الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 480/الفن والحياة

مجلة الرسالة/العدد 480/الفن والحياة

بتاريخ: 14 - 09 - 1942


فهم الشيء رؤيتُه في موضعه الحقيقي بين سائر الأشياء. ولا يقف العلم عند الجزئي أو عند الفرد إلا لكي يكشف عن القوانين التي تربط ذلك الجزئي أو ذلك الفرد بباقي العالم. ولكن إذا نظرنا إلى الأشياء من الناحية الجمالية، فإن كل شيء يبدو لنا كأنه كلٌّ متميز تام ومحدد، ونحن لا نتمتع بصورته إلا لأنها تمثل لنا شيئاً متميزاً له خصائص تعريفية خاصة. ولما كنا نحن - وحدنا - عاجزين عن خلق مثل تلك العورة، فإن الفن يسارع لمساعدتنا.

وتنتمي العاطفة العقلية إلى طائفة العواطف الوجدانية مثلها في كل ذلك مثل العاطفية الجمالية ولكن العاطفة الجمالية تتجلى فيها المشاركة الوجدانية أكثر مما يتجلى في العاطفة العقلية، لأن هذه الأخيرة تحددها علاقة الأشياء فيما بينها أكثر مما تتحدد بعلاقة الشيء الجزئي نفسه بماهيته الخاصة. كذلك تنتج العاطفة الجمالية مما نبحث عنه لنوحد به بيننا وبين الأشياء حياتها وندخل عنصر المخيلة في حياتنا الخاصة. وهناك لذة جمالية تنتج من استخدامنا لأعضائنا استخداماً حراً، أي أنها ترجع إلى اللعب الذي نقلد فيه أعمالاً يباشرها الإنسان بحكم العادة من أجل غايات هامة وعملية. ويمكن أن نسمى كل فن لعباً ما دام يقدم لنا صورة ما، أعني إنتاجاً مثالياً للحياة الواقعية كلها أو أجزاء منها.

وتتخذ العاطفة الجمالية في نموها وانتشارها مظهراً خلقياً هاماً، فحين تسيطر على الإنسان تجعله ينسى نفسه أمام قيمة الأشياء، فلا يعود يفكر في نفسه ذلك النوع من ذلك النوع من التفكير الأناني المبتذل. ويتضمن الجمال الحقيقي قوة تجبرنا على تذكره وإرادة رؤيته الأشياء ثانية الجميلة، مثل من ينظر إلى الأعمال الفنية أو أعمال الطبيعة من وجهة النظر الجمالية، يحس ميلاً نزيهاً نحوها (أي غير أناني) وفي نفس الوقت تتيقظ فيه قوى الحدس والانتباه والإنتاج قوية متسقة ويضاف إلى ذلك عنصر مثالي آخر.

عرف أرسطو التراجيديا بأنها تقليد حدث عظيم يثير الشفقة والخوف في الإنسان ويظهرهما. وما يقال عن التراجيديا يمكن أن يقال عن كل ألوان الفن المختلفة. فاللعب (وكذلك الصورة) يثير نفس ما يثيره الأحداث الواقعية التي يمثلها من عواطف، ولكن بشكل آخر تستخفي فيه العناصر المؤلمة والأنانية في تلك الأحداث. والحوادث الواقعية تفاجئنا وتقع مباغتة، فلا نتمكن من كشف ما بينها من الارتباط والاتصال، ولذا يبد أنها تحدث بمقتضى الاتفاق والصدفة فقط، وهذا هو السبب في أنها تقدم لنا أشكالاً متعددة ومختلفة تثير عواطف متعددة ومختلفة. ولكن الأمر على عكس ذلك في الغد؛ فكل شيء هنا له غرض معين هو إثارة انفعال كلي واحد يتناسب مع خطوط الشيء أو الحدث الضرورية والتعريفية المميزة. ويستخرج الفن سماته الضرورية من صورة الشيء الفردية دون أن يذهب إليها، وبذلك نتخلص من التنافر ونستقبل تأثيراً واحداً معيناً، فيكون من السهل أن نندمج ونتوحد بعواطفنا في الشيء الممثل، وهذا هو سبب أن الإنتاج الفني يجعلنا نفهم الأشياء فهماً أحسن، وإن كان لا يقدم لنا طبعاً شرحاً علمياً. ولكن إذا كانت التراجيديا تثير الشفقة والخوف وتظهرهما، فإن الكوميديا تطهر عاطفة القوة والعاطفة الشخصية؛ وما تثيره من ضحك ليس في الحقيقة تهكماً أو استهزاء، ولكنه عاطفة تحرر وخلاص، تأتي من رؤيتنا الصغائر والدنايا والمتناقضات والشرور ظاهرة عارية ساخرة، على معرفتنا في نفس الوقت أنها جزء من الحياة

وقد بحث كثيرون في علاقة الجمال بالأخلاق، وإلى أي حد يتفق العمل الجمالي أو الظاهرة الجمالية مع مطالب الأخلاق، وتساءلوا هل الصور والنقوش المحسوسة وغيرها جائزة ومباحة ولا تتعارض مع الأخلاق أم لا؟ وفي الحقيقة ليس هناك محل لمثل هذا التساؤل؛ ففيما يختص بمادة العرض وشكله لا يوجد أي اختلاف أو تنافر بين ما يقتضيه الجمال في الواقع وما تسمح به الأخلاق، فكل ما له قيمة جمالية لا بد أن يكون متفقاً مع التعاليم الأخلاقية. وفي صلة الفن بالبيداجوجيا نجد أنه لا يمكن السماح بوضع كل قصيدة، ولا أي قصيدة، بين أيدي الأطفال فيتداولونها فيما بينهم. ولكن ذلك لا يتصل بالقيمة الجمالية ولا يحط منها، فإن الذي تهيج نزعاته الحسية أو الشهوية من اثر نقش مثلاً إنما يحدث له ذلك لأنه لم ينظر إليه من الناحية الجمالية فلم يتطهر ميله وهواه، بل جاء الأمر على العكس وهاجاً بشدة وذلك الشاب الذي يحدثنا عن لوسيان أنه أغلق على نفسه معبد أفروديت وقضى فيه ليلة يعتنق تمثالها، لم تدفعه إلى ذلك في الواقع العاطفة الجمالية بل شيء آخر

وعليه، إذا كان الفن يعني حياة مثالية، فإن القيمة الفنية يجب أن تطابق القيمة وتناسبها. وبالتالي قيمة العمل الفني لا ترتكز فقط على النبوغ أو العبقرية، بل على الحياة التي يمثلها كذلك. ويجب على الفنان القيمي أن يصارع في سبيل سيادة وجهة نظره نحو الأشياء حتى يقبلها الناس. ويرجع سيادة وجهه نحو الأشياء حتى يقبلها الناس. ويرجع جزء كبير من المعارضة ضد الواقعية الجمالية الحديثة إلى أن الناس يبحثون في الفن عن اللهو أو الراحة فقط، فهم لا يحبون أن يواجهوا مرارة الحياة وأحزانها، ولا يريدون أن يثيرهم الخوف والشفقة؛ قد اعتادوا على تذوق التراجيديا القديمة والإعجاب بما فيها من ضربات القدر القاسية، ولكنهم لا يمكنهم احتمال تراجيديا حديثة مثل تراجيديا (إبسن) مثلاً المسماة (أشباح). والواقعية الحديثة في الأعمال الكبرى لم تصنع شيئاً إلا أن جعلت النظر إلى الحياة الواقعية أعمق من ذي قبل. فالفن إذن يباشر عملاً تربوياً إذ يفتح ويقوي مشاعرنا وأنفسنا لمقابلة الحياة وجدَّها، ويهيج وجداناتنا ضد ما فيها من شرور، ويرينا كيف أن الحياة الإنسانية مغلولة ومسجونة في سجن سحيق بعيد. فالشاعر مثلاً يمكنه أن يعلمنا ويهيئنا لتقويم الأعمال أحسن من أي فلسفة خلقية

وبالرغم من عِظَم المكان الذي يشغله الفن في الحياة، فإنه لا يمكن أن يقوم مقامها. ولا يمكن أن ينظر الفنان الحق إلى الحياة الواقعية كشيء فني بسيط. فهو في فنه يبحث عن العمل أكثر مما يبحث عن التسلية، وينظر إلى فنه كعمل جِدَّي اجتماعي. وَمثل الفنان مَثَل العالمِ يرى الحياة فيحاول أن يريها للآخرين مثلما رآها هو. ولكن الهواة يرون الحياة لعباً حتى إن شيللر يقول: (إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا حين يلعب) فهو يرى أن العيش في دنيا الخيال واللعب هو عمل الإنسان الذاتي، ويجب أن يكون للإنسان قلب حر كيما يتخلص من ضغط الواقع وسيطرته ويذهب إلى الحياة المثالية والواقعية في الفن - مثلها في ذلك مثل الرومانتيكية تماماً - تجعلنا نعيش في عالم خيالي أغراباً عن الواقع. فالواقع حقيقة غارق بدوره في الخيال كالمثالي؛ وخطر ذلك أعظم على الواقعي منه على المثالي، لأن المثالي المعتدل يعيش في عالمين: عالم الأحلام المثالي، والعالم السفلي الوضيع، فهو يتهكم من هذا الأخير، ولكنه بالرغم من ذلك يعرف كيف يقبله ويراه على ما هو عليه، فلا يكون الاستهواء الجمالي عليه كبيراً مثلما هو عليه عند الواقعي الذي يريد إشباع مخيلته من المؤثرات الواقعية نفسها

وليس الفن عملاً صغيراً بسيطاً يختص به بعض الناس دون غيرهم، أو ينفرد به عصر دون غيره من العصور. بل الفن شيء عام لكل أمة ولكل عصر منه حظ مقسوم. فلا بد أن يكون لكل أمة فنها الخاص، ولا بد أن يكون لكل عصر فنه الذاتي. ومن العسير أن تكتفي أمة من الأمم بفن غيرها دون أن يكون لها فن خاص بها، لأن كل أمة لا تعرف تماماً إلا نفسها وما يمكن أن يؤثر فيها من مظاهر حياتها تأثيراً جمالياً. والفنان يعكس تلك المظاهر الجمالية انعكاساً كاملاً، لأنه يعيش فيها وقد أدمجت عواطف بها. وعلى العموم يمكن أن يُقال إن هناك أساساً مشتركاً من الفكر والحساسية لكل شعب وكل عصر يمثله فعل هوميروس، ودانتي، وشكسبير، وجوته، وغيرهم. إذ عرفونا تمام التعريف - خلال آثارهم وأعمالهم - بالحياة العقلية الإنسانية عند الأوربيين.

أحمد أبو زيد

كلية الآداب - جامعة فاروق الأول