخرج. فرجع عمرو إلى صاحب الحصن فقال له: إني أريد أن آتيك بنفر من أصحابي حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت. فقال العلج في نفسه قتل جماعة أحب ألي من قتل واحد؛ فأرسل إلى الذي كان أمره بما أمره من أمر عمرو ألا يتعرض له رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم؛ فخرج عمرو).
فواضح من هذا أن المفاوضة كانت في حصن بابليون نفسه بين عمرو وصاحب الحصن (وهو المقوقس بدون شك؛ لأن ابن عبد الحكم يقول قبل ذلك فيما نقله عنه أبو المحاسن (ص 8) إن المقوقس كان حاضراً الحصن حين حاصره المسلمون).
2 - وذكرها المقريزي (الخطط ج 2 ص 65 ط النيل) نقلاً عن ابن الحكم أيضاً.
3 - وذكرها السيوطي (حسن المحاضرة ج 1 ص 64 - 65 ط إدارة الوطن) نقلاً عنه أيضاً.
4 - وذكرها الواقدي (فتوح الشام ومصر ج 2 ص 30 - 32 ط اليمنية). قال: (. . . وإذا برسول أرسطوليس قد قبل وقال: يا معشر العرب إن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلاً منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح ذات بينكم. . . فلبس عمرو ثوباً من كرابيس الشام وتحته جبة صوف، وتقلد بسيفه، وركب جواده، وسار معه غلامه وردان، وسار الثلاثة إلى قصر الشمع. . . فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك، ورأى السريرية والحجاب وقوف والبطارقة وهم في زينة عظيمة، فلما رأى ذلك عمرو تبسم وقرأ: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خيراً وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون). . . فأمروا عمراً أن ينزل عن جواده، فنزل وترجل، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبضة سيفه، ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) ثم قال: أعلموا أن الدنيا دار زوال وفناء، والآخرة هي دار البقاء. أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه؟ كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر. وقد قال نبينا صلوات الله عليه: إن الله أوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات، وعاتبها في الخلوات، وسارع إلى الصلوات، واستعمل الحسنات، وتجنب السيئات، وابك على نفسك بكاء من ودع الأهل والأولاد، وأصبح وحيداً في البلاد. وكن يقظان إذا نامت العيون، خوف من أمر لابد أن يكون. فإذا كان روح الله وكلمته فخوف بهذا التخويف، فكيف يكون المكلف الضعيف؟ وأول من تكلم في المهد قال: إني عبد الله، فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون إليه الربوبية؟ تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا أشرك في حكمه أحدا، جل عن الصاحبة والأولاد، والشركاء والأضداد. لا صاحبة له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انتهاء، ولا يحويه مكان، ليس بجسم فيمس، ولا بجوهر فيحس، لا يوصف بالسكون والحركات، ولا بالحلول والكيفيات، ولا تحتوي عليه الكميات، ولا المنافع ولا الضارات. ثم إنه (يعني عمراً) قرأ (إن كل من في السموات والأرض إلا أتى الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتاهم يوم القيامة فردا). فقال له الوزير: أصح عندكم معاشر العرب أن المسيح تكلم في المهد؟ قال: نعم. قالوا له: فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء. فقال عمروا: قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريح وصاحب الأخدود وغيرهم. فقالوا يا عربي، أتكلم نبيك بغير العربية؟ قال: لا، قال الله في كتابه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء). قالوا: أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم؟ قال: نعم. قالوا: من؟ قال صالح وشعيب ولوط وهود. قال: فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك: إن هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش، فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا. قال وغلام عمرو وردان يسمع ذلك. فقال الملك أنه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه إلينا. فقال وردان بلسان آخر ما قالوه، ففهم عمرو كلامه. ثم أن الملك قال: يا أخا العرب، ما الذي تريدون منا وما قصدنا أحد إلا ورجع بالخيبة؟ وإنا قد كتبنا إلى النوبة والبجاوة، وكأنكم بهم قد وصلوا إلينا. فقال عمرو: إننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وإن الله قد وعدنا النصر وأن يورثنا الأرض، ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. فقالوا: أننا لا نبرم أمراً إلا بمشورة الملك المقوقس، وقد دخل خلوته، ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في أصحابك من هو أقوى منك جناناً ولا أفصح منك لساناً. فقال عمرو: أنا ألكن لساناً ممن في أصحابي، ومنهم من لو تكلم لعلمت أني لا أقاس به. فقال الملك: هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك. فقال: إن أحب الملك آتيه بعشرة منهم يسمع خطابهم. فقال الملك: أرسل فاطلبهم. فقال عمرو: لا يأتون برسالة وإنما إن أراد الملك مضيت وأتيت بهم. فقال الملك لوزرائه: إذا حضروا قبضنا عليهم، والأحد عشر أحسن من الواحد. ووردان يفهم ذلك. ثم أن الملك قال لعمرو: امض ولا تبطئ علي. فوثب عمرو قائماً وركب جواده، فقال الملك بالقبطية، لأقتلنهم أجمعين. فلما خرج من مصر قال له وردان ما قاله الملك. فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون: والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون. فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله وردان فحمدوا الله على سلامته)
فواضح من هذا أن الواقدي متفق مع ابن عبد الحكم في مكان المفاوضة، ولكنه يختلف عنه في أحد طرفي المفاوضة؛ فبينما يقول ابن الحكم إنها كانت بين عمرو وصاحب الحصن المقوقس، يقول الواقدي إنها كانت بين عمرو وارسطوليس؛ وأرسطوليس هذا هو - فيما يحدثنا الواقدي (ص 25 - 30) ابن المقوقس، وقد قتل أباه لما أدركه من ميله إلى الإسلام ورغبته في أن يسلم ملكه للعرب، ثم قام مقامه والناس جميعاً يظنون أنه يقوم مقام أبيه أثناء غيبته تلك التي اعتاد أن يتغيبها طول شهر رمضان من كل سنة
ولا يرد ما يؤيد هذه الرواية في كتاب حنا النقيوسي
وإذا صح ما ترويه هذه الرواية العربية من وقوع مفاوضة في ذلك الوقت في حصن بابليون، فليس من شك في أنها كانت بين عمرو من ناحية، والمقوقس من ناحية ثانية كما يقول ابن الحكم، لا بين عمرو وأرسطوليس كما يزعم الواقدي. ونحن نرفض ما يقوله الواقدي لسببين جوهريين: الأول أننا لم نلتق بهذا الاسم (ارسطوليس) فيما قرأناه من سائر الكتب التي تتحدث عن وقائع الفتح. والثاني أن المقوقس توفي في 21 مارس 642 (بتلر ص 313) في حين أن الحصن سلم للعرب في 9 إبريل سنة 641 (بتلر ص 328)، فليس صحيحاً إذن أن المقوقس قتل قبل تسليم الحصن. ويخيل إلينا أن الواقدي قال بوقوع المفاوضة بين عمرو وأرسطوليس لا المقوقس، لأنه كان يعتقد في حب المقوقس للعرب، وإيمانه بدعوتهم، وتصديقه لرسولهم، صلوات الله عليه ونقده لما جاء به بولص (الواقدي ص 24 و27) فلا يكون من طبائع الأشياء إذن أن يحاول اغتيال عمرو قائد العرب، وإنما يلزم أن يكون غيره هو الذي دبر هذه المكيدة.
على أن الأستاذ بتلر يرفض هذه الرواية فيقول (تعليق 3 ص 223): (ولا تشك في تكذيب هذه الرواية ووصفها بأنها اختلاق ووهم، ونقول هنا إن هذه القصة نفسها قد ذكرها (ابن بطريق) عن غزة في فلسطين)
ونحن، اعتماداً على ما يلقيه الأستاذ بتلر على هذه الرواية من ظلال الشك، نرفض هذه الرواية كذلك أو نشك فيها على الأقل، وواضح جداً أن القصة التي تقصها إنما وضعت للتدليل على دهاء عمرو وسعة حيلته.
(للبحث بقية)
السيد يعقوب بكر