مجلة الرسالة/العدد 48/العلوم
→ في الأدب الفرنسي | مجلة الرسالة - العدد 48 العلوم [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 04 - 06 - 1934 |
جاليليو
1564 - 1642
بقلم عبد الرحمن فهمي
بكالوريوس في الآداب
يمكننا أن نقول أن الكواكب في مسارها حفظت للجنس البشري عبقرية جاليليو. وجاليليو هو الابن البكر لأب فقير، بدأ تعلمه في دير بالقرب من فلورنسا، وبينما هو على وشك أن يكون راهباً رأى أبوه أن يرسله إلى جامعة بيزه ليتعلم فيها علوم الطب، مستعيناً على ذلك بموارد الأسرة الضيقة المحدودة.
وبينا كان الطالب الصغير يقضي بعض أوقات فراغه في العبادة بكاتدرائية بيزه، لاحظ أن المصباح الهائل المعلق في سقفها يتأرجح كما لو كان به مس من تيار شارد من الهواء، ولحظ أيضاً أن قوس التذبذب سواء أكبر هذا القوس أم صغر يكمل دورته في وقت بذاته، فاستخلص من ذلك قانون اضطراد (البندول).
وسنحت له الفرصة عن طريق المصادفة، فاستمع إلى محاضرة في العلوم الرياضية في بلاط الدوقية الكبير في بيزه، ومنذ هذه الساعة تعلقت نفسه بالأبحاث الرياضية فترك الجامعة ولم يستطع أبوه إرغامه على البقاء بها، وقضى سنوات مجدبة في درس العلم الجديد الذي اختاره لنفسه في حماسة فائقة، ولكنه استطاع فيما بعد أن ينال من الجامعة أجراً ضئيلاً على محاضرات في الرياضة يلقيها على طلابها.
وكان أجره من الجامعة قليلاً، ولكن تهيأت له فيها صفحة جديدة لمستقبل مجيد من أعلى برجها المائل، وتفصيل ذلك أن أحداً لم يكن ليفكر حينئذ في زعزعة عقيدة راسخة في الأذهان هي أن سرعة الأجسام الثقيلة ترجع في هبوطها إلى أوزانها، فقذيفة المدفع مثلاً تهبط أسرع مما لو هبطت ريشة. ولكن جاليليو نسب سرعة الهبوط إلى مقاومة الهواء، ودلل على صحة ذلك بأن ألقى عدة أجسام معدنية وخشبية من حجم واحد من أعلى قمة برج بيزه، وأرى العلماء أن هذه الأجسام تصل إلى الأرض في أوقات متقاربة جداً، وبرهن بذلك على أنه لم يكن لأوزانها تأثير مذكور في سرعة هبوطها، فقضى على اعتقادات قديمة وخلق لنفسه أعداء كثيرين. ثم بدأ يتفهم طبيعة الجاذبية التي بقيت راسخة في عقله ولكنها لم تخرج من حيز هذا العقل.
وترك بيزه إلى فلورنسا لما طردته الجامعة، وفي هذا الوقت مات أبوه، واضطره الدهر إلى أن يعول باقي أفراد أسرته. ولكنه فيما بعد استطاع أن يوجد له كرسياً في جامعة بادوه، ومن هذا الكرسي واصل بحوثه ونظرياته العلمية ثمانية عشر عاماً بين استحسان إيطاليا وإعجاب أوروبا كلها، فأضحى بذلك أحد المفكرين الخالدين.
ولم يكن جاليليو ليستفيد من بعد نظره وقوة إدراكه فقط، بل استفاد أيضاً من أبحاث غيره واكتشافاته، ويعد اختراع (التلسكوب) وهو المثل الأعلى بين كافة أبحاثه واختراعاته، ففي حوالي هذا الوقت اخترع جوان ليبرشي من هولاندا بعض العدسات، وما إن سمع بهذا الاختراع حتى استولى عليه، وأوجد من هذه العدسات أول مجهر فلكي، وبه حول أبحاثه وفحوصه إلى الفضاء حيث كشف جديداً غير معروف، وقضى على معتقدات قديمة: كشف سطح القمر الجبلي، وأثبت طبيعة إضاءته بالانعكاس الضوئي، ومحا خرافة المجرة ودلل على أنها مجموعات من الكواكب، كذلك كشف أقمار زحل وأوجه الزهرة، واستعان بكل هذه الاكتشافات على تخليد الحق في تاريخ الفلك، وهو كل ما كان يعنى به من أبحاثه الطويلة، فأخذ عالم الخرافات المظلم في هذا الحين يستنير بضوء هذا الحق.
وكان جاليلو خلفاً لكوبرنيق الذي أثبت أن الأرض والكواكب تدور حول الشمس، وليست الشمس والكواكب هي التي تدور حول الأرض كما اعتقد ارسططاليس، بل أن كبلر وهو من معاصري جاليليو أوغل في هذا البحث، فدرس طبيعة مدار الكواكب. وبينما كان جاليليو يدري هذه الحقائق الفلكية كان باقي العالم ولا سيما الكنيسة ينكرها بتاتاً.
ولم تحرك الكنيسة ساكناً في بادئ الأمر، زعماً منها أن العاصفة التي نفخها جاليليو لا تلبث أن تهدأ، ولكن بحوث الفلكي وطريقة عرضها نبهت الأذهان إلى مناقضتها، لما جاء في الكتاب المقدس، وقويت الشبهة ضده بتأثير جيوردانو برنو، وهو زنديق ثائر على المسيحية، مفكر حر، بالرغم من إن جاليليو أعلن أنه ينكر على جيوردانو أن يقول عن بحوثه العلمية أنها تبرهن على تخبط الدين المسيحي، وحاول أن يظهر للعالم أن اكتشافاته العلمية لم تعارض يوماً ما التعاليم الدينية المقدسة، إلا أن ذلك لم يفده، بل استدعته روما إليها ليدافع عن نفسه ويبرر هرطقته. ولكن كان له في البلاط البابوي أصدقاء ومريدون من علماء غير متعصبين، فسمعوا لنقاشه، ثم سمحوا له بالعودة إلى فلورنسا. وعاد وهو يعتقد أن من حقه أن يتابع بحوثه دون إذاعتها. وكانت مهادنة بين الجانبين بعد عودته إلى فلورنسا ظل فيها سبعة أعوام ساكنا راكنا إلى قريحته العلمية الوقادة.
إلا أنه لم يكن من طبعه وجبلته أن يبقى ساكناً إلى الأبد، فطبع مطبوعات مختلفة مطولة ضمنها محاوراته ومناظراته في نظام الأرض، وعندئذ استدعي إلى روما مرة أخرى، ولكن ليقابل في هذه المرة بابا عابساً حانقا على رجل متمرد ناكر للجميل، ولم تقبل منه شفاعة، بل اضطر تحت تأثير آلات التعذيب إلى أن ينقض أفكاره، ثم حكمت المحكمة عليه بالسجن، إلا أن هذا الحكم لم ينفذ، وإنما استبدلوا به يكفر عن خطيئته بتلاوة أدعية التوبة، وهي من سبعة أبواب في الزبور مرة في كل أسبوع. وتتصل بهذا العبث الرسمي من جانب الكنيسة فكاهة طريفة وهي أن جاليليو في كل مرة عندما كان ينهض من ركوعه بعد تلاوته الأدعية وقسمه اليمين بنقض معتقداته في الفلك، كان يقول بصوت خافت (ولكن الأرض ما زالت تدور).
كانت هذه الكلمات تقال بصوت يكاد لا يكون مسموعاً ولكن فكر العالم بدأ يلتهب بهذه الشرارة، وكان جاليليو رمزاً لتوسيع حدود العالم برغم محاولات الصلف والتحكم لتضييق محيطه ولا يزال الكون دائراً على رغم عرقلة المعرقلين من رجال الدين والمتعصبين ضد دورانه.
فهل يعد خضوع جاليليو للكنيسة جبناً منه؟ إن لكل بطل ساعة جبن في حياته، وقد تقلب الزمن من عهد هذا الفلكي العظيم حتى اليوم، فرأينا الآن الجمعية الإيطالية الملكية تطبع على النفقة العامة كل مؤلفاته في واحد وعشرين مجلداُ، شاملة وثائق محاكمته ومضابطها، وكان جد راغب في تجنب التصادم مع تعاليم الكنيسة، فأذعن لحقها في تعليم كافة الناس الإيمان بالدين، وبلغ من ذلك أنه كان يؤمن في الظاهر بكل ما كانت تطلب إليه أن يؤمن به، وباعد بقدر استطاعته بين العلم والدين علماُ منه بما يجب أن يكون بينهما من مسافة سحيقة، وجعل آراء كل منهما منفصلة عن الأخرى.
ولكن لم كل هذا، وغيره من الناس لم يكن ليفعل ذلك لو كان مكانه؟ ولا سيما أن الكنيسة طلبت إليه أن يقارعها بالحجة وقد كان من الطبيعي أن ينتصر عليها لو أنه قبل ذلك، لأنه على حق فيما يقول، ولأن تعاليمها متناقضة لا يصح أن يقبل عالم مثله أن تذاع على الناس فيقبلوها كأنها حقائق ثابتة غير قابلة للبحث والتمحيص. ولكنه لم يبغ قتالاً مع الكنيسة، بل سار معها موافقاً على كل ما طابت إليه، مكتفياً بالبقاء على عقيدته في نفسه واجداً فيها فضولياً متحرشاً واصفاً إياها (بأن واجبها هو تعليم الناس كيف يسيرون إلى عالم السموات، لا كيف يسير العالم السماوي).
وبذلك استطاع أن يجد في بعض الأحيان تعضيداً من سلطة الكنيسة، لولا المتعصبون الذين كانوا يضغطون عليه ويضطهدونه بين آونة وأخرى، لما وقفت الكنيسة قط في وجهه، بل كثيراً ما حماه الباباوات والكرادلة ودرأوا عنه السوء، عنه السوء، بل كان يعلم بعضهم أنه على حق في بحوثه العلمية، وكثيراً ما لمحوا إليه بالهروب من أعدائه في الوقت المناسب.
وقد بعثت الكنيسة إليه يوماً بالكردينال بللارد ليوبخه ويحذره، ولكنه بدلاً من أن يفعل ذلك أرشده إلى طريق التعبير عن نظرياته، فكتب إليه (لا تقل إن الأرض تدور حول الشمس بل قل لنفرض أنها تدور حول الشمس، لأن من الخطر عليك أن تقول بأنها تدور، ولكنه من المأمون قولك بفرض دورانها) وبذلك ظل جاليليو يفرض قي الظاهر وهو مؤمن بالحقيقة في الباطن مؤكداً أن للحق الغلبة في النهاية.
وقد ولد أسحق نيوتن في 8 يناير سنة 1642، وهو اليوم الذي توفي فيه جاليليو، وبذلك بدأ فصل جديد من حيث انتهى آخر. ولم تؤيد نظرية الأرض وموقعها من المجموعة الشمسية ودورتها فقط، بل أصبحت العقول تدرك جيداً حركات الكواكب وقانونها أيضاً.
وقد أصيب بالعمى في أواخر حياته، إلا أنه وهو أعمى كشف عن أقمار زحل، وبحث ودرس البقع الشمسية مستعيناً على ذلك بتلاميذه بدل عينيه. وهو بشير لنيوتن وطليعة له، وإذا كان نيوتن هو الذي وضع قوانين الحركة وأثبت بالدقة الرياضية قانون الجاذبية بين الكون المرئي والقاعدة المضبوطة لحركاته، فإن جاليليو هو الذي مهد إلى ذلك وقاد نيوتن إلى الحقيقة الخالدة.
ولم يستطع إي بلاط بابوي في هذا الوقت تقييد أفكاره الطامحة، وأبحاثه العلمية، بل اكتفى بإرساله أخيراً من روما إلى دير سينا، وهو دير تطل جدرانه على سهول توسكاني، اعتكف فيه أشهراً قلائل، ثم سمح له بالعودة إلى فلورنسا حيث قضى الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته في عزلة تامة امتثالاً لأمر روما، إلا أنها عزلة لم تعرف قط السكون بل كان جاليليو فيها يغلي بأبحاثه كالمرجل.
وقد لحقه الأسى وحلت به عاهته في كبره، وكان أعمى عندما زاره جون ملتون في إركتري عام 1638، وقد واصل رسالته العلمية وهو بعاهته فاخترع وأملى اختراعاته. وانتابته حمى بسيطة وهو يملي ملحوظاته على تلميذين من حواريه، فأسدلت حياته الطويلة ستاراً كثيفاً أبدياً، ولكن برغم ذلك بقي للعالم من هذه الحياة بحث خالد في الأرض وعقل إنساني جبار.
عبد الرحمن فهمي