مجلة الرسالة/العدد 48/أعيان القرن الرابع عشر
→ بين المعري ودانتي | مجلة الرسالة - العدد 48 أعيان القرن الرابع عشر [[مؤلف:|]] |
يقظة الشرق ← |
بتاريخ: 04 - 06 - 1934 |
للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور
سلطان باشا
هو محمد باشا بن سلطان بن أحمد، من قرية بالصعيد تسمى زاوية الأموات، بالجانب الشرقي من النيل، تجاه منية ابن الخصيب. ولد بها في سنة 1240 أو إحدى وأربعين. ورباه أبوه فسلمه لمعلم للقرآن بالقرية علمه القراءة والكتابة، وحفظه ما تيسر من القرآن الشريف. ولما بلغ أشده تركه أبوه ينظر في أمور القرية المذكورة، إلى أن نقل حسن باشا الشريعي من نظارة قسم قلوصنا، في ولاية محمد سعيد باشا على مصر، فسأله الوالي عمن يقيمه بدله على القسم المذكور فذكر له المترجم، وأثنى عليه، وضمن كفايته، فأقيم ناظراً لهذا القسم مدة ثلاث سنوات. ثم جعله سعيد باشا وكيلاً لمديرية بني سويف، وبعد سنتين جعله مديراً لها، فبقي فيها إلى أن توفي سعيد باشا، وتولى ابن أخيه إسماعيل باشا، فنقل المترجم مديراً للغربية فمكث بها نحو سنة، ثم أمر بنقله مديراً لأسيوط فأقام بها نحو سنتين، ثم جعله وكيلا لإدارة تفتيش الوجه القبلي ثم أحال عليه النظر في ضياعه التي بالصعيد المسماة بالجفالك، ثم جعله مفتشاً على مديريات الوجه القبلي، وانحرف عنه في أثناء ذلك عكوش باشا، وشاهين باشا، وعظمت الوحشة بينه وبينهما فوجد حاسدوه فرصة للإيقاع به، نظراً لمكانة الرجلين عند الخديو فسعوا به عنده، ووشوا له بأمور عنه كان يكرهها.
صداقته لتوفيق باشا
فغضب عليه وأمر بسفره إلى السودان رئيساً لمجلس الخرطوم وهو في الحقيقة نفي على جاري عادة ولاة مصر، إذا غضبوا على أحد نفوه إلى السودان في صورة تنصيبه بأحد المناصب. فصدع المترجم بالأمر وسافر، ولكنه لما وصل بني سويف وصله أمر الخديو بالرجوع بسبب تداخل ولي العهد محمد توفيق باشا وسعيه بالشفاعة له لدى والده لأنه كان يحبه. فرجع من الطريق وقصد قريته زاوية الأموات فمكث بها عدة شهور، ثم أذن له بالإقامة في القاهرة فأقام بها في داره المعروفة بجهة الإسماعيلية مدة إلى أن جعله الخديو إسماعيل باشا مديراً للفيوم، ولكنه عاد فألغى هذا الأمر قبل سفره. وبعد نحو سنة رجع بأمر الخديو المذكور إلى بعض المناصب التي كان بها بالوجه القبلي. وخلع الخديو وتولى بعده محمد توفيق باشا، وقامت الثورة العرابية وطالب العرابيون الخديو بإعادة مجلس النواب، وكان أهمل شأنه بعد توليته فأجابهم لذلك وألف مجلس النواب، فجعل المترجم رئيساً له لما يعلمه من إخلاصه ومحبته له؛ ثم وقعت بينه وبين العرابيين وأمراء الجند منازعات وخلاف في بعض الأمور ظهر لهم منها ميله للخديو فأبغضوه ونووا له السوء.
عرابي يهدده بالقتل
وقام عليه مرة عرابي وبعض الضباط في داره، فهددوه بالقتل، وجردوا سيوفهم في وجهه، وكاد يقع في أيديهم، لولا أنهم تراجعوا عنه من تلقاء أنسهم، واشتد قلقه بعد هذه الحادثة ورأى حياته معهم على خطر، فاحتاط لنفسه، وصار إذا جلس بداره وضع بجانبه مسدساً محشواً ليدافع به عن نفسه إذا فوجئ، ولم يغن تهديهم له شيئاً، ولم يجد في تحويله عن الخديو، بل استمر علة إخلاصه، والقيام بمساعدته، والأخذ بناصره. ثم اشتدت الفتنة، وسافر الخديو إلى الإسكندرية، فصحبه المترجم ملازماً خدمته، واستدعاه هناك درويش باشا مندوب السلطان في شعبان سنة 1299، وأنبأه بإنعام السلطان عليه برتبة رومللي بيكلريكي، وأعطاه تقليدها بيده.
مع الإنجليز
ثم قامت الحرب على ساق، بين الإنكليز والعرابيين، فندبه الخديو لمساعدة الإنكليز، وإرشادهم إلى الطرق، فبذل ما في وسعه وكاتب بعض مشايخ العرب والعمد، ومن لهم شأن، يمنيهم بالخلع والرتب والأوسمة، على أن يبذلوا الطاعة للخديو والإنكليز وينبذوا طاعة العرابيين، فنجح في مسعاه ووافقه الكثيرون، فانضموا للخديو وشيعته سراً، ووقع الفشل في زمرة العرابيين، وانهزمت جموعهم، واستولى الإنكليز على مصر ودخلوا القاهرة يوم الخميس مستهل ذي القعدة سنة 1299، فأرسله الخديو إليها نائباً عنه، وأطلق يده في التصرف في الأعمال، فوصلها في 2 ذي القعدة ليلاً من الطريق بور سعيد، واستبد بالأمور أربعة أيام حتى حضر النظار إليها، وباشروا أعمالهم. وقد تاه المترجم وتجبر في هذه الأيام الأربعة، وأمر بالقبض على كثيرين ممن كان له بغية في القبض عليهم وإذلالهم، ومنهم حسين باشا الشريعي، فإنه أوغر صدر الخديو عليه، وأشار بسجنه، ونسي له سابق فضله عليه، وذلك لخلف وقع بينهما إبان قيام الفتنة.
بعد الثورة العرابية
ولما حضر الخديو من الإسكندرية عقب إطفاء الثورة وذهب الناس لتهنئته بقصر الجزيرة يوم الثلاثاء 13 ذي القعدة المذكور أثنى أمامهم على المترجم ثناء كثيراً وقال هذا هو الرجل الذي أخلص لنا في السر والعلانية، وأنعم عليه بالوسام المجيدي الأول، وأمر بإحضاره فوضعه على صدره بيده أمامهم، ثم سعى له عند النظار للإنعام عليه بعشرة آلاف دينار مصري مكافأة على خدمته ومسعاه، فأعطيت له من ديوان المالية. وكافأه الإنجليز بوسام (سان جورج، وسان ميشيل) من الدرجة الأولى لمساعدته لجندهم إبان الحرب، وذهب به السير مالت قنصلهم الكبير إلى داره وسلمه له يوم الثلاثاء 17 محرم سنة 1300هـ، وقال له إن من شروط هذا الوسام أن تضعه مولاتنا الملكة بيدها على صدر من تنعم عليه به، وقد أتيت إليكم نائباً عنها في وضعه على صدركم جزاء إخلاصكم وولائكم لجلالتها ولحضرة الخديو. ثم في جمادى الأولى من هذه السنة أنعموا عليه أيضاً بالميدالية الإنجليزية المضروبة بخصوص الحرب العرابية.
وبقي المترجم بعد ذلك في داره بالقاهرة بلا عمل، ملقباً بلقب رئيس مجلس النواب، ثم انتدب للإشراف على شواطئ النيل وجروفه بالوجه القبلي لما زاد في الفيضان، فصدع بالأمر على كره منه، ورأى ذلك حطاً من مقامه، واستقل العشرة الآلاف والوسامين على ما قام به للخديو والإنكليز، وانعكست آماله التي كانت ترمي إلى تنصيبه في منصب كبير، وفترت نفسه، وكثرت همومه، وانحرف عن الإنكليز، وطفق يذمهم بعد أن كان لهجاً بمدحهم والثناء عليهم في كل مجلس يجلسه، واعتزل الناس فجعل إقامته بالصعيد، ولما ذهب اللورد دوفرين إلى تلك الجهة زاره المترجم فلم يلق منه ما كان يؤمله من حسن المقابلة، وسأله في عرض حديثه عن حضور أخوي الخديو حسين باشا وحسن باشا من أوربة، فقال له نعم حضرا، فقال ولم حضرا، فأعرض عنه اللورد ولم يجبه، ونقل حديثه مع غيره، فقام المترجم من المجلس كاظماً غيظه، وزاد في ذمه في الإنكليز، وأثرت هذه الأحوال فيه فاعتلت صحته.
رئاسة مجلس الشورى
ثم صدر الأمر العالي يوم الأربعاء 21 محرم سنة 1301 بجعله رئيساً لمجلس شورى القوانين الذي ألف حينذاك، بدلاً من مجلس النواب، حسب إشارة اللورد دوفرين في تقريره عن مصر، فتولى هذا المنصب وهو عليل، ثم ازدادت علته، فأشار عليه الأطباء بالسفر إلى أوربة للمعالجة، حيث لم تفده معالجة أطباء مصر، فسافر إلى بلاد النمسة، ونزل بنزل في مدينة غراتس، فوافاه أجله هناك يوم الاثنين 26 شوال سنة 1301.
وفاته
ونعي إلى الخديو في ذلك اليوم بالبرق، نعاه له قليني باشا فهمي فأسف عليه أسفاً شديداً وجزع، وأمر بنقل جثته إلى القطر المصري لتدفن فيه، وأقام له مأتماً من الخاصة الخديوية، وناط بمحافظة القاهرة القيام به بالنيابة عنه. ووصلت جثة المترجم إلى الإسكندرية يوم الأربعاء 6 ذي القعدة من السنة المذكورة فأمر الخديو بتشيعها تشييعاً كبيراً بالإسكندرية، فسارت في طليعة الجنازة كتيبة من فرسان الشرطة، ثم كتيبة من الجند الرجالة منكسي الأسلحة، يتلوهم قراء الأحزاب والبردة، ثم جميع كبار الموظفين بالإسكندرية، فتلاميذ المدارس، فجم غفير من الأعيان حتى أوصلوا النعش إلى السكة الحديد، فجعلوه في قطار مخصوص سافر به من هناك إلى منية ابن الخصيب، ونقل منها إلى الشاطئ الشرقي حيث دفن بمقبرة بلده. وخلف المترجم ثروة واسعة، وولداً واحداً عمره نحو سنتين، وثلاث بنات. وقد رثاه الشيخ علي الليثي بقصيدة.
أدبه
وكان للمترجم إلمام بالأدب وقرض الشعر، اشتهر عنه نظم النوع المسمى بالصعيد بالواو، وأخبرني من أثق بقوله أنه اطلع على قصيدة له في مدح حسن باشا الشريعي رحمهما الله.
وحدثني صديقنا على رفاعة باشا، ابن رفاعة بك الشهير قال: كانت بيني وبين المترجم وحشة ازدادت لما جعلت وكيلاً للمعارف إبان الثورة العرابية، ثم عزلت من هذا المنصب بعيد الثورة، وقصدت السفر إلى بلدتي طهطا، فلقيته بالقطار، فلما وقعت عينه على عيني نظر إلي نظرت الشامت ثم قال: إيه يا علي بك، لقد أجاد الشاعر في قوله:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
فقلت نعم أجاد، وأجود منه قول الآخر:
أني لأرفع حين أرفعها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا