الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 480/في معبد الشاعر المصري

مجلة الرسالة/العدد 480/في معبد الشاعر المصري

مجلة الرسالة - العدد 480
في معبد الشاعر المصري
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 09 - 1942


للأستاذ إبراهيم صبري

مترجمة بقلم الأستاذ عثمان علي عسل

إبراهيم صبري شاعر موهوب من شعراء اللغة التركية، وهو يعيش في مصر في غربة متصلة أكثر من عشرين عاماً، يعيش في داخله لا أنيس له إلا شيطان شعره. شاعر يترنم أو ينوح لنفسه. شعلة تتوهج لا يراها إلا الظلام الدامس، يا للعجب!

ثم انتقل الشاعر إلى جو جديد من الشعر بين صحابة يعيشون في بلادهم في غربة كغربته. استمع الشاعر التركي إلى أنين الشعر العربي الذي تناثر في جو (المعبد)، وأصغى إلى الترنم الحزين الذي اشتركت في إيقاعه نفوس تحن في غربتها، وتلقف روح الآلام العربية فعانقها بشوق وصبابة

احترقت النفوس في نار الغربة المستعرة، وحول دخانها العطري طافت أشباح الصحابة: (الشاعر محمود حسن إسماعيل الذي تهدي إليه هذه القصيدة، ويحيى. . . وسعيد. . .، وعبد السلام. . .، وعبد الرحيم. .، والشاعر التركي إبراهيم صبري، ومحمود. . . وعثمان. . .). وفي معبد الغربة المحترقة أقيمت شعائر الألم المتوهج، والأحزان المنصرمة، وانبعثت روح العطر تتصاعد من نار غريبة متأججة، ومن هذا الجو المشتعل قبس الشاعر التركي لأشعاره ناراً خالدة أضاء بها زاوية من المعبد قد نامت فيها ساعة من الزمن فرت إليه من جنة الخلد.

(عثمان)

ذات يوم حوم الشيطان شعري في جو حياتي، وحدثني حديثاً من الشعر، قال:

(لقد اتخذت من أودية الحقيقة مسكناً وبقيت فيها إلى الآن، فليكن هدف جناحك الذي يسف بك إلى الأرض جواً جديداً متعالياً. ولا ريب أن السموات الحرة لا تشبه منفاك الضيق، فليرافقني يراعك محلقاً في سماء الخيال، ليطلع على المعنى الخفي في (ديوان) الفلك، فيكتب أشعاراً اسطورية

دع عنك هذه الأفكار التي صورت بها هذه الأرض البالية، وليكن لون أشعارك من لون الفجر والشفق، ولتكن أنغام نظمك من وزن نظام النجوم)

وإذا بقوة سحرية قد تسلطت على سمعي وخيالي فعرجت إلى السماء كأني في غيبوبة، واحترقت روحي بلهيب لا يرى، وتصاعدت كالبخار حتى انتهت إلى السحاب. وكانت نظرتي هي صلتي الأخيرة بالأرض التي احتجبت وراء الغيوم. لا أدري كم مكثت في الظلام حين وجدت نفسي في ساحة معبد التقيت فيه بشيطان شعري؟ وبدا لي أن هذا المكان الذي يسمى (المعبد) كأنه يحتوي على الدهر: قبته رأس شاعر عبقري شيد عرشه السامي في مملكة الخيال، وقد بسط سلطانه على دولة الشعر، اشتعلت نار العبقرية في رأسه كالبركان فتألق جو المعبد بأضواء هذه النار. وبعد لحظة ترددت في المعبد أنغام وألحان، وتقدمت لاستقبالنا حور أمسكن بأيديهن مجامر البخور، فانتقلنا إلى عالم خرافي يفوح بالعطر، وقد تربع الشاعر منزوياً بغير اكتراث في زاوية الصمت، وأمامه موقد النار قد وضع على حجر سحري. من نظر إلى هذه النار خيل إليه أنها صيغت من الشمس لأنها تتوهج بضياء كأنه احتوى على لآلاء النجوم. وكأن الشاعر قد أذاب العلوم وألقاها في سعيرها فتصاعد دخان براق يتمثل فيه الذكاء. أنشأ في الجو قوساً متموجاً تخال أمواجه مصقولة من لجين وعسجد، فاعتلى الشاعر هذا القوس وبيده لآيات شعره، بينما رقصت أشباح أبدعت في الرقص وغنت بألحان لا تسمع، كأن في حلقات الدخان معاني مبهمة أحاطت بالنفوس فأثارت فيها عاطفة سامية غير بشرية تكاد تشبه السكر، لو أن السكر يأتلف مع العبقرية. كان بريق النظرات وهاجاً بينما كانت الأجسام خامدة كأنها احترقت بطلسم، تاركة الروح وحدها.

رقص الشاعر مع شيعته كأنهم يتهادون في الفضاء، وأقام شعائر المعبد، ثم أطرق كأنه يسجد. ولو أقامها كاهن مجوسي لما أبدع كما أبدع، ولما اهتزت له أركان المعبد كما اهتزت للشاعر، وكأنما الشاعر يستمد إلهامه من الهند والصين، فهو ينشر في جوه من محرابه خيالات تتضوع بالعطر، فتسري في نظمه قوة سحرية تجعل قوافيه تتجلى في صورة بوذا

اجتمعت بالشاعر في ساحة المعبد، وتآلفت روحي مع أعماق سريرته. لمحت في يده يراعاً قد أمسكه بقوة سحرية شيطانية؛ هو يصور العالم بهذا اليراع. إن شاء استرسل في وصف العشق فأبكى القلوب الميتة كما بكى هو من الهجر والضنى، وإن شاء أودع الرياح أسراراً تحملها إلى سوالف حبيبته. إن البحار صورة حية للحرية، لكنها تبدو له أحياناً كأنها أسرى مقيدة بسلاسل أمواجها؛ وإنه ليستنشق النسيم فيتحول في صدره إلى زفرات تترنم بالأنين. لو شاهدت ألهامه لرأيت عالماً آخر. العالم بلا حبيبة هو - عنده - عالم لا وجود له! ومن هي حبيبته؟ وماهي. سر مجهول!! في عينيه ظلال لا تزول حتى في الظلام. نظراته غاسقة كأنها ممتلئة بألوان حسناء سمراء. وهو يرسل هذه النظرات إلى النيل فيخيل إلى غرامه غارق في لجه، فهو يبقى على ضفافه ساهراً ساهداً لعل الحباب يتحدث بغرامه؛ والدموع تنحدر من مقلتيه في محاذاته كأنها تسيل وراء شعر حسناته المسترسل في مجراه. . .! لقد اتخذ وادي النيل معبداً لعبقريته، كأنه أفق يشرف على حدود الدهر المطلقة، والقارئ أمامه كذرة لا يدري ما هو هذا العالم، ولا يدرك ما هي هذه الأفلاك؟

عثمان علي عسل