مجلة الرسالة/العدد 48/لذة الشراء وآفة الملكية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 48 لذة الشراء وآفة الملكية [[مؤلف:|]] |
من ذكريات العراق ← |
بتاريخ: 04 - 06 - 1934 |
للأستاذ أحمد أمين
بالأمس ضحك مني بائع الكتب القديمة، إذ رآني أقلب في الكتب، وأذهب ذات اليمين وذات الشمال، وأقف على الكرسي وأنزل من عليه، والكتب بعضها بال عتيق قد غلف بالتراب وأكلته الأرضة، وكلها وضعت حيثما اتفق، لم يعن فيها بترتيب حسب الموضوع ولا حسب الحجم ولا حسب أي شيء، ولم يبذل أي جهد في تنظيفها وعرضها، فكتب في الأرض، وكتب في السماء، وكتب في الرف، وكتب على المقاعد، وكتب في الممشى، البائع رجل تقدمت به السن، زهد البيع وزهد الشراء، وإنما يبيع ويشتري لأنه اعتاد أن يبيع ويشتري، كل ما في أمره أنه فضل أن يجلس في الدكان على أن يجلس في البيت إذ يرى الرائحين والغادين، ويستقبل الزائرين، ومن حين إلى حين يبيع كتابا أو كتابين.
وسط هذه المكتبة المغمورة بالكتب، والمغمورة بالتراب، والمغمورة بالفوضى، انغمست ببذلتي البيضاء، القريبة العهد بالكواء، أبحث عن كتب نادرة أشتريها، وأتصفح كتبا أتعرف قيمتها، فضحك إذ رأى غراماً بالكتب يشبه الجنون، ورغبة في البحث والشراء تشبه الخبل.
لا تضحك - يا سيدي - فإنما هي لذة الشراء أصيب الناس بها جميعاً، وان اختلفوا في مقدار الإصابة، فقد تهور فيها قوم، واعتدل فيها آخرون، وهي ظاهرة في منتهى القوة والغرابة، تتجلى بأجلى مظاهرها في الهواة، فهذا هاوي سجاجيد يجن جنونه إذ يرى سجادة قديمة، صنعت في أصفهان القرن الخامس عشر أو السادس عشر، يحتقرها الرائي العادي، ولا يرضى أن يأخذها ولا بالمجان، ويشمئز أن يراها في بيته، فإذا الهاوي يجري ريقه ويتحلب فمه، كأنه جائع سغب أمام أكلة لذيذة، وقد لا يجد ثمنها فيستدينه، وقد ينقصه الضروري من وسائل العيش ومرافق الحياة فيعمى عنه، ولا يرى أمامه إلا السجادة وشراءها، ولتكن النتيجة بعد ما تكون، وسيتكفل الزمن بسداد الدين، وليحمل الزمن وحده عبء ما يحتاج إليه من ضرورات العيش، بل سواء حلها أم لم يحلها، فليس في الوجود ما يعدل هذه السجادة، فلأشترينها ثم لتنطبق السماء بعد على الأرض
وكذلك الشأن في هاوي طوابع البريد، وهاوي الكتب، وكل الهواة، نمت عندهم على الزمان لذة الشراء لما يهوون، وغذاها كثرة الشراء وأحاديث الهواة الذين يحيطون به وإظهارهم الإعجاب الشديد بما اقتني، فإذا نظروا إلى سجادة عجبوا من لونها الباهت، وخيطانها التي هلهلها الزمن، وصورها غير المنسجمة، ونحو ذلك مما يدل على إمعانها في القدم، وكلما كان خيطها أبلى، ونسيجها أبسط، كانت أشد استخراجاً للعجب، وكانوا أكثر لها تقويماً، وأشد لها إعظاماً، وكانت لذة الشراء عند الهواة أشد طغيانا، وهم أمامها أشد ضغفاً.
هذه اللذة - لذة الشراء - يستغلها أرباب (المزاد) فهم يثيرونها إلى أقصى حدودها، ويبلغون مبلغاً جنونياً، فتحتدم الذات، ويخضع الشارون لتأثير الاستهواء، ويتغالبون في أثمان ما يعرض حتى قد تفوق أثمان الشيء الجديد، ولكن الشيء الجديد يشترى والعقل الواعي في سلطانه، وأما أشياء (المزاد) فتشترى والعقل الواعي قد أسدل عليه ستار من الاستغواء والاستهواء، ومن أغرب ما في هذا النوع أنك ترى الكثيرين يندمون إذا اشتروا، ويندمون إذا لم يشتروا.
ولذة الشراء هي السبب في أنك تشتري لزوجتك وبناتك الثوب الجميل، أو الحذاء الظريف، فتعرضه عليهن فلا يعجبهن، ثم يخرجن ويشترين ما هو أقل من جمالا وظرفا ثم يعدن راضيات، قد يكون السبب أن ما اشتريته ليس على ذوقهن، وأن هناك فرقاً كبيراً بين ذوق الرجال وذوق النساء، وأنك إذ تشتري لهن تحكم ذوقك في ذوقهن، ولكن يظهر لي أن ذلك في كثير من الأحيان ليس السبب الصحيح، وإنما السبب الصحيح أنك إذ تشتري لهن تحرمهن لذة الشراء، وهي في نفسها قد تفوق الشيء المشترى نفسه، ويفسر هذا أن السيدة قد تخرج وليس في نفسها شيء معين تشتريه، ولا تحس حاجة إلى شيء يشترى، وإنما هي - في أعماق نفسها - تريد أن تغذي لذة الشراء عندها، فما هي إلا أن تمر في دكان سمعان أو شملا أو شيكوريل حتى تشتري، وتشتري كثيرا، وتشتري ما لم يخطر لها على بال، ثم ترجع راضية لأنها أشبعت لذة الشراء عندها.
ولو أن الناس - وخاصة السيدات - اقتصروا على شراء ما هم في حاجة إليه لأغلقت دكاكين كثيرة، ولقل العرض وقل الطلب - ولكن لذة الشراء عندهم دفعتهم أن يشتروا ما لم يحتاجوا، وأوهمتهم في كثير من الأحيان بالحاجة إلى ما ليس لهم به حاجة - وإلا فما حاجتي إلى شراء كل هذه الكتب والمكتبات العامة مفتحة الأبواب؟ وما الحاجة إلى سراء نسختين من كتاب واحد والتعلل في ذلك بأتفه الأسباب؟ وما الحاجة إلى ملء البيت بهذا الأثاث وأقل منه يكفي ويزيده حسنا؟ وما الحاجة إلى شراء المرأة هذه الثياب المختلفة الألوان والأنواع، وقد لا تحتاج إليها مرة في الحياة؟ - لا شيء إلا لذة الشراء.
ويحدث في هذا الباب غرائب. فما وقوفك على الدكاكين واستعرضك ما فيها إما فيها إلا نوع مما تدعو إليه هذه اللذة، فان اشتريت فيها، وإلا فهو نوع من ظل اللذة كالسكير يتلذذ قليلا في رؤية الشاربين ولو لم يشرب معهم، والمحب يسر بعض الشيء من رؤية المحبين يتواصلون ولو هجره هو حبيبه.
قد كان من المعقول والطبيعي أن الناس - وهم يتلذذون هذه اللذة الشديدة القوية بشراء - يتلذذون كذلك لذة شديدة قوية بالملكية ثم يستمرون على التنعم بها، والتمتع الدائم بملكها، ولكن جرى الأمر في هذا العالم على غير ما يتوقع، فهم راغبون أشد الرغبة في ملك الأشياء، والملكية تذهب بلذتها. فالناس مولعون أشد الولع بالملكية حتى لو استطاعوا أن يملكوا القمر في السماء لملكوه، ولو ملكوه لحرموا جماله، وهم مولعون أن يملكوا كل شيء إلى درجة الجنون، حتى لو استطاعوا أن يسلبوا السماء زرقتها، والمزارع بهجتها، والبحار جمالها ليجعلوها في حوزتهم لفعلوا - وقد أدرك مهرة الباعة هذا الجنون في الإنسان فتفننوا في عرض ما يبيعون بحسن الوضع وتزويق وإيهام الترخيص وكثرة الإعلان في شكل جذاب يوقع في الوهم أن الشراء فرصة لن تعود، وأن ملكية الشيء تملأ الحياة سعادة وغبطة - ولو أنك دخلت بيوت الأغنياء والطبقة الوسطى لرأيت كثيرا مما فيها لا حاجة للبيت إليه، بل قد حمل أكثر مما يطيق حتى ذهبت بساطته، وزاد تعقده، واحتاج إلى زيادة الخدم والاتباع للعناية بنظافته وترتيبه، وجعل الحياة أكثر تعقداً وأشد ارتباكاً، وما دعا إلى هذا كله إلا لذة الشراء وجنون الملكية، وما قصر الفقراء في هذا إلا أنهم لا يجدون ثمن ما يطلبون، ولو أتيح لهم ذلك لأفرطوا في الشراء إفراط الأغنياء، ولولا جنون الملكية لكانت الحياة أبسط، ووسائل العيش أيسر، والتنعم بها أتم.
وكأن الطبيعة العادلة أرادت أن تعاقب على هذا النوع من الجنون، فسلبت المالك أكثر ما يتصور من لذة، فالشيء جميل لذيذ ممتع، فيه كل ما يتمنى المرء من سعادة ما لم يملك، فإذا ملك لم يجد فيه المالك كل ما يتصور ويتخيل، وأصبح أقل قيمة مما يأمل، ولا تزال قيمته في نقصان حتى يصبح عادياً تافها كأنه والحرمان سواء.
فالقصر الجميل هو أجمل ما يكون في عين من يمر به ويقل جماله شيئاً فشيئاً في عين من له به علاقة ما، حتى إذا بلغت المالك وجدت القصر لا قيمة له في نظره، ووجدت شعوره به كشعور الفلاح نحو كوخه، والفقير نحو عشه، وكلما طال الزمن بالغني تفه القصر في نظره، وحرم حرماناً تاماً من لذة الملكية، وصارت لذته خيالا لمن يمر به ويتصور نعيم سكانه أو مالكه.
وهذه قاعدة الحياة، فأجمل أيام الزوجية قبيل أيام يتخيل المرء أو المرأة ما ينتظر من نعيم مقيم، وأيام يسبح خياله أو خيالها في الآمال والأماني التي لا حد لها، ثم تصدمه أو تصدمها الملكية أو شبه الملكية، فإذا كل شيء عادي مألوف.
وأجن بالكتاب قبيل شرائه وعند شرائه، وأبيت ليلة وأنا أحلم به ولا أسمح لنفسي بالنوم ليلة الشراء قبل تصفحه ومعرفة ما فيه أو على الأقل عناوينه، ثم يوضع في المكتبة وينسى وكأنه لم يملك.
والأملاك الواسعة والغنى الوافر أمل الناس جميعاً، ولو درسوا في دقة - أربابها وحالهم وشعورهم لوجدوا الفرق الواسع بين ما يتخيلون وما يدرسون، ولو وجدوا أن أكثر الأغنياء يعانون من غناهم ما لو عقلوا وخف عنهم جنون الملكية لنزلوا للمجتمع عن شيء مما يملكون ويعانون، فسعدوا وأسعدوا.
أليس عجيباً في هذه الحياة أن ألذ شيء في الملكية خيالها؟
أحمد أمين
-